0

محمد شريم:
يستحضر تِبر حكايات "كليلة ودمنة".. فيحيلها جواهر للحكمة
نشرت الحلقة الأولى في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 19/03/2016م، ص: 18
نشرت الحلقة الثانية في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 01/04/2016م، ص: 18.
قراءة: عزيز العصا
                                                                                                                                     aziz.alassa@yahoo.com



محمد خليل شريم؛ شاعر فلسطيني، ولد في العام 1962، لوالدين قادمين من قرية ديرأبان المنكوبة منذ العام 1948، وهو تربوي، متخصص في اللغة العربية وآدابها. الأمر الذي يعني أننا مع شاعر-تربوي ، أو تربوي-شاعر، أي أننا أمام شاعر يدرك أثر الكلمة في نفس المتلقي، وتأثيرها عليه. له مجموعة دواوين شعرية، وله مشاركات في العديد من المهرجانات والأنشطة ذات الصبغة الأدبية والشعرية. وآخر أعماله، هو إنجازه الأدبي، قيد النقاش، الذي يحمل عنوان: "جواهر الحكمة في نظم كليلة ودمنة"، والذي جاء نتاج جهد متواصل على مدى أحد عشر عاماً.
نظرًا لما في هذا العنوان من دلالات، ولكي نفي الكاتب حقه في هذا الجهد المضني، لا بد لنا من قراءة متأنية لاستكشاف تلك الجواهر التي يعدنا العنوان بها، لعل فيها ما يريح البال، ويزيل الغمة الفكرية والقيمية التي تجتاحنا، نحن أبناء فلسطين، في مواجهة عوامل الاستئصال التي تهدد وجودنا وهويتنا. وقبل الشروع في الكتاب، والخوض في تفاصيله، لا بد من التوقف أمام الجوهرة الكبرى التي انبثقت منها "جواهر محمد شريم"، ألا وهو: كتاب كليلة ودمنة.
لا أعتقد أن كتابًا يتعلق بالتراث الإنساني أثار ضجيجًا بقد ما أثار هذا الكتاب، أو لنقل إنه من الكتب القليلة، على مستوى البشرية، إلى جانب "ألف ليلة وليلة"، ورسالة الغفران، وغيرها من كتب الحكايات الشعبية، التي ظل بريقها يخطف الأبصار، عبر العصور، منذ مئات السنين.
الرواية الأكثر رواجًا بين المتابعين لهذا الكتاب، تشير إلى أن أصله باللغة الهندية وقد ألفه الحكيم الهندي والفيلسوف رئيس البراهمة "بيدبا" للملك "دبشليم" ملك الهند، ثم قام "برزويه" طبيب كسرى "أنوشروان" بسرقته سراً في القرن السادس الميلادي، بأمرٍ من كسرى وترجمه إلى الفارسية، وزاد عليه فصولاً. حتى وصلت نسخة منه إلى الأديب عبدالله بن المقفع وقام بترجمته إلى العربية، وزاد عليه فصولاً من عنده.
يتساءل الكاتب الإماراتي "جمال بن حويرب"[1]، في صحيفة البيان:  كليلة ودمنة.. من تأليف ابن المقفَّع أمْ بيدبا الهندي؟ وبعد قليل من التقديم، يتوصل "بن حويرب" إلى "أن هذا الكتاب ألّفه خيالٌ عبقريٌّ من لغويٍّ بليغٍ وهو عبد الله ابن المقفع نفسه".ولعلّي أساند قول الكاتب "بن حويرب" بما وجدته في الكتاب من سمة إسلامية الجوهر والروح، كقول ابن المقفع في باب "برزويه": "وما يصيب صاحب الدنيا من البلاء؛ وكان عندي أنه ليس شيء من شهوات الدنيا ولذّاتها، إلا وهو متحول إلى الأذى ومولّد للحزن"(ص: 83-84)[2]، "... متعبّدًا؛ يصوم النهار، ويقوم الليل كله"(ص: 210). كما يقول في موضع آخر"... العواقب من أمور الدنيا والآخرة"(ص: 294)، وكذلك قوله: "... وحاز في الآخرة ثواب الصالحين"(ص: 43).
