نشر في صحيفة القدس
المقدسية، بتاريخ: 25/12/2015م، ص: 16
عزيز العصا
سمير الجندي؛ فلسطيني-مقدسي،
من قرية دير ياسين الفلسطينية المحتلة في العام
1948، التي تعرض أهلها لأسوأ وأبشع مذبحة
عرفها التاريخ المعاصر، على أيدي قادة الحركة الصهيونية الذين أصبحوا قادة الدولة
العبرية فيما بعد. تجرّعت أسرته مرارة النكبة، فاحتضنتها القدس، وآوتها،
ووفرت لها الدفء من أنفاسها الحارة، وهي تحتضن أبناءها وتذود عنهم في مواجهة
المغتصبين من كل الأجناس والألوان.
وأما
العمل الأدبي الذي نحن بصدده للمقدسي "سمير الجندي" فهو روايته
"فانتازيا" في طبعتها الأولى، الصادرة عن دار الجندي للنشر
والتوزيع في العام 2016، وهي تبدأ بغلاف يحمل لوحة للفنان العراقي "فاخر
محمد"، ويحمل غلافها الأخير "وجع الكاتب من الانتظار المتعاقب، ويفتت
نفسه البعد عن أميرة الهوى". وما بين الغلافين نص، يُقدّم له الناقد العراقي
"خضير الزيدي"، ويتوزع على (155) صفحة من القطع المتوسط، يحتضن (12)
محطة لقطار سردي جاء بنمط مختلف عمن سواه من النصوص الروائية؛ فبقدر ما هو متعلق
بالمحبوبة-القدس المكبلة، التي تعاني فحيح الأفاعي وتنهشها الكلاب المسعورة، فإنه
يصب جام غضبه على المتخاذلين والمتقاعسين، ويعلن براءته التامة، من كل من لا يقبض
على قدسه كالقابض على الجمر.
منذ اللحظة الأولى لاستلامي رواية صديقي "سمير الجندي"
هذه، أخذت أدور في فلك العنوان، لعلي أتنبّأ بالدلالات التي يشير إليها. وعندما
توقفت، بشئ من التعمق، وجدت أن "الفانتازيا"
جنس أدبي يعتمد الأساطير، والخوراق وما وراء الطبيعة أساسًا في الحبكة الروائية،
وأن الأحداث تدور في فضاءات وهمية، أو في كواكب يسود فيها السحر وقوى الآلهة وأنصاف
الآلهة. وعند مقارنتها مع كل من الخيال العلمي والرعب، نجدها تمتاز عنهما بخلوّها
من العلم ولموت النهائي، علمًا بأن الأجناس الأدبية الثلاثة متفرعة من الخيال
التأملي[1].
كما أن مراجعة بحثية سريعة،
تفضي إلى أن هناك أعمالًا كثيرة لكتاب وفنانين، وسينمائيين، وموسيقيين، من
الأساطير القديمة وحتى تاريخه، ذات الشعبية الواسعة لدى الجمهور، لما فيها من جاذبية قوية؛ بسبب قدرتها على أخذ المشاهدين في رحلة
جميلة في فضاء الخيال، في أجواء من التشويق والإثارة القائمين على الغموض. ومن
أبرز ما يمكن الإشارة إليه في هذا المجال "حكايات ألف ليلة وليلة".
تقوم
رواية "فانتازيا"، قيد النقاش، على نص يتراوح بين الخيال الفانتازي، وما
فيه من ظلمة وانعزال وانعزالية، وبين الواقع الملموس على المستوى الزمكاني الذي
تدور أحداثه في القدس وبغداد وتونس والقاهرة وعمّان.
يطل علينا "سمير الجندي"، منذ بدايات روايته، وهو يحتار بين غوصه في الحلم، أو خروجه من
حلم لم يعش فيه أصلًا، ليبحث عنه في الأزقة وفي الصور وفي العقول الهرمة، أو بين
المطارات (ص: 11-12)،
ومما بقوله: "أحمل في ذاتي أملًا بالعيش وحدي مع نفسي، في بقعة منعزلة من
العالم، في ركن قصيّ؛ فأنا في غربة اجتماعية مع قريتي" (ص: 9، 29)، ثم
"يختفي عالمه في حلم شرّير" (ص: 11).
لقد حقق "الجندي"
حالة من التزاوج بين الخيال الذي جعله يتحرر من قيود النص والرتابة والتراتبية
التي تفرض على الكاتب، في أغلب الأحيان، القيافة التي تحمل في طياتها شيئًا من
الضلالة والتستر على عيوب المجتمع وآفاته. وصمم شخصيات روايته، من الراوي-البطل،
وهو الكاتب نفسه، والمحبوبة-المدينة أو المدينة-المحبوبة، التي مارس معها
"فانتازيا"، منحته حرية التعامل معها ومحاورتها وتلقي الرسائل المختلفة
منها، وأسند ذلك بشخصيات ثانوية "هشة" تم توظيفها في خدمة النص في مواضع
مختلفة، دون أن تبقى على طول الخيط الروائي.
