0

نشر في مجلة قضايا إسرائيلية، العدد (60)، ص ص: 117-123

https://docs.google.com/viewer?url=http%3A%2F%2Fwww.madarcenter.org%2Ffiles%2F542%2F_60%2F799%2F_-_.pdf%3Ftoken%3D1ab96384c6a05ca937b25bf7551f49ca&embedded=true
عزيز العصا
صدر  في شهر أيار من العام (2015) عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" ترجمة لكتاب بعنوان: "بطاقة ملكيّة: تاريخ من النهب والصون والاستيلاء في المكتبة الوطنية الإسرائيلية". والكتاب هو، في الأصل، رسالة دكتوراة في قسم الأدب العبري في جامعة "بن غوريون"  للباحث "غيش عميت"، ترجمه إلى العربية "علاء حليحل"، ويقع في "222" صفحة من القطع المتوسط.
باستثناء تقديم المترجم، يتألف الكتاب من ثلاثة فصول مسبوقة بمدخل معمق بحجم (23) صفحة، يضع فيه المؤلف الخلاصة المركزة لما يقوم عليه الكتاب من استراتيجيات، في وصفه لما جرى بشأن المكتبة الوطنية، التي أنشئت من ثلاثة روافد رئيسية جعلت منها ما يمكنني تسميته "وهمًا" ثقافيًا ومعرفيًا للدولة الناشئة. كما خصص مساحة جيدة للحديث عن المكتبات الوطنية والملكيات الثقافية والكولونيالية، وعرّج على البروتوكولات والاتفاقيات الدولية، كاتفاقية لاهاي-1954، واليونسكو-1970، ذات الصلة بالملكيات الثقافية تحت الاحتلال، باعتبارها خاص بالبشرية جمعاء.  
يشير "عميت" إلى أن كتابه هذا يتطرق إلى ثلاثة أحداث وقعت بين جدران المكتبة الوطنية-الصهيونية في القدس بين الأعوام 1945-1955، وهي: 1) مشروع "كنوز المنفى"، الذي جُلِب في إطاره بعد الحرب العالمية الثانية، مئات آلاف الكتب التابعة لليهود والتي نهبها النازيون. 2) (جمع!) (30,000) كتاب كانت بملكية فلسطينيين إبّان (النكبة) في العام 1948. 3) جمع كتب ومخطوطات ليهود اليمن من اليمن هاجروا إلى "إسرائيل" في نهايات سنوات الأربعينيات ومطلع الخمسينيات (من القرن العشرين) (ص: 11).
يشير الكتاب إلى قضايا شائكة في تاريخ المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة وتاريخ أكاديميّيها وباحثيها المؤسّسين، منذ تأسيسها في العام 1925م (ص: 10)، كما يتموقع في لبّ هذا الكتاب العلاقة التبادليّة المركبة بين مصطلحات: النهب، والمصادرة، والتجميع والإنقاذ (ص: 15).

بنظرة متفحصة، وقراءة متأنية للكتاب تجده يتضمن "قراءة في أوراق نهب المكتبات الفلسطينية في وحيفا وباقي المدن والقرى الفلسطينية إبّان النكبة، مشفوعاً بوثائق وشهادات واعترافات صريحة. ومن الجميل في هذا الجانب، أن الكتاب يورد العديد من التفاصيل التي توضح استراتيجيات النهب والسلب والسرقة والبيع والهَرْس والطّحن، وآليات الإخفاء والتزوير، وإظهار ذلك كله كعمل أطلق عليه "الرأفة والإنقاذ"؛ وفق مجموعة من الأكاذيب والمغالطات الواردة، فيما عبّرت عنها الموسوعة اليهودية"، بالقول: "إبان حرب الاستقلال، دبّر بيت الكتب عملية واسعة لإنقاذ الكتب من التلف، في الأحياء العربية المهجورة"! (ص: 10). أي أن قتل الشعب الفلسطيني وتشريده هو "حرب استقلال"، ونهب الكتب هو "إنقاذ من التلف"، والأحياء العربية "مهجورة" وليس أهلها يتوزعون بين "قتيل وطريد وشريد"!