فقد حظيت المكتبة العربية-الإسلامية، بهذا الكتاب، على يد "عبد الله بن المقفع"، الذي ولد فارسيًا-مجوسيًا سنة (106 ه)، ثم اعتنق الإسلام، وتوفي سنة (142 ه) عن عمر (36) عامًا، ويروى أنه قضى مقتولًا. أي أن الكتاب يكون قد تمت ترجمته أو وضعه باللغة العربية في النصف الأول من القرن الثامن الميلادي. فكان من الكتب العجيبة، حيث أُولع الناس به فنُظم شعراً كما فعل أبان بن عبد الحميد للبرامكة حيث نظمه في 5 آلاف بيت، وقيل أكثر من ذلك، ومنهم من أضاف له رسوماتٍ تدلُّ على القصص المذكورة فيه .
كأني بإبن المقفع، في حينه يفسّر ما سيجري عليه حال الناس بشأن هذا الكتاب، إذ يقول: "ينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض"(ص: 73):
الأول: ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان, فتستمال به قلوبهم:لأنه الغرض بالنوادر من حِيَلِ الحيوان.
الثاني: إظهار خيالات الحيوان بصنوف الأصباغ والألوان: ليكون أُنساً لقلوب الملوك, ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور.
والثالث: أن يكون على هذه الصفة: فيتخذه الملوك والسُّوقة, فيكثر بذلك انتساخه, ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام؛ ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبداً.
الرابع: وهو الأقصى, وذلك مخصوص بالفيلسوف خاصة.
لعل ما يزيد من ضرورة تسليط الضوء على هذا الكتاب، ذلك الاختلاف حول هويته، الذي بدأ يظهر على السطح، بعد أن تعمق في ثقافتنا بأنه هندي الهوية والأصل والفصل، لدرجة أن هويته الأصلية كادت تتيه بين الهويات الحضارية المختلفة. ومما يؤيد قول "بن حويرب" بشأن المؤلف الأصلي للكتاب، ما ورد في خطبة كتاب "كليلة ودمنة" الذي وقع بين يدي: "عكف على الاعتناء به أصناف الناس، فترجموه من العربية إلى لغاتهم من سائر الأجناس" (ص: 2).     
كليلة ودمنة: كتاب الحكم والأمثال
لا يمكن لقارئين لهذا الكتاب أن يختلفا على أن هذا الكتاب مشبع بالحكم والقيم والصدق والوفاء والمثل العليا وغيرها من الصفات الحميدة المستحبة لدى بني البشر، كما أنه يتوفر فيه صفات ذميمة ونقائص وخدع ومكر. وما بين هذه وتلك من الخصال ينشأ الصراع القائم بين الخير والشر، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أما بشأن الإجماع البشري على ما ورد في هذا الكتاب، فإن السر فيه، من وجهة نظري، يكمن في أن الممثل هي الحيوانات، وأن الحديث قد جاء على ألسنتها، ولعل في ذلك ما يقطع الخلاف والاختلاف حول مخرجات تلك القصص الطريفة وأثرها على القارئ، من مختلف المستويات والشرائح الاجتماعية والفكرية، ومن أبرز الحكم التي وجدتها في هذا الكتاب:
1)      الخير والشر في حالة صراع دائم وأبدي، بقوله: "الخير أصبح ذابلًا والشر أصبح ناضرًا"(ص: 88)؛ وفي ذلك إشارة إلى أن الشر لا ينمو ولا يترعرع إلا بقدر ما يمتص من غذاء الخير ومن مسببات حياته. أي أن ما يضمن الخير لكل منا هو أن يطرد الشر من محيطه، فإما الخير، وأوجهه المختلفة من الصدق والوفاء وحسن الخلق والحياة الحرة الكريمة، وإما الشر الناجم عن الخداع والمكر والمراوغة والكذب وأكل حقوق الغير، وما ينجم عن ذلك من مهالك وبؤس العيش وضنكه. ويعزز ذلك بالقول: "المرء ترفعه مروءته من المنزلة الوضيعة إلى المنزلة الرفيعة"(ص: 98).
2)       وحول من ترهبه المظاهر البراقة  و(الجعجعات)، يقول: "أفشل الأشياء أجهرها صوتا وأعظمها جثة"(ص: 106).
