0
نشر في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 23/12/2015م، ص: 18
                                                         عزيز العصا
تتزامن في هذا العام ذكرى مولد رسول الله "محمد" صلى الله عليه وسلم، مع ذكرى مولد المسيح "عيسى بن مريم" عليه السلام. ولا شك في أن الاحتفال في ذكرى المولد النبوي الشريف، أو ذكرى مولد المسيح"، ليست عبادة بأي حال من الأحوال، فحاشى لله أن نعبد يومًا أو ساعة أو سنة، وإنما علمنا الإسلام الحنيف أن العبادة لله وحده لا شريك له، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم، رسول قد خلت من قبله الرسل ، مصداقًا لقوله تعالى: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ" (آل عمران: 144)، كما أن نبي الله "عيسى" عليه السلام رسول قد خلت من قبله الرسل، مصداقًا لقوله تعالى: "مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ" (المائدة: 75). أي أنهما جاءا لتشتيت ظلمة الواقع الذي كانت تعيشه البشرية، ليعم على يديهما العدل ويسود الحق، وليخزى الظالمون.
أما بشأن المولد النبوي الشريف، فإن عظم رسالة الربوبية والوحدانية لله وحده، لا شريك له، والعدل والمحبة والتسامح التي جاء بها نبي الله "محمد" صلى الله عليه وسلم، بالمقارنة مع الواقع الذي كانت تعيشه البشرية في حينه، من ظلم وجور واستباحة حرمات وسيطرة قوى الشر... الخ، جعل منها معجزة ربّانية، علينا في كل وقت وحين أن نتوقف عندها بالقراءة والتحليل والفهم لكي نبث في نفوس الأجيال روح الإيمان الحق بدين الإسلام الحنيف، الذي جاء به "محمد" صلى الله عليه وسلم للناس كافة، حيث قال فيه سبحانه وتعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" (التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9).
نظرًا لأن الحديث يطول عن الظروف المحيطة بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولضيق المجال، فإنه من المهم التذكير بأن "محمدًا" صلى الله عليه وسلم ولد في العام (570م)، لحظة "الحضيض" الذي كانت تمر به المنطقة، ليس على مستوى الجزيرة العربية وحسب، وإنما على مستوى العالم أجمع، ، من حيث الانهيار والتشتت والتضارب والتناحر، كالحروب الطاحنة بين الفرس والروم. وليست على مستوى علاقات الأمم والأديان بين بعضها البعض وحسب، وإنما داخل الأمة الواحدة، وداخل نفس الديانة ونفس الجماعة، وما تشهده من انشقاقات واقتتال. كما أنه لا بد من ذكر أنه قد ولد، صلى الله عليه وسلم، في أجواء سيطرة الحبشة على اليمن والحجاز[1].
ومن الإشارات المبكرة على نبوة "محمد" صلى الله عليه وسلم، ما جاء في دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، التي ورد فيها قول الراهب بحيرا في "محمد" وهو ابن عشر سنين:  ارجع بابن أخيك إلى بلدك، واحذر عليه اليهود، فو الله إن رأوه، أو عرفوا منه الذي أعرف ليبلغنه عنتًا؛ فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم نجده في كتبنا، وما ورثنا من آبائنا، وقد أخذ علينا مواثيق[2]، وما يروى عن "ورقة بن نوفل" النصراني الذي كان ينبئ بنبوة "محمد"، إلا أنه توفي قبل أن يشهد الدعوة المحمدية.
كما جاءت الرسالة المحمدية، سواء على مستوى التنزيل القرآني، أو ما يقوله و/أو ما يفعله "محمد" (ص)، رسالة الإسلام للبشرية جمعاء؛ باعتبارها مكملة للرسالات السابقة، ومرتبطة بنبي الله إبراهيم عليه السلام، الذي يقول فيه سبحانه: "قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (آل عمران: 95).
انتشرت رسالة "محمد" صلى الله عليه وسلم، وهي رسالة الإسلام، موجهة للأمم والشعوب والجماعات والتجمعات كافة، وذلك لطبيعتها الأممية التي لا تستثني قومًا أو جغرافية أو دينًا. فاندثرت المسيحية تقريبًا كليًا في الجزيرة العربية، وضعفت في بلاد الشام والعراق؛ فأصبح جل سكان تلك المناطق من المسلمين. وانتشرت الدولة الإسلامية حتى وصلت في أقصى حدود مساحتها إلى (12) مليون كيلو متر مربع، ليعيش سكان تلك المناطق وقاطنيها في ظلال عدل الإسلام وتشجيعه للعلم وإعمال العقل في شتى أمور الحياة.
وهذا يعني أن ذكرى المولد النبوي لـ "نور الهدى" صلى الله عليه وسلم، هي محطة لكل منا؛ لكي نستخلص منها العبر الإيمانية التي تبث الأمل في نفوسنا، وتعمق فينا الإيمان برسالته صلى الله عليه وسلم، التي توجه بها لبني البشر قاطبة لإخراجهم من ظلمات الجهل والتخلف والتضارب والتناحر، لأتفه الأسباب، إلى نور الإيمان بالله وحده المستند إلى العلم والمعرفة والتفكر في خلق السماوات والأرض.
كما أنه، وفي ذات السياق، لا بد لنا، مسلمين ومسيحيين، ونحن نستذكر ميلاد المسيح عليه السلام، أن نتذكر أن القرآن والإنجيل الصحيح؛ الذي لم تطله يد التحريف، هما كتابان سماويان يتحالفان معا لإنارة الطريق للبشرية في مواجهة التزوير والتحريف الذي يصيب المكان والتاريخ على أرض فلسطين، مسرى "محمد" صلى الله عليه وسلم وقيامة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام. وعلينا، جميعًا، أن نستذكر دومًا ما ورد أعلاه على لسان الراهب "بحيرة"؛ لكي لا نقع في شرك الخديعة والتضليل الذي يعم فلسطيننا هذه الأيام.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 19/12/2015م



[1] للمزيد من المعلومات حول ذلك، بخاصة "عام الفيل"، انظر الموقع الالكتروني لام ألف: http://www.lamalef.net/ak/02/fil.htm
[2] انظر الموقع الالكتروني: إسلام.ويب، الفتوى رقم (249691)، وفق الرابط (امكن الحصول عليه في 01/10/2015م):

إرسال تعليق Blogger

 
Top