0

 ميّ الغصين في "حجرُ الفُسيفِساء":

الأسيرات الفلسطينيات يُضربن عن الطعام، ويُدرن ظهورهن لأبواب السجن المفتوحة!

نشر في صحيفة القدس بتاريخ: 26/08/2021، ص: 13

                                                         عزيز العصا

http://alassaaziz.blogspot.com/

aziz.alassa@yahoo.com


ميّ وليد الغصين؛
مناضلة فلسطينية، فتحت عينيها على الدنيا، وقد احتُلّ وطنها. وقبل أن تغادر عمر الطفولة انطلقت انتفاضة الشعب الفلسطيني في وجه أطول وأشرس احتلال في التاريخ. فانطلقت "ميّ" تقاوم الاحتلال وتهاجمه بشتّى الوسائل، إلى جانب أبناء شعبها المنتفضين من جميع الأعمار ومن شباب وشابات ورجال ونساء. وعندما كان الاحتلال يراقب كل شيء بوسائله وأساليبه الشيطانية، فقد تمكن من "ميّ" واعتقلها سنة 1991م، وحكم عليها بـ "مؤبد واثني عشر عامًا"، فتحررت من السجن بعد ست سنوات؛ عام 1997م. 

تعرفتُ على "ميّ" منذ بضع سنوات، وقد خاضت تجربة الكتابة والتوثيق من خلال مشاركتها في كتاب "حفلة لثائرة: نساء يكتبن الحياة"، صادر عن "إي كتاب" في لندن عام 2017، إعداد الكاتبة "هيفاء زنكنة. وكان لـ "ميّ" ثلاث مساهمات منحت هذا العمل الأدبيّ المشترك رونقًا خاصًّا، هي: حنين، وصاحب الظل الطويل (جزءان) ورقصة المطر. وبقراءة متمعنة لتلك المساهمات، نجد أنفسنا أما كاتبة جادّة، ذات رؤيا ثاقبة، وقادرة على إدارة القلم بما يخدم فكرها وقضيتها التي ضحّت من أجلها بزهرة عمرها.   

وعليه، فإن المتابع لكتابات "ميّ الغصين" يتوقّع نموًّا مضطردًا في تطور تجربتها الكتابية، لا سيما بعد تدريب ومتابعة الروائية "ابتسام أبو ميّالة"، لتتوَّج هذه التجربة برواية تحمل إسم "ميّ الغصينبعنوان "حَجَرُ الفُسيفِساء" صادرة عن مركز بيت المقدس للأدب، عام 2021، وهي تبدأ بغلاف يحمل لوحة للفنان التشكيلي السوري "مجد كيالي بن عبد اللطيف، وهي لوحة "فسيفسائية" تحمل ملامح العنوان.  

وعند الولوج إلى النص، تجد نفسك أمام "رواية واقعيّة"، تتوزع على (222) صفحة من القطع المتوسط، تحتضن (40) سرديّة أو محطة؛ لكل منها موضوعها، الذي يشكل حجرًا في هذه الرواية التي تشكل لوحة فسيفسائية جميلة. ويربط بين تلك السرديّات خيط روائيّ متين بطلته الكاتبة نفسها، وهي تتحدث بلغة الـ (أنا).

تقوم الثيمة "القضية" الروائية الرئيسة، لرواية "حَجَرُ الفُسيفِساء" على موضوع رئيس وهو الصراع مع المحتل الإسرائيلي، متمثّلًا بتجربة الاعتقال التي عاشتها الكاتبة على مدى خمس سنوات، بأيامها ولياليها وعذاباتها، التي تفوح من كل كلمة فيها. ويتفرع من هذا من الحدث الرئيسي مجموعة من الأحداث الثانوية، التي تدور (في معظمها) حول السجن بيومياته التي تحمل شراسة المحت وقسوته من جانب، وقدرة الأسيرة الفلسطينية على الصمود والإبداع، ورد كيد السّجّان إلى نحره من جانب آخر.

لكي تصل الكاتبة إلى هدفها في فضح الاحتلال والتوثيق للتجربة النضالية لمجموعة من الأسيرات الفلسطينيات، وظّفت تفاصيل المكان والزمان، بما يشبه التصوير البطئ أحيانًا، حتى اكتملت لوحتها الروائية-الفسيفسائية قيد النقاش. وما كانت "ميّ" لتنجح في ذلك لولا فهمها العميق للظروف المحيطة بها في المكان والزمان اللذين حدثت فيهما أحداث الرواية؛ وهي: السجن، والسجّان، والزنزانة، والقيد، والأسيرات، وظلمة المكان وعزلته. وجاء ذلك كله بوصف تفصيليّ ودقيق. مما جعل القارئ بأنه أمام سردية طبيعية وحقيقة، كما هو عصير البرتقال الطبيعي الخالي من الصبغات والكيماويات المضافة، ظهرت فيها النظرة الذاتية الخاصة بالساردة (وهو الكاتبة نفسها).    

ولما كانت شخصيات الرواية هي العنصر الأساس في أي عمل روائي، إلى جانب موضوع الرواية وحبكتها ومكان الأحداث وزمانها. فقد قامت الكاتبة ببناء شخصيات روايتها بسهولة ويسر؛ فالبطلة هي الشخصية الرئيسة التي تمحورت حولها الرواية، يصطف إلى جانبها السجّان/ة على طول النص، وهناك شخصيات ثانوية دخلت النص وخرجت منه، كالوالدين، وزميلات الأسر. وقد تمتعت هذه الشخصيات بما يجب أن تتمتع به الشخصيات الروائية من قدرة على التحدي والمواجهة، والوقوف في وجه الشر، بدافع إيماني، دون الخضوع لليأس والقنوط الذي يمر به بطل الرواية أو الشخصيات الثانوية فيها.