3)      وفي فساد السلطان، يقول: "إنما يُؤتى السلطان ويفسد أمره من قبل ستة أشياء: الحرمان، والفتنة، والهوى، والفظاظة، والزمان والخُرْق"(ص: 110). كما يقول: "الملوك لا ينبغي أن يصحبوا من عاقبوه أشد العقاب"(ص: 273).
4)      وفي أكثر من مكان امتدح العقل والعقلاء، منها: "العقل كامن في الإنسان لا يظهر حتى يظهره الأدب وتقوية التجارب"(ص: 43)، وأن "ذا العقل لا يدع مشاورة عدوه"(ص: 98). و"مال العاقل عقله"(ص: 195)، و"العقل شبيه بالبحر الذي لا يُدرك غوْره"(ص: 246).
5)      وحول الخيانة ومعانيها وأشكالها، هناك الكثير من الحكم والأقوال والأمثال، منها: "الخيانة شرُّ ما عمله الإنسان"(ص: 69)، و"من كتم السلطان نصيحته والإخوان رأيه فقد خان نفسه"[3]، و"إن المحتال يموت قبل أجله"(ص: 163).
6)      وحول اتباع الناس لمصالحها، يقول: "تتبع البهائم أمهاتها رجاء لبنها، فإذا انقطع ذلك انصرفت عنها".


محمد شريم: يقرأ ويدقق.. يعيد القراءة ويعيد التدقيق.. يصنّف.. يبوّب.. يفنّد.. وينظم كليلة ودمنة شعرًا
بعد طول عناء، وعلى مدى أحد عشر عامًا، قضاها محمد شريم في القراءة والبحث فيما وقع بين يديه من كتب ومراجع وقصائد وأشعار ذات صلة بكتاب "كليلة ودمنة"، وبإعادة القراءة والتمعن وقراءة ما بين السطور، خرج علينا بعنوان جديد وبنظم شعري جديد لهذا الكتاب. ولضمان التجديد الفعلي، وعدم تكرار أعمال من سبقوه، ولكي تحظى المكتبة العربية أولًا، والمكتبة العالمية ثانيًا، أجهد "محمد شريم نفسه في ذلك وتحرى الدقة، وصال وجال في بحور اللغة وبحور الشعر، فأطل علينا بعنوان: جواهر الحكمة في نظم كليلة ودمنة.
بالاطلاع على هذا الانتاج الأدبي والفكري للشاعر "محمد شريم"، الصادر في طبعته الأولى عام 2015 عن "مكتبة كل شئ" بمدينة حيفا/ فلسطين، وجدت أنه يقع في (322) صفحة من القطع الكبير، يبدأ بغلاف يحمل صورًا لعدد من الحيوانات فيما يشبه الغابة، ويحمل الغلاف الأخير شيئًا من مقدمة الناظم، يُظهِر فيها "محمد شريم" الهدف الاستراتيجي والغاية السامية من نظمه لكتاب "كليلة ودمنة " شعرًا. وبين هذين الغلافين تربض المعرفة ويتجلى الشعر والفن، وتظهر القدرات المتميزة لمحتوى هذا الكتاب، والتي تتألف مما يأتي:
أولًا: مقدمة الناظم على مدى ثلاث عشرة صفحة؛ يشرح فيها "محمد شريم" قصة هذا الكتاب، ومبررات ظهوره إلى النور، والمنهجية التي اتّبعها حتى ظهر الكتاب إلى النور.
ثانيًا: أبواب كتاب كليلة ودمنة الخمسة عشر منظومة شعرًا، ولأن كل باب يحتوي عددًا من الأمثلة والقصص القصيرة، فقد أعطى "محمد شريم" كل قصة حقّها في النظم. وعند إجراء تحليل رقمي للباب الأول لكتاب كليلة ودمنة المعنون بـ "باب الأسد والثور"، وجدت أنه توزع على (32) محطة سردية منظومة شعرًا متوالدة عن الحكاية الأم، وبحصر أعداد أبيات الشعر التي تم نظمها لكل قصة منها، وجدت أنها تتراوح بين (3) أبيات و(63) بيتًا، لتشكل ما مجموعه (673) بيتًا لهذا الباب. وهكذا يسري الأمر على الأبواب الأخرى، لتكون النتيجة أننا أمام (3741) بيتًا من الشعر المنظوم، تتوزع على (195) صفحة (تشكل نحو 60% من حجم الكتاب ككل)، التي تجمع "كليلة ودمنة"، كما نظمها "محمد شريم" الفلسطيني في العام (2015).