لأن الحديث عن الكتب يعني الحديث الموسوعي عن الحياة وشئونها وشجونها، فإن هذا الكتاب يتناول العديد من القضايا والمفاهيم الفكرية والعقائدية والسياسية. إلا أنه ولضرورات التثقيف والتوعية حول النكبة التي ابتلي بها شعبنا، بأشكالها ومستوياتها المختلفة، يجب التركيز على ما يتعلق بما سنطلق عليه "النكبة الثقافية" للشعب الفلسطيني، ذات الصلة بالكتاب الفلسطيني المنهوب والمسروق والمزور والمهروس، وفق ما ورد في هذا الكتاب، الذي يعتبر مؤلفه باحث "يهودي" (صهيوني أو غير صهيوني)، يبدو عليه أنه اكتوى بنيران "دولته" التي قامت على الظلم والطغيان.
الشعب الفلسطيني: من الأمية الواسعة إلى التعلق بالكتاب
يقر "عميت" أنه في النصف الأول من القرن العشرين شهدت فلسطين يقظة ثقافية ساعدت على نشر الكتب والصحف بين أوساط عامة الناس؛ عندما انتقل الشعب الفلسطيني، وبشكل متسارع، من الأميّة واسعة الانتشار إلى التعلق بالكلمة المكتوبة، ويعزي ذلك إلى الأسباب التالية[1]:
1)    الإمبرياليّة الغربيّة, التي كشفت النخب في محافظات الإمبراطوريّة العثمانيّة- في مصر ولبنان أولا ومن ثمّ في فلسطين- على مختلف الأفكار والآليّات.
2)    التهديد الصهيونيّ, الذي أنشأ حاجة قويّة جداً للمعلومات المكتوبة.
3)    بعد الحرب العالميّة الأولى فُتحت في فلسطين حوانيت كتب ونشطت إلى جانبها مكتبات وحوانيت للاستعارة وغرف قراءة عامّة.
كما يشير "عميت" إلى أن المجتمع المقدسي كان من المجتمعات العربية المزدهرة في الشرق الأوسط، وأما غربي القدس، الذي احتل قبيل النكبة، في أحياء، مثل: القطمون[2]، والطالبية[3]، والمصرارة واليوناني، فكان يضم نحو (28,000) نسمة، وقد تفرّق في كل حدب وصوب، ولم يبق منه سوى (200) عربي تم تجميعهم في حيّ البقعة (ص: 89-90)
النكبة الثقافية: هي بتر اليقظة الثقافية التي تتجلى في الكتب
يؤكد "عميت" أن النهضة الثقافية للشعب الفلسطيني، الموصوفة أعلاه قد بُترت وتوقفت مع الهزّات التي خلفتها النكبة في العام 1948، إذ نجم عنها:
1)    فقدان مجموعات كتب خاصّة وعامّة.
2)    ضياع القصص مع ذهاب الناس الذين حملوها في ذاكرتهم.
لقد كانت عمليات النهب والسرقة والسطو، أثناء الحرب وبعدها، واسعة الانتشار بشكل ملحوظ. وقد تحدّث بن غوريون عن ذلك بشكل صريح في إحدى جلسات الحكومة، وفي 21/06/1948 وصف أحدهم الوضع في صحيفة "عال همشمار": قضية النهب والسرقة لم تهدأ في القدس (ص: 91-92)، وفي خضم تلك الأحداث، جرى رسم خط فاصل؛ بتجريم النهب الخاص، و"شرعنة!" النهب الذي ينتهي إلى المخازن العامة، واعتباره شرعي وأخلاقي (ص: 93)! وهناك عمليات "مصادرة" جرت وفق شكليْن متكامليْن: استخدام قوة الذراع من جهة، والاستناد إلى القوانين من جهة أخرى (ص: 95).
أما الخسائر الفلسطينية، بالأرقام، الناجمة عن النكبة، ووفق ما ورد في هذا الكتاب، فهي كما يأتي (ص: 93-95):
-       440 قرية تم هجرها بالكامل.
-       2,5 مليون من الأراضي الزراعية (منها: 150,000 دونم زيتون، 90,000 دونم بيارات، 20,000 دونم كروم عنب، ألاف الدونمات من أشجار الفواكه المختلفة، والباقي مزروع بالمحاصيل المختلفة).
