0
جهاد أحمد صالح في كتابه "عبد الرحيم محمود: جزالة الشعر وروعة الاستشهاد":
ينقّب عن درر الشاعر-الثائر.. ويكشف ما لم نعرفه من قبل!
نُشِرَ في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 03/02/2018م، ص: 14
                                                         عزيز العصا
تقديم
جهاد أحمد صالح؛ مؤرّخ وكاتب فلسطيني، بدأ حياته مناضلًا؛ حمل البندقية مدافعًا عن وطنه وقضيته. واستقرّ به الحال قصصيًا وكاتبًا باحثًا في الشأن الثقافيّ، مركّزًا جل اهتمامه على رواد الفكر والأدب الفلسطينيين، والتي آخرها موسوعة "روّاد  النهضة الفكرية والأدبية وأعلامها في فلسطين"، منذ بداية النهضة (في العام 1829م) حتى النكبة في العام (1948م)، أنجز منها خمسة مجلّدات –حتى تاريخه- تضم نحو مائة شخصية.
أما الانتاج الفكري الذي نحن بصدده، لـ "جهاد أحمد صالح"، فهو كتابه "عبد الرحيم محمود: جزالة الشعر وروعة الاستشهاد"، الصادر، في طبعته الأولى، عن الكلية العصرية الجامعية في رام الله، في العام 2013. يقع الكتاب في (193) صفحة من القطع المتوسط، يتوزع عليها سبعة فصول؛ تم تخصيص الفصل الأول منها لأسرة الشاعر عبد الرحيم محمود وحياته وجهاده وعصره، وتخصصت الفصول الستة الأخرى في شعره، بأبعاده ومجالاته المختلفة.
بالرغم من أن هناك العديد من الباحثين الذين سبروا غور هذه الشخصية الفذة، لدرجة أن هناك رسائل جامعية –على مستوى الماجستير والدكتوراة- تناولته بالدراسة والتحليل، إلا أن "جهاد أحمد صالح" تمكن في هذا الكتاب-الدراسة من جمع وتبويب وتصنيف البيانات والبيّنات ذات الصلة، والتي توزّعت بين الباحثين، لا سيما من بحثوا في مجال أشعاره وقصائده. وبقراءة "متمعّنة" لهذا الكتاب-الدراسة وجدتُني أمام مجموعة من الحقائق، أهمها:     
أولًا: عبد الرحيم محمود: شخصية متعددة الأبعاد