ثالثًا: خزانة جواهر الحكمة في نظم كليلة ودمنة (تتوزع على (62) صفحة)؛ وهي خزانة تحتوي (516) جوهرة، والجوهرة عبارة عن حكمة حول موضوع ما أو شأن ما من شئون حياتنا، تم التعبير عنها بأبيات من الشّعر مستقاة من النظم الوصوف أعلاه للأبواب الخمسة عشر. وكل جوهرة تضم بيتاً واحداً أو عدداً من الأبيات قد يصل إلى تسعة أبيات.
رابعًا: صناديق جواهر الحكمة؛ على مدى (37) صفحة؛ وهي عبارة عن كلمات ذات دلالات محددة، كالقيم والمثل العليا والانفعالات النفسية والسيكولوجية، منها: الإباء، الإتقان، البخل، التّجبّر، الثقة، الجبن، الخجل، الرّشوة، الشوق، الغدر، اليأس... الخ. وقد تمكن "محمد شريم" من حصر (554) صندوقاً، وأشار للقارئ على الجواهر التي تتطرق أبياتها الشعرية إلى كل منها من خلال مفاتيح هذه الصناديق؛ وهي أرقام مفتاحية تشير إلى الجواهر التي يتضمنها موضوع الصندوق وعدد هذه المفاتيح (3741) مفتاحاً. وقد وجدت أن الصندوق الواحد يضم عدداً من الجواهر بدءًا من جوهرة واحدة، وقد يوجد فيه عدد كبير جدا من الجواهر، كصندوق كلمة "القول" الذي تضم لوحة مفاتيحه ( أرقامه المفتاحية ) (100) مفتاحاً، أي أن صندوق (القول) يضم (100) جوهرة.
خامسًا: مراجع الكتاب؛ وهي القرآن الكريم، وطبعات النص النثري التي قام الشاعر بمراجعتها، وجميعها من تأليف "ابن المقفّع" وهي صادرة عن دور نشر مختلفة، والمعاجم التي اتّكأ عليها الشاعر شريم في تفسير الكلمات والمفردات التي ارتأى بضرورة توضيحها للقارئ، بالإضافة إلى المصادر والمراجع المتخصصة بالتدقيق اللغوي والإملائي.
لماذا جواهر الحكمة في نظم كليلة ودمنة؟
وكان الهدف الأسمى لشاعرنا-شريم، يقوم على إبدال (حلاوة الشعر بطلاوة النثر؛ ليزيد الناس قربـاً مما في (كليلة ودمنة) من الحِكَم والعبر، فالشعـر أحبُّ إلى النفس وأقربُ إلى الوجـدان) كما يقول. ولأجل تحقيق تلك الغايــة بأفضــل صورة ممكنــة، عمــد إلى اتباع  طريقــة في نظـــم الكتـــاب مختلفـــة عمـــا كــــان  عليــه الحــال في نظــم من سبقوه. وأما الأهداف الفرعية، التي دفعته إلى ذلك، وهي متعددة، أذكر منها:
-        لتسهيل قراءة النّظـــم ـــ والنثـــر ـــ وحفظـــه، يجب أن يكـــون النـــصّ مكتوبــاً بلغــــــة (معاصـــرة) بالنسبــــة لزمـــن القـــارئ، فاللغـــة كائـــن متطــــوّر. علمًا بأن اللغة العربية هي أم كتاب "كليلة ودمنة"، إن لم تكن بالنسب، فهي أمه بالتبني.
-         رغبة شاعرنا-شريم في المساهمة في الحفـــاظ على بقــاء هذا الكتـاب عنصراً هامّاً في مكتبــة المثقف العربي، وقارئ العربية.
-        الرغبة في أن يكون (جواهر الحكمة في نظم كليلة ودمنة) مرجعــاً لمن شاء من القـراء من جميع الشرائح المجتمعية، وبجميع الأعمار؛  فيستأنس بهذه الحكم الشعرية إذا احتار،  ويتقوّى بها موقفه في الخطاب والحوار.
