0

 نادية الخياط في "احتَرَقَتْ لِتُضيءَ":

الغلاف جزء من النص، والرواية واقعية بحبكة نمطيّة!

نشر في صحيفة القدس، بتاريخ: 28/06/2021، ص: 11

                                                         عزيز العصا

معهد القدس للدراسات والأبحاث/ جامعة القدس

http://alassaaziz.blogspot.com/

aziz.alassa@yahoo.com

نادية الخياط؛ مناضلة فلسطينية، خاضت الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي في سبعينيات القرن العشرين. اعتقلت وحكم عليها بالمؤبد وعشرين عامًا، فلم تأبه، هي ورفيقاتها للحكم، ليس قبولًا أو اعترافًا بالاحتلال وقوانينه وأحكامه، وإنما لإيمانها، هي ورفيقاتها الأسيرات، بأن التضحية دفاعًا عن الوطن واجب ما بعده واجب، وأن لحظة الفرج قادمة رغم أنف الاحتلال. وهذا ما حصل بالفعل؛ فبعد قضائها أربع سنوات فقط، خرجت "محررة"، بعد أن "أجبر" الاحتلال على نقلها من السجن إلى الطائرة لتلتحق بالثورة التي انتسبت لها منذ طفولتها. لترمي الاحتلال وحكمه خلف ظهرها، وكأنه لم يكن.



أعرف "نادية" منذ بضع سنوات، وقد خاضت تجربة الكتابة والتوثيق من خلال مشاركتها في كتاب "حفلة لثائرة: نساء يكتبن الحياة"، صادر عن "إي كتاب" في لندن عام 2017، إعداد الكاتبة "هيفاء زنكنة. وكانت مساهمة "نادية" بعنوان: "
ولن تفهمواوصفت فيها حالة الارتباك والاضطراب النفسي الذي الغيظ والقهر الذي مني به جلاوزة السجن؛ القاضي والسّجّان والسجّانة، عندما استقبلت الأسيرات الأحكام العالية برحابة صدر وابتسامة أغاظتهم جميعًا ورفعت من معنويات الأسيرات. مما يؤكد أن هؤلاء "لن يفهموا" أن الثوار الفلسطينيون لا يتوقفون عند الأثمان التي يدفعونها دفاعًا عن وطنهم.   

منذ تلك التجربة الكتابية، انطلقت "نادية الخياط" لتطوير تجربتها الكتابة، بتدريب ومتابعة الروائية "ابتسام أبو ميّالة"، لتتوَّج هذه التجربة برواية تحمل إسم "نادية الخياط"، وقد جاءت بعنوان "احتَرَقتْ لتُضيء" صادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينية، عام 2021، وهي تبدأ بغلاف يحمل ملامح النص الروائي؛ مقطع من رسالة إلى رفيقة دربها في المعتقل "حنان" مشبعة بعبارات ثورية عارمة، وقصاصة من جريدة تحمل خبر استشهاد شقيقها عام 1980 عن عمر يناهز (29) عامًا، وقصاصة جريدة عتيقة تحمل خبر مؤتمر صحفي للمناضلة "نادية الخياط".

وفي ذلك إشارة واضحة إلى أننا مقبلين على سرديّات بنكهة الثورة والثوار. وعند الولوج إلى النص، تجد بين الغلافين رواية "واقعيّة" تتوزع على (182) صفحة من القطع المتوسط، تحتضن (9) سرديًات؛ لكل منها موضوعها، التي تتكامل، فيما بينها، بخيط روائيّ متين بطلته الكاتبة نفسها، وهي تتحدث بلغة الـ (أنا)، لتخرج بهذه الرواية كلوحة جميلة.

تقوم الثيمة "القضية" الروائية الرئيسة، لرواية "احتَرَقتْ لتُضيء"، كما رأيتها، على وصف دقيق وتفصيلي لصراع البطلة مع المحتلّ الذي سعى، بكل السبل، إلى إخضاعها وثنيها عن الاستمرار في الثورة ضده. إلا أنها تصمد وتحتمل الضغوط كافة، لا سيما قرار الحكم الجائر (مؤبد وعشين عامًا) لينتهي الأمر بها محرّرة، لتعاود محاربة المحتل.

  لقد قامت الكاتبة ببناء شخصيات روايتها بسهولة ويسر؛ فالبطلة هي الشخصية الرئيسة التي تمحورت حولها الرواية، يصطف إلى جانبها السجّان/ة على طول النص، وهناك شخصيات ثانية دخلت النص وخرجت منه، كالمحقق، والأب والأم. وقد جاءت البطلة بصفات وسمات اعتمدت عليها بنية الرواية حتى آخرها، منها: مواجهتها للتحديات التي فرضها الاحتلال عليها، وقبولها الخوض في تلك التحديات للانتصار على السجان (معنويًّا)، كما تميزت بجذب الحلفاء إلى جانبها، كما فعلت عند استقطاب اليهوديات في المعتقل لصالح قضيتها، لحد وقوفهنّ في وجه السجّان وإرغامه على التراجع عن بعض قراراته الجائرة بحق نادية ورفيقات دربها. وعند مرور البطلة بلحظات من اليأس والقنوط، كانت تطور أفكارًا ورؤى تمكن الأسيرات من الصمود والخروج إلى عام الأمل والتفاؤل.