جهاد أحمد صالح في الكلية العصرية 20 شباط 2017
برزت مواهب "عبد الرحيم محمود" وقدراته، منذ طفولته المبكّرة، وقال عنه والده، الذي تركه يتيمًا بعمره: سيكون لعبد الرحيم شأن عظيم، ولقّبه بـ "الوجيه"([1]). لقد تبوّأ "عبد الرحيم محمود" في التاريخ الفلسطيني ثلاثة مقاعد مهمّة في آنٍ معًا، حظي في كل منها بمستوى متقدم، احتل فيه الصدارة:
أما المقعد الأول، فهو مقعد الشعر، فقد كان شاعرًا، وقد بزغ نجمه مبكّرًا، حتى قال الأستاذ الشاعر الفلسطيني "إبراهيم طوقان" في تلميذه "عبد الرحيم محمود": أنت يا "عبد الرحيم" شاعرٌ مطبوعٌ وأديب موهوب منذ هذه اللحظة، ولستَ بحاجة إلى من يُصلح لك شِعرك"([2]).
وأما المقعد الثاني، فهو مقعد التربوي والمثقّف واللغويّ. إذ كان يلتهم كل كتاب يقع بين يديه، ولديه شغفٌ كبير باقتناء الكتب، وهو يردد عبارة "كلما رأيت كتابًا تمنيته لي"([3]). وأما كتربوي فقد جعل من السبورة والقلم والكتاب أدوات بناء لشخصيات تلاميذه، وتوعيتهم فكريًا ووطنيًا.
وأما المقعد الثالث، فهو مقعد الثورة والسياسة والفكر؛ فقد كان عبد الرحيم محمود ثائرًا في وجه الاستعمار البريطاني، يدرك أن لا قيمة للفرد بلا حرية ولا كرامة وطنية. وتجشّم في سبيل الثورة عناء الملاحقة والمطاردة، للحد الذي جعل المحتل البريطاني يعمم بمذكرة "اقبضوا على عبد الرحيم محمود حيًا أو ميتًا"([4])، والسفر والترحال والغربة، وصولًا إلى إيران، إلى جانب رفاق السلاح، أشهرهم: القائد عبد القادر الحسيني، والقائد القسّامي عبد الرحيم حاج محمّد.
لقد قام المرحوم "عبد الرحيم محمود" بتوظيف سمات وخصائص وامتيازات المقعدين الأوليْن في تعزيز الثالث المتمثّل في الثورة العارمة في وجه المحتل، وأينما يصطدم أيًا منهما مع الثورة، كان يضع الثورة ومقاومة المحتل في الصدارة. فقد وجّه شعره، بل كرّسه للثورة، ولحث أبناء شعبه على مقاتلة الأعداء، فهو صاحب القول الذي يتردد على لسان كل عربيِّ حر:
سأحمل روحي على راحتي// وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق// وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
وفي وصف "القاعدين" عن الجهاد والكفاح ومقاتلة الأعداء، يقول([5]):
وقلت لمن يخاف من المنايا// أتفْرَقُ من مجابهة العوادي
أتقعد والحمى يرجوك عونًا// وتجبن من مُصاوَلةِ الأعادي
فدونك خِدْرَ أُمكَ فاقتعدهُ// وحسبك خسّة هذا التهادي
كما كان "يخرج مع تلاميذه ليلًا لقذف دوريات الاستعمار البريطاني بوابل من الرصاص، الذي يوقع في صفوف المحتل خسائر فادحة"([6]). ومن معاصرينا الذين تتلمذوا على يديه المناضل "بسام الشكعة" الذي قال([7]): أفخر بأنني عشت سنوات تعليمي الابتدائي والثانوي في رحاب وتوجيه أستاذي الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود".
ثانيًا: أشعار عبد الرحيم محمود وقصائده تغطي مساحات واسعة من يوميًات الحياة الفلسطينية
تبين من هذه الدراسة أن الشاعر عبد الرحيم محمود لم يكن منغلقًا على نفسه، أو على موضوع بعينه، ينظم الشعر حوله، وإنما تجده يكاد لا يترك شأنًا مما يحدث في يوميّات عصره ومشاهداته، إلا ونظم فيها شعرًا. فقد حصر "جهاد أحمد صالح" قصائده ووزعها على المحاور التي نظمت بشأنها، فوجد أنها خمسة مجالات واسعة، هي: الوطني والقومي، والاجتماعي، والإنساني والتأملي، والديني، والمرأة والغزل.
ولعل من أجمل ما تمتع به شاعرنا أنه كان يساري النزعة –كما يقول حنا ابو حنا-، إلا أنه نظم شعرًا في الشأن الديني، كما أنه سبر غور النفس البشرية، وعالج قضايا الحب والغزل. وفي ذلك كله نجد أن الشاعر عبد الرحيم محمود قد وظّف شعره في بناء مجتمع متماسك ملتحم خلف قضيته الوطنية في مواجهة المحتل البريطاني، الذي كان يعد المكان لإنشاء الدولة العبرية على حساب أمن الشعب الفلسطيني واستقراره.       
ثالثًا: معضلة التوثيق: ظاهرة تتكرر في كل المجالات.. وتصيد قصائد عبد الرحيم محمود
لا يمكن للباحث في شأن القضية الفلسطينية، إلا أن يكتوي بمعضلة التوثيق التي تعني أن هناك ضعفًا، بل خللًا واضحًا في الوثائق في شتى المجالات، للحد الذي يجعلنا نفتش عن فتات الباحثين الأجانب، أو ننتظر ما يتم الإفراج عنه من وثائق هنا وهناك.