-        يوفر للقارئ المجال لكي ينهــل ممــا ورد في هذا الكتــاب أيضاً من الحكايات المنظومة ــ على اعتبار أنها  نوع من الشعر التعليمي ــ ما شــاء من سائــغ الدروس والعبر وصادق النصـح والإرشــاد، في وقـت أصبحت فيه مستحدثات التكنولوجيـــا والجوانب الماديـة من حياة إنساننا المعاصر، هي العوامــل المسيطــرة على هذا الإنســان. 
جواهر الحكمة منذ أن كانت تِبرًا حتى صارت جوهرة :
لا شك في أن عملًا كهذا، يستحق جهدًا استثنائيًا من الشاعر ـ المؤلف الذي يقع على عاتقه مهمة مزدوجة؛ إذ عليه أن يقرأ ويتمعن القراءة في نصوص كتاب لا يزال يجدد نفسه بعد مئات السنين من تأليفه، ثم يعصر فكره ويستحضر قدراته ومهاراته الخاصة لكي يحيل النثر بطلاوته وجماله، إلى شعر يتمتع بحلاوة تجعل الحكمة مغناة سهلة الحفظ، لتصبح للقارئ ثقافة وسلوكًا، وليس مجرد (صم) للكلمات. بعد أن حدد شاعرنا-شريم أهدافه الموصوفة أعلاه، ولتحقيقها بأحسن حال، مرّ أثناء تأليف الكتاب بعدد من الخطوات، التي تراوحت بين المعقد والسهل، أهمها:
أولًا: مراحل القراءة:
-        يقرأ الحكاية كاملـة غير مرة، وتستــوي في ذلك الحكايــة الأمّ والحكايـــــات الفرعيــة المتولـــدة عنهـــــــا (الأمثال)، مستخدمـــاً في القراءة الأولــى الطبعـــة التي اعتمدها لتكـون أساساً للعمل من بين طبعــات كتـــاب (كليلة ودمنة) التي توفـــرت لديه، وقد اعتمــد هذه الطبعة لأنه استأنس بمـا قالـــه الأكاديمـــي الذي راجعهـــا وهـــو الأستــاذ الدكتور حبيب مغنية: (هذه الطبعــــة هي خلاصــــة لمـــا اطلعنــــا عليـــه من نسخ قديمة وطبعات حديثة)[4].
-        بعد القراءة الأولى كان يقـــوم بقراءة الحكايـــة في  ثلاث طبعـــات أخرى لتتسنى لــه مقارنـــة نصّ الحكايـــة في هـــذه الطبعــــة مع النصــــوص الواردة في الطبعــــات الأخـــرى[5]، فإذا كان ثمـــة اختلاف بين الطبعــة المعتمـــدة وسواهــــا، فإنه يقـــوم بمـــا يراه في صالـــح العمـــل، ثم يقوم بتدويــن العبـــارات والحكـــم التي يريـــد نظمهـــا وفـــق تسلسلهـا في دفتر خاصّ.
ثانيًا: مراحل النظم:
·         عند النظم، كان بإمكانه اعتماد (بحر الرجز) وذلك (لأن الرجـــــز حمّــال أثقــــــال لكثـــــرة جوازاتــه)[6]، كمــــا فعـــــل الكثيــر من ناظمــي القصـــــــص والحكايـات من قبــــل، إلا أنه اختار لنفسه نمطــاً آخر سار وفقه، عندما نحى المنحى الذي يجعل النظـــم في كتابه هذا أكثر سلاسة وانسياباً وأجمل إيقاعاً؛ لتسهــل قراءته من ناحية وليسهل على القارئ حفــظ ما يعجبــه فيه من الأبيات السردية ومن الحكــم الشعريــة، فارتأى أن يعتمــد أسلــوب التنويــع في البحــور والقوافــي.