وهناك عنصر مهمّ وأساسي في معظم الأعمال الروائية، قد وظّفته الكاتبة بإبداع، وهو عنصر الشرّ المعادي أو الخصم الذي يمنع الخير ويحاربه بشتى الوسائل والأساليب، ويجاهد البطل في محاربته من أجل التخلص منه. وقد تمثّل هذا العنصر بالسجّان/ة، الذي يخلو قلبه من الرحمة والعطف، لا على الطفل الرضيع، وعلى الأسيرة وحسب، بل حتى على القطة التي تبقى أربعة أيام تموء دون إنقاذها، أو السماح للأسيرات بإنقاذها.

وأما الميزات الأخرى التي منحت هذه الرواية هويّتها الخاصة بها، فهي كثيرة ومتعددة، منها:

-         الدقّة في السرد بلغة سليمة: فقد حرصت الكاتبة على جعل القارئ داخل النص؛ في حالة تفاعل عاطفي ووجداني في مكان الحدث (السجن) وزمانه (تسعينيات القرن العشرين). وقد وظّفت قدرة لغوية عالية في التشبيهات والاستعارات والرسم بالكلمات، مما جعل السرديّات رشيقة، وخفيفة الظل، وذات أثر في نفس القارئ.

-          توثيق لتجارب الأسيرات الفلسطينيات: إذ نجد أن هذه الرواية تصطف إلى جانب الروايات للأسيرات الفلسطينيات الأخريات، مثل: نادية الخياط وعائشة عودة وغيرهما، في التوثيق الدقيق لتجربة الأسيرات الفلسطينيات في مواجهة السّجّان، بلا خوف أو وجل. كما يشتركن في تحويل العزل الانفرادي، والزنزانة (بظلمتها البشعة) إلى رحلة ذكريات مع الأهل، والتجوال في شوارع قراهنّ ومدنهنّ وطرقاتها.

كما تشترك الأسيرات الفلسطينيات في إعادة تعريف الزمن؛ فزمن السجن ليس كزمن الحرية، بل هناك اختلاف جذريّ بينهما. كما يشتركن في الحديث عن زيارات الأهل –ما قبل الزيارة وما بعدها- وعن البوسطة (نقل الأسيرات) والمحكمة وما يحدث فيها من بؤس ووجع، لا يخلو من الفرح لرؤية الأهل. ولا تكاد تجربة روائية للأسيرات الفلسطينيات تخلو من مولد طفل/ة في السجن، وعندما يكبر/تكبر يتم انتزاعه/ا من قبل السّجّانة ذات القلب المتحجّر.

-         شجاعة الأسيرة الفلسطينية: فقد علمنا في هذه السيرة الروائية عن شجاعة منقطعة النظير للأسيرات الفلسطينيّات، عندما خضن تجربة الإضراب عن الطعام بنجاح، وحققن مطالبهن، بنفس الوتيرة التي نجح بها الأسرى الذكور. كما أنهن وصلن ذروة الشجاعة عندما أدرن ظهرهنّ للباب المفتوح للإفراج عنهنّ؛ لإصرارهنّ على الخروج معًا، أو البقاء في الأسر معًا!

-         إبداعات وابتكارات في استثمار الوقت: لقد أتحفتنا "ميّ الغصين" في سيرتها الروائية هذه باستعراض صور الفرح والابتسامة والاحتفال رغم القيد والسجّان، واستثمار الوقت في العمل والإبداع وابتكار الأفكار، حتى نشبت مع الاحتلال ما أسمته "حرب الألوان"؛ عندما ينتزع السّجّان مسبحة صنعتها، وقد قهرته ألوانها: الأحمر، والأسود، والأخضر، والأبيض –لأنها ألوان العلم الفلسطيني- وأصرّ على استخدام الأزرق والأصفر.

-         للرسالة دورها وأهميتها: لقد كان للرسالة القادمة من الأهل أهميتها للأسيرات في هذه الرواية، تضاف إلى ما كتبه الأسير المقدسي "حسام شاهين" في نصوصه "رسائل إلى قمر" حول الرسالة وأهميتها القصوى للأسير؛ فهي ذات أهمية قصوى لما تحمله من مضامين فكرية وإنسانية. وأنها تلعب دورًا ثلاثيّ الأبعاد في حياة الأسرى (يُنظر: مقال عزيز العصا في صحيفة القدس، بتاريخ: 07/12/2020).



خلاصة القول،

ونحن نحتفي بهذا العمل الأدبيّ، وهو السيرة الروائية للكاتبة "ميّ الغصين"، فإننا نكون أمام سفر جديد يضاف إلى أدب الأسرى، يأخذ مكانه ومكانته في المكتبة الفلسطينية، ليبقى إرثًا وتراثًا للأجيال القادمة؛ كي تعلم تلك الأجيال أن قضيتها ما كانت لتبقى حية لولا تضحيات من سبقوهم وعذاباتهم وآلامهم. كما تعلم تلك الأجيال أن المرأة الفلسطينية قد أخذت دورها في الدفاع عن وطنها ومواجهة المغتصب للأرض وللحقوق، دون الالتفات إلى الثمن الذي يمكن أن تدفعه من حياتها أو راحتها.

فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 20/08/2021م

 

 

إرسال تعليق Blogger

 
Top