أما بشأن معمار الرواية، فإنها تتكئ على بنية مكانية تنطلق من القدس، وتمتد
حتى تصل بغداد تونس والقاهرة وعمان، وأما البنية الزمانية فأخالها تعالج ما يدور
في زماننا الحالي، من خلال التكنولوجيا المعاصرة التي يستخدمها في التواصل مع
محبوبته، عبر "الرسائل النصية على جهازه النّقّال"، ومن خلال وصفه
للثورات التي شهدتها بعض العواصم العربية بعد العام 2011.
حول بنائية الرواية، فإنني أتفق مع ما يقوله الناقد "الزيدي"، في
أن ما يهمنا فيها: قيمها المعرفية، واختلافها من خلال تحديد بلاغتها ورصدها لحقل
السرديات، والمستوى الجمالي، وصياغة لها القدرة على تضمين أحداث تتداخل فيها
الغيبيات والشكوك والواقعية في تواشح غريب علينا. وأرى ضرورة التوقف عند الأبعاد
المعرفية والمعلوماتية التي أراد "سمير
الجندي" تمريرها بين ثنايا روايته هذه، وهي كثيرة ومتعددة، منها:
أولًا: سمات المجتمع:
لم يختر بطل رواية "فانتازيا" الانزواء
مع كتبه والتواصل مع محبوبته، إلا بعد أن اكتشف أن "مجتمعنا يكاد يخلو من
القيم الإنسانية التي تكوّن ذائقة أي مجتمع على هذه الأرض"، ثم يسترسل في وصف
الرجال الذين يسيرون بلا هدف، ويحيون كالبهائم، والنساء بائسات متهتكات لا أحلام
لهن ولا خيال (ص: 10)،
وفي ذلك تعميم سوداوي لرجل مقدسي يجب ان يتسلح بالأمل في مواجهة التحديات، وأن إدراك
الواقع التعيس لا يعني الهروب ولا يباركه، لكنه لو برر العزلة برغبة في التصالح مع
الذات أو ترتيب الأفكار أو غير ذلك لكان أجمل بكثير.
ثانيًا: أشكال الاحتلال وأثره على المجتمع:
أشار "سمير الجندي"
إلى الاحتلال بأشكال مختلفة، منها، تؤكد بشاعته، وتبين دوره في إيذاء الشعب
الفلسطيني، منها:
1) "الصياد الغريب" القادم من وراء البحر، الذي
صار هو "الرجل الوحيد في قريتنا، يصيد وحده، ويزرع الأرض ويحصدها، ويزرع
وحده، وذكور قريتنا استمرأوا الكسل وطابت لهم المهانة" (ص: 32).
2) ثعبان استيقظ من سُباته الشتوي، بعد أن بّدّل جلده، وحضن
بيضه، وبلسانه داعب كل شئ حتى خرج خروجًا آمنًا (ص: 35-36).
3) الاحتلال يشبه البعوض، فالبعوض يقتل الملايين ويُغير على
قلب الإنسان أو جزءًا من نظامه، لينقل له أمراض خطيرة تؤدي إلى هلاكه، والاحتلال
يقوم بهذا الدور في القدس وفي فلسطين جميعها (ص: 50).
4) في إشارة إلى تململ التاريخ والحضارة
في القدس من وطأة الاحتلال وصلفه، وفي وصفه لما يحدثه من صخب وجلبة وأذى يمتد إلى
أعماق القدس، بل أعماق أعماقها، يشير إلى أن "الكلاب تنبح طيلة الليل، والشيخ
الهندي لا يعرف النوم" (ص:
54).
ونرى في ذلك تعزيز لحالة الخنوع والاستسلام للقادم من
خلف البحار، دون مواجهته والحد من أثره. كما أن الشيخ الهندي اكتفى بالانزعاج من
نباح الكلاب دون أن يوجه الأجيال إلى كيفية مواجهة هذا النباح والتخلص منه.
ثالثًا: وصف جميل للقدس:
لقد ابتدع "سمير الجندي"
في روايته هذه طريقة للتجول في القدس، وهو يصف آثارها ومكوناتها الحضارية،
وحاراتها وأبوابها وأزقتها ومؤسساتها التربوية، ومقاهيها التاريخية وأفرانها
وصناعاتها الحرفية الجميلة، وسورها الجميل، وأناسها الطيبين؛ رجالًا ونساءً. إلا
أنه لم ينس تذكير القارئ بأن هذا كله يخضح لاحتلال بغيض، فها هي القدس تظهر فتاة
جميلة تشكو من وحش "يأسرها ويطبق على أنفاسها" (ص: 45). ثم يتساءل: أين هو الفارس الذي
سيأتي على صهوة موجة؟ (ص:
59)، وفي ذلك تكرار للسؤال التقليدي الذي يتكرر من أكثر من سبعين عامًا.