-        نظم الأبواب الخمسة عشر لكتاب كليلة ودمنة، بحيث يكــــون لكـــل حكايـــة بحرهــا ورويّهـا، فبهذا يتحقـق التنويــع من ناحيــة، ويمكـــن التمييـز بين الحكايــات المتداخلة التــي يتولــد بعضهــا مـن بعض من ناحيــة أخــرى،كما أنه بهذه الطريقة يمتلك القارئ إمكانية فــكّ الحكايات وتركيبهــــا، حتى المتداخلـــة منها، ونعني بالفكّ فصل الحكايات بعضها عن بعض إذا تطلّب الموقف استخدام بعضها بشكـــل مستقــــلّ عن بقيـــة الحكايات، أو استبعاده منها.
-        بعد الانتهاء من نظم الحكايات وطباعتها وضبطها، قام شاعرنا-شريم بتدوين الشروح والتعليقـات في الهوامش الواردة في أسفل صفحات الكتاب المطبوعة.
-        بعد الانتهاء من نظم الكتاب كاملًا، قام شاعرنا-شريم بتصميم (خزانـــة جواهـــر الحكمـــة)؛ وهو الاســم الذي أطلقــه على القســــم الذي وَضَع فيــه الحكــم الشعرية التي اقتطفتها مما ورد في أبواب الكتاب، وكل واحدة من هذه الحكم الشعريــة المقتطفة مصاغة في بيت من الشعــر أو في مجموعة من الأبيات حسب اكتمــال معناهــا في النــص، وقد آثر أن يسمــي كــل واحــدة من هذه المقتطفـات جوهــــرة، والجمع جواهــر، ومن هنا جاءت عنونــة هذا الكتـــاب، وقد ميّــز كلّ جوهــــرة منهــــا برقـــــــم خـــاص بهــــا في خزانة الجواهــر، وهو يشيــر إليهــا ويدل عليهــا في التصنيــــف المسمـى (صناديق جواهر الحكمة)،وقد ارتأى أن يرتب الجواهر فـي (خزانـــــة جواهر الحكمة)، التي يبلغ عددها (516) جوهرة وفق تسلسل الأبواب في الكتاب.
-        صناديــــق جواهــــر الحكمــــة، وعدد هـــــذه الصناديـــق خمسمائـــة وأربعــة وخمسيــن صندوقــــاً مرقّمــــة ومرتبـــــة ترتيباً هجائياً وفق حروف أسمائهـــا، فكـــل صنـــدوق منها يحمـــل اسمــاً مستقـــلاً خاصـــاً بـــه، واســـــم الصنـــــدوق ــفي حقيقة الأمــرـــ كلمــــــة تــدل علـى موضــــوع مـن مواضيـــع الحكمــة ومجــــــال من مجالاتهـــــا، وقد يتبـــــع الاســــم كلمـــة أخرى تابعـــة أو مجموعـــة من الكلمـــات التوابـــع مرتبـــــة هـي أيضــــاً ترتيبــاً هجائيــاً ووضعــت بين قوسيـن، وتوجد تحت اسم الصندوق وتوابعه لائحة تعرض أرقام جواهر الحكمة التيتتحدث عن الموضوع أو المجال الذي يحمل الصندوق اسمه، وتسمى هذه اللائحة ( لوحة مفاتيح الصندوق ) أما الأرقام التي تشتمل عليها فتسمى (مفاتيح الصندوق) ويبلغ مجموعها في جميع اللوحات (3741) مفتاحاً، وقــد أطلق عليها "المفاتيـــح" تشبيهــاً لهـــا بمفاتيـــح الصناديق الحقيقية. وإذا ما قيــّض الله لهذه الخزانـة من يعرضعهــا عرضاً إلكترونيــاً فظنــي أن القـــارئ سيتمكن من الوصـــول إلـى الجوهــرة (أي الحكمة) المطلوبـــة بمجرد النقر على (المفتاح) أي الرقم المفتاحي الخاص بها.    
لنا كلمة، 
بعد الاطلاع على هذا الجهد الذي أنجز لنا هذا العمل الأدبي الرائع، لا بد من التوقف أمام السؤال التالي: وماذا بعد، أين يجب أن يستقر هذا الكتاب؟
لعل هناك العديد من الدول (العربية) والمؤسسات أسهمت في الإجابة على السؤال، من خلال المسارعة إلى شرائه وامتلاكه وإيصاله إلى الجامعات والمؤسسات ذات الصلة بالأدب والشعر وغيرهما. إلا أنني، وبعد الاطلاع الكامل على ما بين دفتي هذا الكتاب، وما فيه من كنوز فكرية وقيميّة، وما فيه من توجيهات لأفراد المجتمع من جميع الشرائح المجتمعية، ومن جميع الأعمار، أرى بضرورة جعله في صدارة مكتباتنا الوطنية، العامة والخاصة والمنزلية، ليس لدعاية تجارية، وإنما لجعل النصيحة المغناة والإرشاد والتوجيه المصاغ بطريقة سهلة وسلسة؛ حتى يسهل حفظها والتمثل بها.