-       تم عمليات المصادرة والنهب، الكتب والتحف الأثرية أيضًا، وكل أصناف الهواة أو رجال الأعمال استولوا عل الأثريات، والمكتبة الوطنية استولت على الكتب، والجيش استولى على المواد الغذائية... وهكذا.
-       مجمل قيمة الخسائر: قدرها وزير الخارجية "موشيه شرتوك" بما قيمته مليار دولار.
وأما بشأن النكبة الثقافية، المتعلقة بالكتب الفلسطينية، فقد غاص "عميت" في تفاصيلها، على مدى 25% من كتابه. وسوف نقوم، فيما يأتي، برصد ما جاء في هذا الكتاب من بيانات وبيّنات حول هذا الموضوع النكبة الثقافية، بناءً على معطيات ووثائق عديدة، منها:
§        بين أيّار 1948 ونهاية شباط 1949, جمع عمّال المكتبة الوطنيّة نحو 30,000 كتاب وصحيفة ومخطوطة خلّفها من ورائهم فلسطينيّون من سكان القدس الغربيّة (ص: 87)[4], غالبيتها بالعربية، من مختلف المواضيع الفكرية والعلمية، وبعضها بالإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية. وجُمعت أيضاً آلاف الكتب التي كانت تابعة لمؤسسات تربوية وكنائس (ص: 98). ففي 26 تموز 1948, كتب أحدهم بأنه قد جمع حتى اليوم نحو 12,000 كتاب وتزيد. قسم كبير من مكتبات الأدباء والمثقفين العرب موجود الآن في مكان آمن. وهناك بضعة أكياس من المخطوطات التي لم تتضح قيمتها بعد, موجودة بحيازتنا أيضًا (ص: 97).
§        في أواخر العام 1948، وعندما اشترط الحاكم العسكري توفير سجلّات للكتب، تبين أن هناك كتب قد اختفت، كما أن ممثل الفاتيكان في القدس تشكّى من اختفاء (36) مجلدًا للموسوعة الإيطالية من ممثلية الفاتيكان في جبل صهيون، بعد احتلالها (ص: 99).
§        الكتب التي جمعت في أحياء غرب القدس العربية، جُلبت إلى منزل سكنيّ جنوب جمعية الشبان المسيحيين، وهو عبارة عن فرع لبيت الكتب القومي والجامعي، أقيم فور انتهاء الحرب وأغلق عام 1960، واحتوى في العام 1956 نحو (15,000) كتاب، وهناك من يقول بأنها أعيرت للمكتبة الوطنية إعارة دائمة (ص: 107). ووفقا لشهادة أحدهم، فإن كتب الفلسطينيين جُلبت بداية إلى المكتبة التابعة لقسم اللغة العربية في تراسنطا، الذي نقلت إليه الجامعة غالبيّة فعالياتها ونشاطاتها بعد نيسان/1948 (ص: 107).
§        نُظّمت لجنة من طرف الجامعة العبرية، التي تتبع الجيش وتجمع الكتب من داخل البيوت، علمًا بأنه نشأ حالة من التنافس بين المؤسسات العامة المختلفة، التي تسعى للفوز بالصفقة الجيدة المتعلقة بالوصاية على شؤون المكتبات والكتب العامة والخاصة المتروكة (ص: 97)، ثم اتخذت عمليات التجميع هيئة رسمية ومخططة، وحظيت بدعم علنيّ وماليّ من الجامعة العبرية (ص: 98).
§         جمع عمال الوصيّ على أملاك الغائبين، في عام 1948 والأعوام التي تلته, نحو 40,000 كتاب من مدن يافا وحيفا وطبرية والناصرة وأماكن سكنيّة أخرى. كانت غالبيتها كتب تدريسيّة جُمعت من مؤسّسات تربويّة، ومن مدارس عربيّة أثناء حرب 1948, وحُفظت في مخازن أقيمت لهذا الغرض في حيفا ويافا والناصرة والقدس (ص: 87، 121). ورُكِّزت الكتب التي جمعت في يافا في المكتبة التي أقيمت خصيصًا لهذا الغرض (ص: 96).
