باولو كويلو في روايته "الشيطان والآنسة بريم":
الوطن جنّة.. والصراع قائم بين الخير والشر
نُشِرَ في صحيفة القدس،
بتاريخ: 3 أيلول 2016، ص: 18
عزيز العصا
باولو كويلو؛
برازيلي الأصل والنشأة؛ مولود في العاصمة ريو دي جانيرو في العام
1947، كاتب أغانٍ وروائي، من روائعه رواية "الخيميائي"، التي حققت أعلى
مبيعات وطُبع منها أكثر من (65) مليون نسخة, حتى غدت من أعلى الكتب تحقيقاً لأعلى
نسبة مبيعات في التاريخ, وقد ترجمت إلى (71) لغة, وهو ما حدا بها إلى أن تدخل
موسوعة جينيس لأكثر رواية مترجمة لمؤلف على قيد الحياة! نشر كويلو حتى الآن (30)
كتابا, وبيعت من كتبه أكثر من (150) مليون نسخة لأكثر من (150) دولة حول العالم[1].
وأما العمل الأدبي الذي نحن بصدده لـ "كويلو" فهو روايته "الشيطان
والآنسة بريم" بطبعتها العربية الأصلية الثانية، الصادرة عن "شركة
المطبوعات للنشر والتوزيع" في بيروت، في العام (2003). تبدأ الرواية بعنوان ذي
أهمية سيميائية بارزة؛ إذ يشكل علامة إجرائية ناجحة في مقاربة النص بُغية استقرائه
وتأويله من جهة، وينبئنا بأننا مقبلون على نص مشبع بالإشارات، والشيفرات الشفافة
من جهة أخرى. فقد جاء العنوان موجزًا ومكثفًا، ومنسجمًا مع النص، ذلك أنه يقوم على
ثنائية هي: "الشيطان" و"الآنسة بريم"؛ الشيطان بكل ما
يحمله من إحالة على مفهوم الشر والضلوع فيه، والآنسة بريم بكل ما يعنيه
الوصف من أنوثة ضعيفة في مواجهة الشيطان، وكأن الكاتب يعد قارئه من الوهلة الأولى
بأنه مقبل على ثنائية الخير والشر، وحتمية الصراع بينهما واقعيا كان ذلك الصراع،
أم كان مجردا، وصولاُ للإجابة عن التساؤل الفلسفي: هل الشر متأصل في نفس الإنسان
أم طارئ عليها!!
ولغلاف الرواية دلالته السيميائية الواضحة في تشويق القارئ للدخول في
(مغامرة) القراءة، بعد أن أعطاه وعدا مشوقًا ينتظره من خلال ما تحتويه الصورة من
إشارة سيميائية، تختزل الكثير من المضامين الثانوية في الحكاية، والتي تلهب خيال
القارئ وتغريه باقتناء العمل[2].
فالنظرة الأولى لغلاف الرواية تكشف عن ثنائية لونية أساسية؛ وهي شيوع اللون
الأسود كمساحة لونية طاغية في لوحة الغلاف؛ بما يعكسه من هيمنة الشر على نفس
الإنسان، على غيره من الألوان التي جاءت لتعبر على استحياء
عن أن الخير ينبت في قلب الظلمة، إضافة إلى أن لوحة الغلاف تحيل في مجملها على
المكان/ بيئة الحدث؛ وكأن "كويلو" يريد
أن يشي لقارئه أن المكان هو لاعب الدور الرئيس في نفوس الشخصيات، وأنه يطبعهم بطابعه. وهكذا، يتآزر اللون مع الكلمة، في رواية "الشيطان
والآنسة بريم"، لتشكيل الرسالة التي سعى
"كويلو" إلى نقلها. حتى أنه شكل جسرًا مشتركًا بين
المرسل والمستقبل؛ تعبر من خلاله الدلالات التي تشي بمضمون السرد[3]،
الأمر الذي جعل المستقبل يدخل إلى "العمل" من بوابة العنوان متأوّلًا
له، وموظفًا خلفيته المعرفية في استنطاقه.
إن "القضية" الروائية الرئيسية، لرواية "الشيطان والآنسة
بريم"، كما رأيتها، تقوم على الصراع بين الخير والشر. ويتمثل ذلك بالصراع
القائم بين الملائكة والشياطين، وما قام به الخيرون من شخصيات الرواية في مواجهة
إغواءات الشريرين الذين يحركهم "الشيطان". يلي ذلك صراع أقل في حدته من
الصراع الأول، بين القديم والحديث، الذي يسعى إلى اللحاق بالتكنولوجيا والحضارة
المعاصرتين، وما يتطلبه الأمر من التخلص من القديم، وموقف المجتمع من ذلك التغيير.