رابعًا: يصف عواصم الأمة:
بعد تلك الرسالة القادمة من القدس-المحبوبة التي تصف واقع الأمة بعد تآمر
العالم عليها، يقوم البطل بجولة في عواصم الأمة، متمثلة في: بغداد، وتونس والقاهرة
وعمّان. فيصف جماليات تلك العواصم، وما تزخر به من حضارة وعمران، وحركة دؤوبة من
قاطنيها البسطاء الطيبين، وأسواقها، وأنهارها وبحارها التي تحتضنها كما تحتضن الأم
وليدها، وما في ملامحها من بؤس وأحزان. وكان في كل مرّة يبحث عن حبيبته في تلك
العواصم، فلم يجدها.
كما سجّل ما وجده من تعاطف مع فلسطين وأهلها، بخاصة الحروب التي شنها
الاحتلال على غزة، وما خلفته من مآسٍ على أبناء هناك (ص: 118)، ولعل ذروة التعاطف تتمثل في إيمان
العرب بأن "الصهيوني قاتل بامتياز" (ص: 120)، في حين أن هناك من يدعو إلى اعتبار وجود
الاحتلال أمر طبيعي في المنطقة. وفي وداعه لتونس يقول: "أنا وأنت ننحدر من نص
واحد منسي (...) غدًا أجمل أيامنا، وربما اليوم، وبالتأكيد ليس الأمس" (ص: 125). ويتوقف، مليًّا،
عند التشابه بين القاهرة والقدس؛ الأبنية تتشابه، والوجوه تتشابه، والأدعية هي هي (ص: 131). ثم يشير إلى
الثورة المصرية على نظام "حسني مبارك"، ثم تبدُّل الأنظمة بأحزاب لم تطبق
ما ترفعه من شعارات (ص:
136-139).
بإشارة من المحبوبة-القدس، يتجه إلى عمان، بصحبة ماجد؛ إبن يافا، فيبحران
في البحر الأحمر، في رحلة مع الثيران، حيث "الطريق إلى عمان وعرة
المسالك" (ص: 146)،
ويصف الصناعة في عمان، التي يديرها الهنود والبنغاليين، كمن يربي غيمة حتى تكبر
وتتسع، ولكنها تمطر في أرض أخرى (ص: 147). تختتم الرحلة ببقاء "ماجد" في عمّان بعيدا عن
يافا، ويعود البطل إلى قريته المتهالكة، لكي يلتقي محبوبته-القدس في القدس ولا
مكان غير القدس.
خلال رحلته تلك، يتلقى العديد من الرسائل "الفانتازية" التي
تبثها المحبوبة التي يتابعه طيفها كظله، منها: لو لم تكن حبيبي، فماذا تود أن
تكون؟ فيقول لها: "أكون فيلًا! (ص: 82)، و"الناس
لا يموتون.. نعم.. لا يموتون، ولكن يتحوّل شكلهم إلى صور أخرى تعرفها الحجارة
والمآذن، والوجدان النقي المتحفّز للشهادة" (ص: 91-92).
خلاصة القول:
هذه هي رواية "فانتازيا" التي تزواجت فيها الحقيقة مع الخيال،
لتنجبا بنية روائية ذات أبعاد معرفية صيغت بمنهجية سرد جميلة. فكانت رسائل
المحبوبة-القدس، ذات الجوهر الفلسفي الذي تم في توظيف ما يجري على أرضها من جور
ومن ظلم صارخ، يشيعه كيان طفيلي قدم من خلف البحار، فصادر الصنارة والتهم أسماك
البحر، واستولى على المعول والمحراث، فصار الزارع الوحيد، ونهب الأرض فصار الوحيد
الذي يسكنها ويبني عليها ويعلي البنيان، ويحرم الأصلاني من كل خيرات البلد التي
ورثها عن الآباء والأجداد، ويلقي به في مهاوي اليأس والإحباط.
أما بشأن العنوان والمحتوى، فنجد
أن "سمير الجندي" أثار موضوعًا في غاية الأهمية في حياة القارئ،
بل في حياة الفرد العادي، وهو "الفانتازيا" وما لها من ضرورة في حياة
الشعوب. فقد أثبت
العلماء، مؤخرًا، أن حوالى (2.5%) من البشر لا يملكون أي تصور أو
خيال، حتى انه ليس باستطاعتهم تصور شكل الناس الآخرين والأشياء الأخرى. إذ بينت
نتائج بحثية أنه عند الطلب منهم تصور وجه الأم أو أي شيء ساطع، كانت مناطق الدماغ
المسؤولة عن ذلك خاملة ولم تبد النشاط المطلوب، وقد
أعزوه إلى أساس
فيسيولوجي عصبي، وقد يكون ناجمًا عن عاهة ولادية أو مكتسبة. لذلك الدراسات اللاحقة
في هذا المجال ستلقي الضوء على هذه المشكلة وهل سيكون بالإمكان علاجها أم لا[2].
فلسطين، بيت لحم،
العبيدية، 25/11/2015م
إرسال تعليق Blogger Facebook