§        الكثير من تلك الكتب بيعت مجدّداً للمدارس العربية وللأفراد والمؤسسات وجنت حكومة الاحتلال خلال الفترة 1949-1954 ما قيمته (17,360) ليرة (تعادل 210,000 شيكل حاليًا) (ص: 123), ونحو 100 منها نقلت عام 1954 إلى قسم علوم الشرق[5] في المكتبة الوطنيّة (ص: 87)، ففي العام 1930 كان هذا القسم يضم (30,000) كتاب بالعربية، وفي العام 1950 أصبح يضم (36,000) كتاب، والفرق قادم من الكتب التي (نُهِبَت) من الفلسطينيين إبّان النكبة (ص: 104).
صور من النكبة الثقافية: الكتب بين أكياس القمح.. والأرضيات الرطبة.. والسرقة.. والبيع.. والهرس
ورد في كتاب "عميت" هذا مجموعة من المظاهر والصور التي تتجلى فيها النكبة الثقافية، ولعل أقلّها ما يقول به "عميت" من أن "الكتب الفلسطينية أضحت نصبًا تذكاريًا غريبًا تتضمن حفظًا وهدمًا، وخرابًا وإنقاذًا" (ص: 109)، وورد في تقرير المكتبة الوطنية في آذار/ 1949 وصف تلك الكتب بأنها "ممتلكات روحانية هائلة، لن ندرك قيمتها الكاملة إلا بعد ترتيب وتسجيل كلّ المواد (ص: 111) . ونظرًا لتعدد تلك المظاهر والصور والتجليات التي تصف "النكبة الثقافية الخاصة بالكتب"، فإننا سنكتفي بذكر ما أمكننا التقاطه من بين ثنايا هذا الكتاب "شبه الموسوعي":
أولًا: على مستوى المحو الثقافي
تدعي الجامعة العبرية، التي ظل نظام الإعارة مستمرًا فيها أثناء الحرب، أنها تجندت هي والمكتبة الوطنية للحفاظ على الكتب، من خلال جمع الكتب ورعايتها وحمايتها من أذرع الجيش والمؤسسات الحكومية. إلا أن عملية الجمع هذه استندت على ما يلي:
-       إبعاد الفلسطينيين عن حدود المجموع القومي، الذي جرى تعريفه بكونه يهوديًا حصريًا(ص: 101).
-       تعامل الصهيونية مع نفسها باعتبارها وكيلة ثقافية، من مهامّها الأخلاقية بث بشارة التنوير لضواحي أوروبا البائسة عند أطراف الشرق الأوسط (ص: 101). وهناك من ادّعى بأن المكتبة الوطنية أخرجت الكتب من حيازة العاجزين عن فكّ رموزها، ونقلتها إلى الذين يتقنون جني الفائدة منها، لصالح العلم والبشرية (ص: 103). ويرى "إدوارد سعيد" أن "جمع كتب الفلسطينيين" جعل الصهاينة يميلون إلى إنكار وجود الفلسطينيين كأصلانيين.
-       معتقدات مركز -أوروبيّة واستشراقيّة: فقد نُظر إلى الفلسطينيين على أنهم أنتجوا ممتلكات ثقافيّة لم يكونوا قادرين بأنفسهم على فهم وإدراك قيمتها وأهميتها بشكل حقيقيّ. كما أنّه لم تجرِ طوال تلك السنين، منذ الاستيلاء على تلك الممتلكات، أيّ محاولة لإعادة كتب الفلسطينيّين إلى أصحابها أو ورثتها الحقيقيّين. ولا يفوتنا الإشارة إلى أنه يتم التعامل مع تلك الكتب على أنها لم تكن بقايا من الماضي بل جزء من نسيج الحياة الراهن (ص: 187).
ويشير "عميت" إلى أن المكتبة الوطنية لم تستوعب كل الكتب التي جُمعت أثناء الحرب؛ فهناك نحو (40,000) كتاب حُفظت في المخازن التي أقامتها وزارة المعارف، وفي أواخر الخمسينيات مُزِّق وأبيد أكثر من نصفها (ص: 118).