أما على مستوى المدارس والجامعات والمؤسسات التربوية المختلفة، فإن هناك ضرورة من نوع خاص لامتلاك كتاب (جواهر الحكمة في نظم كليلة ودمنة)، وذلك لأن فيه التطبيق العملي لتصنيف بلوم في الأهداف المعرفية، إذ أن هذا الكتاب ينتقل بالطالب (المتعلم)، أثناء العملية التعليمية من المستويات الدنيا المتمثلة باستدعاء المعلومات واستذكارها، إلى المستويات العليا التي تتوّج بمستويي التركيب والتقويم الذي يعني إصدار الأحكام، ثم العودة إلى المستويات الدنيا، وفق ديناميكية تعلم شيقة، تتمثل بأن يكون المتعلم قادرًا على الإبداع في قراءة النصوص، بوجهيها النثري والشعري، وتحويل كل نص إلى الوجه الآخر، وفق حالة من التجلي في الفهم الدقيق لمعاني الكلمات والمفردات والعبارات والجمل، وما يعنيه ذلك من حالة تفاعل جميلة بين المتعلمين ولغتهم العربية التي أصبحت تتطور باتجاه والناطقين بها يتطورون باتجاه آخر غير منسجم مع اتجاه لغتهم. وما أجمل المشهد عندما تدخل في باحات جامعاتنا ومدارسنا وجدرانها مزيّنة بالنظم الشعري قيد النقاش، أو بغيره من النظم الشعري الهادف المشبع بالحكم والقيم والمثل العليا؛ لما يتركه تكرار القراءة من أثر إيجابي في نفس القارئ، يرفع من مستوى ثقافته ويترك أثرًا في سلوكه.
قبل أن نغادر، لا بد من الإشارة إلى أننا بحاجة ماسة إلى إنجاح تجربة شاعرنا شريم هذه، كما يجب توفير الفرص والإمكانيات لغيره من المبدعين الذين يسعون إلى نقل النصوص الجادة والجيدة من حالتها النثرية الجامدة إلى سرديات شعرية، تنبض بالحياة والحركة.
أبارك لشاعرنا "محمد شريم" هذا الإنجاز، وأترك لنقاد الشعر الفرصة للتقييم والتقويم والتعديل والتصويب، إذ أن "شريم" قد اعتذر مسبقًا عن أي خلل هنا أو هناك في كتابه هذا، ولا ضير أن نرى مستقبلًا طبعة جديدة منقّحة خالية من الأخطاء التي يتخوف منها شاعرنا شريم إن وُجِدتْ.

فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 10 كانون الثاني، 2016م





[1]جمال بن حويرب. كليلة ودمنة.. من تأليف ابن المقفَّع أمْ بيدبا الهندي؟. صحيفة البيان، بتاريخ: 8/5/2012م. انظر الرابط:
[2]بيديا الفيلسوف. كليلة ودمنة. ترجمة: عبد الله بن المقفع. مكتبة المحتسب/ عمان. ص: 83-84.
[3]بيديا الفيلسوف. كليلة ودمنة. ترجمة: عبد الله بن المقفع. مكتبة المحتسب/ عمان. ص: 119. علمًا بأن هذا ما قاله دمنة في مرحلة ما من مراحل الإيقاع بين الأسد والثور.
[4] ابن المقفع،عبد الله،كليلة ودمنة، مراجعة د.حبيب مغنية، ط 2 ـ دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1998،ص 21 
[5] انظر قائمة المراجع في آخر هذا الكتاب.
.[6] قاسم، د. محمد أحمد،المرجع في علمي العروض والقوافي، ط1، جروس برس، طرابلس لبنان، ص 157

إرسال تعليق Blogger

 
Top