لأجل ذلك، قام "باولو كويلو"
بإنشاء مجموعة مرتكزات مهمة اتّكأت عليها الرواية، شكلت هيكلها الأساسي
الذي مكّنه من تحقيق سرد روائي متماسك، بعيدًا عن الثرثرة والرمزيات الشاعرية
والعقد النصّية واللغوية. إذ يتكون هيكلها من بنيتين، هما: البنية المكانية
المتمثلة بقرية "بسكوس"[4]
الأرجنتينية الفقيرة البائسة، التي يقطنها (281) شخصًا (173 رجلًا و108 امرأة)،
تخلو من الأطفال؛ أصغر سكانها بطلة الرواية "شانتال" بعمر (21) عاماً،
وما يتصل بها من ظواهر طبيعية كالرياح والأمطار التي تهطل بشكل مفاجئ، وما يحيط
بها من جبال وصخور، وقد وظف "كويلو" من الصخور ومن سمات الغابة ما يمكن
تسميته المكان-البطل. وهناك البنية الزمانية، التي يصعب تحديدها، إلا أن السرد
والأحداث تشير إلى العصر الحديث؛ حيث الكهرباء والمطارات والطائرات والنوافير.
يمكننا القول إذن إن "كويلو" هنْدَسَ روايته هذه متكئًا
على مثلث، متماسك الأضلاع، من الشخصيات، والمتمثل في كل من: الضلع الأول: شانتال؛
الشابة اليافعة التي ولدت دون أن ترى والدتها، كما فقدت جدتها المربية والحاضنة
له، فانتهى الأمر بها "نادلة" في الفندق. والضلع الثاني:
"الغريب"؛ تاجر الأسلحة وصانعها، المكلوم بفقدان زوجته وابنتيه، والذي
سمّى نفسه "كارلوس" وقد جاء شيطانه ملازماً له. والضلع الثالث: برتا
العجوز الطاعنة في السن، التي تجلس على العتبة الفاصلة بين الموت والحياة، وهي
تنتظر الموت، في الوقت الذي تحب فيه جمال الحياة وترنو لها بعين الأمل. وهناك
الشخصيات الثانوية، منها: الحداد، ومالكة الفندق، ومالك الأراضي (العقارات)، ورئيس
البلدية والكاهن.
وجميع الشخصيات
(الثانوية) تجتمع على قرار (إعدام) العجوز برتا من أجل حفنة من الذهب يتقاسمها
أبناء القرية. لم يقم "كويلو"
بوضع الإجابة على لسان القارئ، وإنما ترك الإجابة "مفتوحة" على كل
الاحتمالات، الخاضعة للصراع الأزلي القائم على هذه الأرض بين الخير والشر والنور
والظلام. ففي النهاية التي وضعها لروايته هذه، نجد البطلة "شانتال":
تدير ظهرها لبلدتها "بسكوس" دون تفكير في العودة، والعجوز
"برتا" التي تقرر إعدامها لكي تسعد "بسكوس" وأهلها، تعود إلى
حياتها بعمر مديد!
ثم وفر "كويلو" للقارئ
سردًا مزج فيه الإيهام بالحقيقة، لدرجة أنه كاد يستميل القارئ نحو تصديق في عالم
الميتافيزيقا؛ كالصراع بين الملائكة والشياطين وحضور الأموات وأخذ دورهم فيما يجري
على الأرض. ومن ثم جاء السرد على شكل إجابات لأسئلة متعددة ذات صلة بالثيمة
الأساسية للرواية. ولعل السؤال الرئيسي في هذه الرواية: "هل الجريمة (بالقتل
أو بغيره)، المخطط لها، هي الطريق للخلاص؟
هكذا، يدور الصراع،
وتدور أحداث الرواية التي تترك في القارئ مجموعة
من التساؤلات الفلسفية والأخلاقية والميتافيزيقية، التي أراد "كويلو" تمريرها بين ثنايا روايته هذه؛ والتي يمكن القول أنها
تشكل في مجملها زاوية النظر التي أراد الكاتب بثها في ثنايا السرد، والتي يمكن
رصدها فيما يلي:
أولًا: على الإنسان أن يتعلم من بيئته وأن
يكون جاهزًا للتحديات:
ففي مقدمته الموجهة للقارئ العربي، ومن خلال ملاحظاته
المكتوبة في آب/ 2000، نجد "باولو كويلو" يذكّر
القارئ بضرورة الحذق والنظر الثاقب في رؤية كل ما يجري حولنا من أحداث، فأورد قول
الصوفيّ أنه تعلم من ثلاثة: اللص، والكلب والطفل. كما يلفت النظر إلى أن
"الحياة تجابهنا بتحديات تختبر شجاعتنا ورغبتنا في التغيير؛ لذا، من غير
المفيد أن نتنصل قائلين بأننا لسنا مستعدين بعد".