ومن مظاهر المحو الثقافي أيضًا، أن هناك من المصنّفين من شاهد إهداءات أصحاب الكتب وأسمائهم (ص: 107). وبعد أن تم تصنيف الكتب وفق أسماء مالكيها[6]، إلا أنه في سنوات الستينيات أزيلت عن الكتب العربية أسماء المالكين[7]، لتستبدل بعبارة "الأملاك المهجورة Abandoned Property"، واختصارها بالحرفين (AP) (ص: 108)، أما الكتب المطبوعة باللغات الأجنبية فاندمجت ضمن المكتبة من دون أي أثر (ص: 109)، كما أن هناك نحو (500) مخطوطة فلسطينية جُمعت في الحرب ولا تظهر في الفهرس المحوسب (ص: 110).
بذلك؛ تم "بتر" العلاقة بين الكتاب وصاحبه، ويشير فهرس المكتبة الوطنية إلى أن هناك (5,787) كتابًا تحمل شارة (AP)[8] (ص: 109). كما أنه عند استقرار وضع الدولة الفتية، وُضع منهاج خاص يهدف إلى جعل مواقف الفلسطينيين أكثر إيجابيًا من الدولة، وكانت كتب التدريس الفلسطينية تتكدس في مخازن وزارة المعارف  (ص: 120-121).
في نيسان/ 1957، عُقدت جلسة خاصة للقضاء على الكتب العربية؛ لأسباب كلفة الاحتفاظ بها، ولأسباب أمنية خشية مناهضة الدولة، فتقرر بيع مجموعة من الكتب كنفايات ورقية، تشمل: (23,000) كتاب في تل أبيب و(3,311) كتابًا في حيفا، على أن يتم طحنها بشكل معلن للجميع، لضمان عدم خروج الكتب إلى السوق (ص: 128-129). وفي السنوات التالية تم تحرير قوائم بعناوين الكتب اللازم إتلافها، على ورق مروّس بشعار "دولة إسرائيل"، والقوائم بعنوان: قائمة بضائع غير صالحة للاستعمال"، منها: قصص عن نساء فانيات، كتاب الكشّاف الفلسطيني، ثلاثة أبطال مشهورين في التاريخ العربي... الخ (ص: 129)
ثانيًا: على مستوى التعامل مع الكتب المنهوبة
بيّن "عميت"، بالاستناد إلى ما توفر لديه من وثائق، ما جرى بحق "الكتب الفلسطينية المنكوبة" خلال الفترة بين السنوات (1945-1955)، بما يشير إلى مدى الإهمال وعدم التقدير من جانب، والسرقة والنهب والاستحواذ ومحو صاحب الكتاب الأصلاني من جانب آخر. وسوف نورد فيما يأتي أمثلة تم اقتباسها من هذا الكتاب: 
1)    ورد في تقرير المكتبة الوطنية في آذار/ 1949: كانت بداية جمع الكتب في نهاية أيار واستمرت حتى اليوم"، وأدت العملية إلى إحضار بضع عشرات الآلاف من الكتب ومئات المخطوطات إلى مخازن "بيت الكتب الوطني" (ص: 111). ورغم أن تصنيف الكتب بدأ منذ العام 1948[9]، إلا أن غالبيتها بقيت في "أكياس قمح كبيرة، بالمئات، لسنوات طويلة، حيث كانت الأكياس موضوعة وراء قاعة القراءة التابعة لقسم (علوم الشرق)، ولم تُدخل إلى فهرس المكتبة إلّا في سنوات الستين (ص: 107-108). وتقلّصت مهمة الفهرسة جدًا بعد حرب عام 1967، عندما حصلت المكتبة الوطنية على الكثير من الكتب التي أتت من الأراضي المحتلة (ص: 107).