وفي حالتنا هذه، لم يخف الباحث انزعاجه مما مرّت به عملية تحقيق ديوان قصائد الشاعر، والتي كانت عبارة عن (428) بيتًا فقط في العام 1958؛ لأن اللجنة التي قامت على الديوان ارتأت استبعاد العديد من القصائد والأشعار. ليتبيّن فيما بعد أن الحذف جاء لأسباب مزاجية شخصية، وسياسية وفكريّة. ثم توالت عمليات تحقيق الديوان واعتماد القصائد والأشعار، وفي كل مرّة تزداد أعداد الأبيات، حتى استقر الوضع في العام (1993) على يد الباحث "د. عز الدين المناصرة"، بديوان ضمّ (75) قصيدة تتكون من (1978) بيتًا من الشعر، بالإضافة إلى (6) مقالات نثرية. في حين أنه في العام (2004) أصدر د. وليد جرار ديوانًا لشعر "عبد الرحيم محمود" احتوى (74) قصيدة تتكون من (1693) بيتًا من الشعر([8]).     
رابعًا: عبد الرحيم محمود أنموذج للأدب الثوري
قام الباحث في هذه الدراسة بتخصيص الفصل السابع والأخير لـ "سمات الصورة الشعرية عند عبد الرحيم محمود". ويتضح من خلال آراء النقّاد التي جمعها وبلورها "جهاد أحمد صالح" أن عبد الرحيم محمود يشكل أنموذجًا حيًا على "الأدب الفلسطيني الثوري"؛ فقد كان شاعرًا فارسًا في مضمون شعره، وأن شعره –وقد ركّز على الناحية القومية والوطنية والسياسية- صورة لفظية لتجاربه التي خاضها، وقصائده تسبر أغوار التجربة الإنسانية. كما أنه شعر عذب رقيق قريب إلى القلب، ينطلق من التقليدية إلى الواقعيّة الحديثة([9]).
ويذهب الباحث إلى أبعد من ذلك، في دراسته لأشعار لشعر عبد الرحيم محمود، والتي يرى أنها تتمتع بسمات أساسية تقوم على التشبث بالهويّة الوطنيّة ونموذج القسّام، والإحساس القومي والافتخار بمجد العرب، واستيحاء الصور القرآنية والموروث الشعبي، وفي معظمه واقعيّ على الرغم من بعض الخصائص الرومنسية في بعض القصائد التأمليّة([10]).
خلاصة القول،
كنا في رحلة شيّقة مع سيرة ومسيرة قائدٍ فذ، رفض الركون إلى الراحة والشهرة؛ وانطلق مقاتلًا بالكلمة –شعرًا ونثرًا- والبندقية، وصهرهما في بوتقة واحدة، جعلت منه مدرسة قائمة بذاتها، يشكّل أنموذج عزٍّ وفخار للأجيال الفلسطينية والعربية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولا بد هنا من الإعادة إلى الأذهان قول د. ناصر الدين الأسد: "كانت حياة عبد الرحيم محمود هي شعره، واستشهاده هو قصيدته الكبرى"([11]).
يتضح من هذه الدراسة أن هناك ضرورة قصوى لمراجعة سير قادة الفكر والثورة والمبدعين الفلسطينيين في شتى المجالات، ليس كأحد أشكال "اجترار" الماضي، والبكاء على الأطلال، وإنما من أجل الإنصاف ووضع الأمور في نصابها الصحيح أولًا، ولأن دارسة التاريخ وسبر غور الأحداث التاريخية، بعلمية وموضوعية وبعيدًا عن الخطابة الجوفاء، هو جزء لا يتجزّأ من التخطيط السليم للمستقبل؛ من منطلق الإفادة والاستفادة من تجارب الأجيال السابقة في إنارة الطريق للأجيال اللاحقة الباحثة عن الهوية الوطنية والقومية، في ظل التحديات التي تعيشها الساحة على المستويات السياسية والاجتماعية والفكرية.
وعليه، فإن ما يقوم به الباحث "جهاد أحمد صالح"، من توثيق لسير روّاد النهضة الفكريّة والأدبيّة، هو إنجاز وطني وقومي، فيه انتصار للثقافة وللفكر ولتاريخنا الذي يكاد يندثر، ما لم نتيقظ لجمعه والمحافظة عليه؛ لأنه مكوّن أساسيّ لهويتنا الوطنية التي يتربص بها أعتى قوى الأرض، بهدف محوها مرّة وإلى الأبد!  
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 01/01/2018م



 





[1] صالح، جهاد أحمد (2013). "عبد الرحيم محمود: جزالة الشعر وروعة الاستشهاد". الكلية العصرية الجامعية. رام الله. فلسطين. الطبعة الأولى. ص: 17.
[2] نفس المرجع السابق. ص: 26.
[3] نفس المرجع السابق. ص: 25.
[4] نفس المرجع السابق. ص: 21.
[5] نفس المرجع السابق. ص: 43.
[6] نفس المرجع السابق. ص: 20.

[7] مناصرة، عز الدين (2012). الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود (1913-1948) في ذكراه. أنظر الرابط (أمكن الوصول إليه في 01/01/2018م): https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2012/07/30/267028.html

[8] صالح (2013). مرجع سابق.  ص: 30-33.
يؤكد الباحث "جهاد أحمد صالح" أن د. وليد جرار وعز الدين مناصرة، لم يطلع أي منهما على تحقيق الآخر (ص: 33).
[9] صالح (2013). مرجع سابق.  ص: 158-159.
[10] نفس المرجع السابق. ص: 162-182.
[11] نفس المرجع السابق. ص: 153.

إرسال تعليق Blogger

 
Top