0
المهدي المنجرة وصموئيل هنتغتون... وصراع الحضارات
نُشِرَ في صحيفة القدس، بتاريخ: 07/02/2018م، ص: 11        
بقلم: د. وليد الشوملي






المهدي المنجرة؛ اقتصادي وعالم اجتماع مغربي، ولد في مدينة الرباط سنة 1933م، وتوفي فيها سنة 2014 عن عمر يناهز 81 عاما. ويعتبر المنجرة من الرواد الأوائل في تخصص الدراسات المستقبلية، كما يعتبر أحد أكبر المراجع على الصعيدين العربي والدولي في القضايا السياسية والعلاقات الدولية والدراسات المستقبلية.
   
بعد أن حصل على الثانوية العامة في المغرب، سافر المنجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية والتحق بجامعة كورنل، حيث بدأ بدراسة البيولوجيا والكيمياء. إلا أنه سرعان ما اكتشف شغفه بالعلوم السياسية والاجتماعية؛ مما دفعه إلى دراستهما فيما بعد، للحصول على شهادة البكالوريس في العلوم السياسية منها. ثم سافر المنجرة إلى بريطانيا سنة 1954 لمتابعة دراسته العليا بكلية لندن للاقتصاد، حيث كانت أطروحته لنيل الدكتوراة حول موضوع "الجامعة العربية-البينية والتحديات".
تبوأ المنجرة العديد من المناصب الدولية والفخرية أهمها أستاذا وباحثا في كلية لندن للاقتصاد، والمستشار الخاص للمدير العام لليونسكو، وعضوا مؤسسا في نادي روما الذي تأسس في عام 1968م.
ويجب التنويه هنا إلى أن الامبراطور الياباني كان قد منح المنجرة في العام 1986م وسام "الشمس المشرقة" الوطني عن بحث قام به بخصوص أهمية "النموذج الياباني" بالنسبة لدول العالم الثالث، حيث أن اليابان تعتبر أنموذجًا فريداً في التوفيق بين الأصالة الشرقية والحداثة الغربية. ثم تولى عمادة بعض الجامعات اليابانية في التسعينيات من القرن الماضي، مما أتاح له الفرصة الاطلاع عن كثب على التجربة اليابانية.
كانت ثقافة المنجرة أنجلوساكسونية، على نقيض الغالبية الكبرى من مفكري ومثقفي المغرب العربي الذين هم خريجي الثقافة الفرنكوفونية. لقد ابتكر المنجرة مفاهيم جديدة مثل "الاستعمار الجديد" و"الميجا-امبريالية" وغيرهما، وتكلم عن جشع الليبرالبة الجديدة التي نَعَتها بالمتوحشة.
لقد دافع المنجرة عن حق دول العالم الثالث في التنمية، ونادى بالعدالة والإنصاف للشعوب المضطهدة والمستغلة. ويقارن المنجرة بين الحضارات القديمة والمتجذرة في عمق التاريخ وبين الغرب المتغطرس صاحب الحضارة الأقل عراقة وتجذرا حيث يقول: "الغرب متغطرس ثقافيا؛ لأن فضاءه الزمني التاريخي محدود، وحين تذهب الى العراق أو الصين أو إلى أمريكا اللاتينية تجد لديهم ثقافة متجذرة ومتطورة، وفي الولايات المتحدة تجد بالمقابل الأكلات السريعة. إن التقدم العلمي لا يعني آليا امتلاك ثقافة التواصل مع الآخر". ويضيف: "أنا أعتقد أن العالم يعيش حالة انفجار، وهنا أعود لاستخدام تعبير "الانتفاضة". فالانتفاضة انفجار يحدث حين يبلغ السيل الزبى. ثمة ظلم هائل في العالم، ومن اللازم إيجاد الحلول كي يكون كل الناس رابحين، وكي لا يكون هناك خاسر".
بصفته عالم مستقبليات دولي، فقد درس المنجرة معطيات الماضي والحاضر لاستشراف المستقبل، إذ أنه استشرف احداثاٌ عالمية كثيرة، وقد تحدث المنجرة عن حرب الخليج الأولى التي سماها "الحرب الحضارية" قبل حدوثها، وتنبأ بوقوع أحداث الربيع العربي في كتابه "الانتفاضة في زمن الذلقراطية" الذي صدر عام 2006م، وكذلك تنبأ بالأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي حدثت عام 2008م، من خلال أطروحته "الميغا إمبريالية".
إذن سبق المنجرة المفكر الأمريكي صموئيل هنتغتون في استخدامه لمفهوم صدام الحضارات، ولكن تحت مسمى آخر وهو "الحرب الحضارية".
والفرق الكبير بين المنجرة وهنتغتون في توصيفهما للحرب الحضارية أو صدام الحضارات هو أن الأول يطرح الموضوع من منطلق وقائي تحذيري، الغاية منه ترسيخ قيم العدالة الإنسانية، وتفادي الصراعات بين الشعوب والدول التي تجر في أذيالها كوارث على البشرية، ولضمان استمرار القيم المثلى في كافة المجتمعات. أما هنتغتون فتحدث عن صدام أو صراع الحضارات من منطلق أصولي قومي وخطابه خطاب دفاعي، يؤكد فيه أن الخطر على الغرب سيأتي من العالم غير اليهودي-المسيحي.