2)    عمل موظفو وزارة المعارف على بيع كميات من الكتب المنهوبة، وذلك لأن الميزانية الخاصة بتصنيفها وحفظها لم تكن كافية. فبين الأعوام 1935-1958 اشتكى موظف وزارة المعارف (شلمون) مراراً من أنّ ميزانية "المكتبة العربية" –وهو الاسم الشامل الذي مُنح لمخازن الكتب- غير كافية, وادعى أن هذا يلحق الضرر بالكتب؛ ما يقلص هامش الأرباح التي يمكن جنيها منها (ص: 121). علمًا بأن هذه المكتبة كانت تحت الضوء؛ ففي 09/12/1948م، توجه بن غوريون إلى يافا، فاصطحبه مضيفوه إليها، كتب بن غوريون عن ذلك في يومياته (ص: 96): "زرت برفقة ساسون المكتبة العربية التابع لدولة إسرائيل في يافا. لقد جمّعوا عشرات آلاف الكتب العربية، ولم يقوموا بعد بتصنيف وتسجيل الكتب؛ يواصلون التجميع" 
3)    في 30 نيسان 1953 كتب أحد مسؤولي وزارة المعارف انطباعاته من جولة أجراها في مخازن الكتب العربية في القدس، مما ورد فيها: قسم كبير من هذه الكتب مرزوم في داخل رزم وعُرّف وفق مضامينه. وقسم آخر ما زال موجوداً في مرحلة ما قبل العدّ والترتيب (...) لا شكّ في ضرورة فحص هذه الكتب من ناحية مضمونها والفائدة التي يمكن أن تعود بها على مشروع التربية العربية (ص: 121).
4)    في نهاية عام 1948 تقرّر بيع الكتب، فبيعت للفلسطينيين الذين بقوا في البلد, بعد أن خضعت لعملية تصنيف وتسجيل وبعد فحص مضامينها وتصديق موظفي وزارة المعارف لها. وقد بيع جزء من هذه الكتب إلى مدارس عربية مباشرة, فيما عرضت كتب أخرى للبيع العلني في مزادات أجرتها وزارة المعارف، بين فينة وأخرى في المدن الكبيرة[10] (ص: 122).
كما أصيبت "المكتبة العربية"؛ المكونة من الكتب المنهوبة، بالشلل التام، في مطلع الخمسينيات لعدة أسباب، منها:
-     نقص القوى العاملة. ففي ربيع 1954 تبين لمراقب الدولة أن العناية بالكتب قد ساءت من كانون ثاني/ 1953؛ لأن مسؤوليتها كاملة ألقيت على موظف واحد فقط لا يخضع لأي رقابة من طرف الوزارة (المعارف) (ص: 126). وحتى الموظفين كانوا من برتب مهنية أقل، منهم طلبة من الجامعة العبرية يتقنون اللغة العربية في المراحل الأولى من دراستهم (ص: 130).
-     استمرار ورود المزيد من الكتب التي لم يكن لها متسع، فنقلت من مخزن إلى آخر، من دون تسجيل أو رقابة، وفي ظل غياب قائمة موجودات (سجلّ). وفي كل جرد كان يظهر نقص في الكتب. ولم يبدأ العمل بقسائم الدخول والخروج وسجلّات الدخل المتبعة في الوزارات الحكومية إلا في أيار/ 1953. ومما يذكر أن مكتبة المعهد العربي في يافا كانت تحوي نحو (4,000) كتاب، وآلاف الكتب في مدرسة حسن عرفة في يافا لم تصنف (ص: 123-124).
-     هناك شهادة لنائب مدير وزارة التربية في مطلع العام 1954، يبين حالة التخبط والفوضى والنهب والسرقة للكتب الفلسطينية، من القدس ويافا وبئر السبع والمجدل وطبريا وصفد... الخ، مشيرًا إلى أن هناك كميات من الكتب نقلت من يافا إلى القدس نهاية العام 1951 (ص: 125). وفي أوائل العام 1954، تبين للمسؤولين أن هناك كميات من الكتب، أصبحت غير قابلة للاستخدام؛ فإما يتم بيعها لتجار الكتب وإما لمصانع الورق (ص: 126).
-     في كانون أول/ 1954، أعلن أحد المسؤولين أنه، وبسبب عدم وجود رفوف كافية، مضطر لوضع الكتب في مخزن يافا، على الأرض المصنوعة من الباطون، والوسخة، والمخلوطة بالقار؛ والتي تتلف الكتب عند وضعها عليها (ص: 126).