أما الحبكة؛ أي محور حديث الرواية، فكانت نمطية؛ إذ تسلسلت الأحداث بشكل طبيعي بدءًا من لحظة ولادة المشكلة، ثم تسلسل تصاعدها وصولًا إلى حلّها. كما قامت "نادية" بإنشاء مجموعة مرتكزات هامة اتّكأت عليها الرواية، شكلت هيكلها الأساسي الذي مكّن الكاتبة من تحقيق سرد روائي متماسك، يسير بالقارئ بين ثنايا النص بمتعة وشوق للحدث القادم عند مغادرة السردية. ويتكون هذا الهيكل من بنيتين، هما: البنية المكانية والتي تمثلت بالسجن وزنازينه وأقبيته وساحاته. والبنية الزمانية، وهي الفترة الممتدة بين عاميّ 1979 و1983.

وأما الابعاد التي تتكئ عليها مظلة هذه الرواية، والتي يتفيّأ تحتها القارئ الباحث عن جمالية الزمان والمكان التي تكمن في النص، فهي:

-       البعد الواقعي: وقد يكون هذا البعد الأكثر بروزًا في هذه الرواية، فقد ساد فيها السرد، بأساليب درامية، لقصة أسيرة، بل أسيرات، وأحداث حقيقية، شكلت نماذج إنسانية ووطنية صادقة، أرادت الكاتب من خلالها تسليط الضوء على شرور السجن وعذابات الأسير، وقيم التضحية من أجل الوطن. واستخدم الكاتبة عددًا كبيرًا من الأسماء الواقعية، مثل: نادية نفسها، وهو الاسم الحقيقي للبطلة، و"ثائرة" المولودة في السجن، وأمها "سميحة"، وزكية شموط، وتريز هلسة، وعائشة عودة، وحنان مسيح، وعطاف يوسف... الخ.

-       البعد العاطفي: فقد كانت العواطف جليّة واضحة، من خلال تعلّق الأسيرات بمدنهنّ وقراهنّ، وتعلق البطلة بوالديها وأشقائها، لا سيما شقيقها الشهيد، والبكاء والحزن الشديد عند مغادرة أي من الأسيرات.

-       البعد الوطني: فقد برز في رواية "نادية الخيّاط" بوضوح ما يتعلق بالتضحية من أجل الوطن، رغم قسوة الظروف وشراسة السجان، والفارق الكبير في القوة والعتاد، فكانت البطلة ومن معها من الأسيرات يبدين مقاومة قوية لأي محاولات من قب السجّان تمس بكرامتهن أو بروحهن الوطنية، دون الالتفات إلى الثمن الذي يمكن أن تفعه الواحدة من هنّ من عزل أو سجن انفرادي أو نقل تعسفي... الخ.

   وأما بشأن بنائية الرواية، فقد تمكنت الكاتبة من توظيف الاستعارات والكنايات والبلاغة والسخرية (المرّة)، وتظيف "خلطات" لغوية من العبريةن حتى اجتمعت في هذه الرواية متعة السرد ومتعة الإيهام بالحقيقة، بخاصة تلك المتعلقة بالبطلة "نادية الخياط".

خلاصة القول،

لقد أمضيت ساعات وأنا أقرأ رواية "احتَرَقتْ لتُضيء" لكاتبتها "نادية الخياط"، فوجدتُ فيها نكهة الرواية الواقعيّة التي تشكّل إضافة نوعيّة مهمة للمكتبة الفلسطينية على وجه الخصوص والمكتبة العربية عامّة. كما أنها تقدم خدمة للمجتمع الفلسطيني وللقضية الفلسطينية؛ إذ أنها تشكّل إسهامًا متميّزًا في الرواية الفلسطينية، وتوثّق للظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني في سبعينيّات وثمانينيّات القرن العشرين، والذي لا يزال بنفس الوتيرة، رغم الاتفاقيات والمعاهدات الموقّعة مع الاحتلال بشهادة ودعم دولييْن.

وأما الأبعاد المعرفية والتوعوية، فقد وجدتُ هذه الرواية تزدحم بها، للحد الذي يجعلك تعتقد، وأنت تتجول بين ثنايا النص، بأنك في مدرسة وطنية وسياسية متكاملة الأركان. وأكاد أرى في سرديّة "ولن تفهموا" ذرورة سنام الأحداث، التي تشكل مفصلًا مهمًّا ومؤثرًا بين مرحلتين في السجن؛ إذ بعد أن تمضي البطلة مائة وخمسة أيام في أقبية التحقيق، في صيف عام 1979م، تنتقل البطلة إلى السجن مع رفيقاتها في الكفاح، وفي الهمّ الوطنيّ.  فتبدأ الأيام تمر برتابة وتكرار يتخلله صعودًا وهبوطًا في الأحداث، وما يصاحب ذلك من توتّرات مع السّجان الذي تواجهه الأسيرات دون خوف أو وجل. ولعلّ ذرورة الذكاء والقدرة على التأثير على معنويّات السجان، ذلك المشهد الذي أشرنا عليه في مطلع ها المقال، وهو عدم اكتراث الأسيرات لأحكامهن العالية؛ الأمر الذي حطّم النظرية الاحتلالية القائمة على أن الأحكام العالية تحبط الثوار وتثنيهم عن المضيّ في طريقهم في محاربته، فتكون النتيجة عكس ذلك تمامًا، وبعد بضع سنوات تخرج الأسيرات إلى النور، وتعود لمحاربته، ويبقى السّجّان مكانه يعيش عقدة الجرم الإنساني في حالة من اليأس والقنوط والإحباط.         

فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 12/06/2021م

 

إرسال تعليق Blogger

 
Top