فالمنجرة من خلال أطروحته عن صراع الحضارات ينادي من أجل تحقيق السلام والأمن والعدل والقيم الانسانية العليا، في حين يسعى هنتغتون إلى تأجيج الصراع وخلق حالة من الرعب لدى الشعوب التي تنتمي إلى الحضارة الغربية، ودب الذعر فيهم وتخويفهم من الإسلام والحضارة الصينية الكونفوشستية على وجه الخصوص. ففي حين ينادي المنجرة إلى خلق حوار حضاري بين الشمال والجنوب لدفع الأخطار المحدقة وخلق حالة من السلام العالمي، يخلق هنتغتون حالة من التوتر والذعر في العالم الغربي.
تستند أطروحة هنتغتون في صراع الحضارات على قاعدة أن الصراع بين الدول والشعوب لم يعد أيديولوجيا أو سياسيا أو اقتصاديا، بل إنه الاختلاف الثقافي والديني، وقد سبق له أن وضع تسلسلا زمنيا لمراحل وأشكال الصراع في التاريخ الإنساني. فأول ما بدأ الصراع -حسب رأيه- بين الملوك والأباطرة، ثم أصبح الصراع  بين الشعوب أي بين الدول القومية،  ثم أيديولوجياً إبان الحرب الباردة. أما في مرحلة ما بعد الحرب الباردة فقد أصبح الصراع بين الحضارات أو بمعنى آخر بين الهويات الثقافية المختلفة.
لقد جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 وتفجير مركز التجارة العالمي وكأنها تؤكد صحة نظرية هنتغتون أو لتحقق نبوءته. ويبدو أن أطروحة هنتغتون هذه هي امتداد لأطروحة "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" للشاعر الإنجليزي "روديارد كبلنغ" في نهاية القرن التاسع عشر، التي أصبحت وكأنها حقيقة راسخة لدى الكثيرين في الشرق والغرب على حد سواء، وأنه لا يمكن جسر الهوة بينهما في الأمد المنظور. وقد تولد لدى الكثيرين القناعة بأن التقاليد والإرث الروحي والثقافي والنظم السياسية لكل منهما تختلف عن الآخر. ويحدث أن تعقد، في كثير من الأحيان، المؤتمرات العالمية لجسر الهوة بين الشرق والغرب، ويتم نوع من الهدنة المؤقتة بينهما التي سرعان ما تنهار ليعود الصدام بينهما إلى سابق عهده.
في نقده لأطروحة "صراع الحضارات" يرى المفكر العربي الكبير إدوارد سعيد أن اختلاق الغرب لهذه الأطروحة وكتابة هنتغتون عنها عام 1993 (أي بعد سقوط جدار برلين عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991) تحمل وراءها  دلالات وخفايا كثيرة. ويضيف سعيد أن هنتغتون اعتمد بشكل كبير على أستاذه "برنارد لويس" ( الذي كان دائما على خلاف مع سعيد نفسه وخاض عدة جدالات فكرية معه)، الذي كتب مقالته المشهورة " جذور الغضب الإسلامي" .
إذن فأطروحة هنتنغتون تلك جاءت انعكاسا للعقل السياسي الغربي والأمريكي على وجه الخصوص، وكأنها دعوة لضرورة وجود أعداء طيلة الوقت من أجل السيطرة والهيمنة على شعوب دول العالم الثالث، وما أن يتلاشى عدو يخلقون عدواً آخر وهكذا. فبعد سقوط المعسكر الشيوعي  وانتهاء الحرب الباردة، كان من المتوقع أن تختفي مسببات الصراع وأن يعيش العالم بسلام، إلا أن أطروحة هنتغتون تلك جاءت لتعبر عن عقلية البنتاغون الأمريكية في خلق الحروب والصراعات على الدوام. ويرى بعض الباحثين أن أطروحة "صراع الحضارات" جاءت انسجامًا مع أطروحة "نهاية التاريخ" لفرنسيس فوكوياما التي تخلق المناخ الملائم للإنسان الغربي لكي يحرز نصرًا مؤزرًا على جميع الحضارات.  
على أية حال، فإننا  نعترف لهنتغتون بنزاهته وموضوعيته العلمية، حيث يعترف في الفصل العاشر من كتابه "صدام الحضارات" أن المنجرة هو أول من تحدث عن الصراع بين الحضارات، ولكن من منطلق مختلف تماما عن منطلق هنتغتون كما أسلفنا ويقول: "وصف المفكر المغربي البارز المهدي المنجرة حرب الخليج اثناء حدوثها بأنها أول حرب حضارات والحقيقة أنها كانت الثانية، فالأولى كانت الحرب السوفيتية-الأفغانية في الفترة 1979-1989".
ويضيف قائلا: "كلا الحربين بدأتا كغزوٍ مباشر قامت به دولة لأراضي دولة أخرى، ولكنها تحولت إلى حروب حضارات وصارت تعرف بذلك. والحقيقة أيضاً أنها كانت حروب انتقال الى حقبة يغلب عليها الصراع الإثني وحروب خطوط التقسيم بين جماعات تنتمي إلى حضارات مختلفة".
 ويشير المنجرة في كتابه "قيمة القيم" الى هذا الإعتراف من قبل هنتغتون قائلا: "يعترف هنتغتون في الفصل العاشر من كتابه صدام الحضارات بأنني كنت أول من استخدم عبارة الحرب الحضارية". إن إرشادات المنجرة وتحذيره العالم من الخراب والدمار والى تجنب الصراعات بين الحضارات والثقافات، واستشرافه لما قد يحدث في العالم من دمار، أدت بالوزير الفرنسي ميشال جوبيير لأن يطلق عليه وصف "المنذر بآلام العالم".

05/02/2018م

إرسال تعليق Blogger

 
Top