-     في العام 1955 تم نقل مخزن الكتب العربية من حيفا، من شارع إلى آخر، بشكل غير منتظم؛ حيث أُدخل المخزون إلى غرفة واقعة على السطح وصغيرة جدا، وألقى العتالين رزم الكتب التي مزّقت ونثرت في كل صوب، وحتى السلم المخصص لرفع الكتب تمت سرقته ولم يعد (ص: 128).
الخاتمة والتعليق
كأني بالمترجم "علاء حليلحل"، في تقديمه للكتاب، يصوِّب بعض الأمر، عندما يشير إلى أن المكتبة الوطنية الإسرائيلية ضلعت في تلك العمليات الكبيرة من أجل زيادة مخزونها من الكتب وترقية مكانتها العلمية والبحثية، كما أن "حليحل" يصوب الأمر بشأن كتب يهود اليمن، التي يرى أن ما جرى بحقها هو عملية "استيلاء بطرق ملتوية وجنائية"، وأن الكتب الفلسطينية التي تم نهبها وسرقتها والاستيلاء عليها، هي عشرات الآلاف من الكتب، وليس (30,000) كتاب كما يشير "عميت".
إن القراءة التحليلية الدقيقة للكتاب، تضع القارئ في أجواء عملية "المحو والإنشاء" التي قامت بها الحركة الصهيونية السياسية-الجغرافية؛ التي سعت إلى أن "تنشئ" الحضور "اليهودي" على الأرض، بعد استكمال عملية "محو" الآخر الأصلاني؛ ماديًا ومعنويًا وثقافيًا وتراثيًا وتاريخيًا... الخ.
وإن ما جرى للكتب الفلسطينية المنهوبة والمسروقة والمستباحة، وفق ما جاء في هذا الكتاب، خلال النكبة، وما قبلها وما بعدها، هو واحد من سلسلة خطوات ومراحل المحو تلك. والتي تشكل، إلى جانب مظاهر المحو الأخرى للتراث والآثار والعمران... الخ، جوهر عملية المحو الثقافي، التي رأت فيها الحركة الصهيونية ضرورة من ضرورات إنشاء كيانها السياسي على الجغرافيا الفلسطينية، المشبعة بتراكم الحضارات التي مرت عليها عبر آلاف السنين، بلا انقطاع.
وأما بشأن التعامل مع تلك الكتب، فقد اتضح حالة الارتباك بين صفوف القائمين عليها، فقد جاءت غالبية المشاهد مشبعة بالنظرة الدونية التي تتبناها الحركة الصهيونية ذات الجوهر الكولونيالي-الاستعماري الغربي، اتجاه الشرق الذي يرون فيه "متخلفًا"، لدرجة عجز أبنائه حتى عن فهم ما يوجد بين أيديهم من كتب ومراجع ومخطوطات؛ فاعتبروا أن هؤلاء أقل بكثير من أن يحتفظوا بتلك الكتب، التي يجب أن تكون بين أيدي من "يستحقها" ويكون قادرًا على فهمها، فكانت النتيجة "بَتْر" الشريان الواصل بين الإنسان الفلسطيني وكتابه، ومنح هذا الكتاب هوية "يهودية" كالهوية التي منحت للأرض الفلسطينية.
كما كان هناك من المشاهد ما يشير إلى الخوف والقلق الكبيرين من محتويات تلك الكتب، والأثر الذي يمكن أن تتركه على القارئ (العربي) اتجاه الدولة الفتيّة، التي هي دولة "قلقة" ومضطربة بكل المعايير؛ الجغرافية والديمغرافية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية... الخ، فكانت عملية "الهرس" التي تمت لـ (26,315) كتاباً, فلسطينيًا من الكتبة المنهوبة، بعد نحو عقد من الزمن على إنشاء (الدولة)، بادعاء أن هذه الكتب لا تلائم المدارس العربيّة في البلد (...) (وأيضاً لأنّ) قسماً منها احتوى على موادّ مناهضة للدولة, ويمكن لنشرها أو تسويقها أن يلحق الضرر بالدولة"!