ثانيًا: مفاهيم فلسفية تسبر غور النفس
البشرية:
لقد تمكن "باولو كويلو" من خلق حواراتٍ معمقة وجادة بين الخير والشر، إلى الحد
الذي يجد معه القارئ للرواية أنهما يتبادلان الأدوار، وكثيرًا ما كانا يجتمعان في
نفس المكان ونفس اللحظة ونفس الشخص، وأحيانًا يتصارعان دون أن ينتصر أحدهما على
الآخر. كما أن الخير الذي أصبح متأصلًا في نفوس أهل "بسكوس" قد أسسه
"آهاب" الشرير الذي غادر حياة الإجرام على يد القديس "سافان".
كما ورد في السرد استعراضًا معمقًا للخوف وأثره في حياة
البشر، فالمقصلة التي أنشأها آهاب في ساحة القرية، والتي اكتفى بإزاحة الغطاء عنها
دون أن يهدد باستخدامها، تحملق في الناس والناس يحملقون فيها، كانت صورتها تكفي
لتحويل الجرأة إلى خشية، والثقة إلى شك، وحكايات ادّعاء الشجاعة إلى همسات امتثال.
والنتيجة أنه بعد عشر سنوات قام آهاب بتفكيكها واستعمال خشبها لنصب مصلوب مكانها.
وأما الفلسفة الكامنة خلف ذلك فهي أن "الخوف من العقاب" هو الذي يُلزم
الجميع بما يفرضه المجتمع، وأن كلا منا يحمل مشنقة في أعماقه. وحتى الكاهن يردد في
سرّه: "دائمًا هو الخوف، فلكي تسيطر على شخص أوهمه بأنه خائف".
ويتبين حجم التناقض الذي يعيشه الإنسان، باختيار العجوز
برتا للتضحية بها من أجل الذهب المعروض على أهل القرية من الغريب (كارلوس)، وما جرى
مع الكاهن الذي ظهر في أسوأ حال عندما قاد مجموعة من الفتوّة لإحضار العجوز برتا،
وتجهيزها ليكون جسدها النحيل في مصب نيران بنادق أهل القرية. إلا أن العجوز تحافظ
على رباطة جأشها وتحاور الكاهن لتلقنه درسًا في الانتماء إلى الوطن الذي ترى أنه
"الجنة"، وتطلب بعد إعدامها أن تُخلّد ذكراها بنافورة ماء؛ تزيّن
الساحة، وتروي الظمأ، وتطرد الفراشات السود. وهنا، تكون برتا وفية، حتى لمن أجمعوا
على إعدامها، وتبلغهم بالحقيقة التي لم يدركوها، وهي: لن يأتي الشرّ بالخير
إطلاقًا.
ثالثًا: حكم وأقوال مأثورة:
هناك العديد من الحكم والأقوال التي أوردها "باولو كويلو" في
السرد، والتي يمكن وضعها في سياق الأقوال المأثورة
والمهمة، مثل: "لا أحد يصيب هدفه وهو مغمض"، "الحب مسألة
وقت"، "للخير والشر وجهًا واحدًا، كل شئ يتعلق باللحظة التي يلتقيان
فيها بالكائن البشري"، "الأغنياء لا يبذّرون أموالهم إطلاقًا، وحدهم
الفقراء يفعلون"، "الصياد الماهر: يفرض شروطه، ويستدرج الطريدة
إليه"، "كي تهزم شخصًا، عليك أن تعرفه"، "خير للإنسان أن يكون
فقيرًا وشريفًا من أن يكون ثريًا في السجن"... وغير ذلك.
خلاصة القول
هكذا، كنا مع رواية عالمية؛ حيث توافرت لبنيتها مقومات
الكمال الفني، وتوافرت لكاتبها وجهة النظر التي تستحق الإشادة، ولا سيما من خلال
ال
أما السرد الروائي، فقد جاء بأسلوب سلس ومحكم وخالٍ من
التعقيدات اللغوية والمفاهيمية، مما جعل الرواية قابلة للفهم وإدراك ما وراء النص
من قبل القارئ، أيًا كانت ثقافته أو لغته أو ديانته.
فلسطين، بيت لحم،
العبيدية، 18/04/2015م
[2] انظر: عبد المنعم القاضي. "هندسة الرواية: قراءة في بنية السرد الموازي عند محمد
قطب"، الصادر في العام (2016) عن "عين للدراسات والبحوث الإنسانية
والاجتماعية" ص:
272.
[4] فيها
ثلاثة شوارع، وساحة صغيرة، وعدد من المنازل الخربة، ومنازل في حالة جيدة، وفندق،
وصندوق بريد، وكنيسة ومقبرة صغيرة بقربها (ص: 80).
إرسال تعليق Blogger Facebook