من جانب آخر، لا بد من الإشارة إلى أن العدد الإجمالي للكتب الفلسطينية التي تم نهبها واستئصالها من الجسد الثقافي الفلسطيني، لا تقتصر على الـ "30,000"، التي ألقي بها بين جدران المكتبة الوطنية-الصهيونية في القدس، كما يشير "عميت" في مدخل كتابه هذا، بل أنها عشرات آلاف الكتب، ومئات المخطوطات، التي تاهت بين أقدام المحتلين الذين هدموا، ودمروا، وسفكوا الدماء، واستباحوا الساكن والمتحرك على الجغرافيا التي تمكنوا من الوصول إليها.  
في كل تلك المراحل كانت المكتبة الوطنية، والجامعة العبرية، ووزارة المعارف، والأكاديميين والباحثين الشرقيين والمستشرقين جزء من المشهد الذي يصفه "حليحل" بأنه "تداخل البحث الأكاديمي بالسياسة والحرب والقوة، إلى جانب الخداع والتضليل والتنافس المحموم".
إن ما سبق ذكره، ليس سوى جزء صغير من المشهد الذي يتعلق بجوهر الصراع القائم على هذه الأرض، بشكل متواصل وبلا توقف، منذ نحو قرن من الزمن. وهو صراع وجود وحضارة وهوية، الذي يحتاج إلى اليقظة التامة والصمود والإصرار على نيل الحقوق مهما طال الزمن ومهما غلت التضحيات.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 13 تشرين أول، 2015م




[1] ص: 87 يشير "عميت" إلى أن التهديد الصهيونيّ أنشأ، لدى الفلسطينيين، حاجة قويّة جداً للمعلومات المكتوبة.
[2] تم احتلاله من قبل الهغاناه في أواخر نيسان/ 1948م (ص: 90).
[3] كتب بن غوريون في مذكراته: في 20/01/1948م، بدأ حي الطّالبية يتحول إلى حي يهودي (ص: 90).
[4] في مذكرة صادرة عن المكتبة الوطنيّة في شهر آذار 1949, ورد وصف لهذه الأعمال من خلال الأشخاص الذين قاموا بالمهمة. حيث شعر المختصون من المنتصرين، فور احتلال جيش الهغاناه للقطمون والأحياء القريبة منه، بخشية على مصير مجموعات الكتب الخاصّة والعامّة الموجودة في الأحياء التي تم استباحتها (ص: 87).


[5] تأسس هذا القسم في العام 1930، وله غايتان مركزيتان: 1) البحث في ثقافة وتاريخ الشعوب المسلمة، 2) دعم احتياجات الدولة السياسية والأمنية، التي كانت بحاجة لمن يراقب ما يحدث في المجتمعات العربية (ص: 105).
[6] يشار إلى كتب خليل السكاكيني (SAKوإلى نمر (NIMR).
[7] خصص "عميت" نحو خمس صفحات من كتابه لذكر قصص خاصة بمالكي تلك الكتب، منهم: ناصر الدين النشاشيبي، وإسعاف النشاشيبي، وخليل السكاكيني، وخليل بيدس، ويعقوب فرج، ود. توفيق كنعان، وفؤاد (أو فايز) أبو رحمة، وحلمي عبد الباقي، ويوسف هيكل (ص: 113-118).
[8] خلال فحص أول (500) كتاب؛ AP1-AP500، تبين أن 30% منها كتب نثر، و21% إسلاميات، و18% منها فقه اللغة والخطابة، ونحو 11% كتب العلوم الطبيعية... الخ (ص: 110).
[9] هناك اعتقاد بأن التصنيف لم ينته بعد (ص: 107).
[10] الأديب والشاعر والمربي الفلسطيني حنا أو حنا, من مواليد قرية الرينة المحاذية للناصرة, حضر أحد مزادات البيع هذه: في مطلع سنوات الستين سمعت أن وزارة المعارف تجري مزاد بيع كبيراً لكتب وُجدت في أماكن عدّة. جرى البيع في حيفا, في مخزن كبير شارع أللنبي. وكان بوسع كلّ راغب بالشراء أن يأتي ويشتري. أنا ذهبت إلى هناك أيضاً, ووجدت كتباً تدريسيّة بالأساس, بالأضافة إلى كتب أخرى, كلها بالعربية.

إرسال تعليق Blogger

 
Top