0

بوجوههم الكالحة.. يقف جنود متعددو الأصول والأعراق يتراوحون بين الأسود الفاحم والأشقر حد البياض.. يدققون في تصاريح الدخول للقدس أيام الجمع أو في هويات الفلسطينيين ممن جاوزوا الخمسين عاماً من الرجال والخامسة والأربعين عاماً من النساء.. أهي صلاة على الهوية وتحت حراب جيش احتلال؟!.. هكذا القدس، عاصمتنا العزيزة، في أيام الجمع..
هذا هو الاحتلال وقوانينه الشاذة التي تمس بحقنا الطبيعي في ارتياد الأماكن المقدسة أينما كانت، فما بالك عندما تكون في قلب عاصمتنا التاريخية.. احتلال يمتهن مواطَنَتنا تحت عناوين واهية يجمعها شعار "التسهيلات الرمضانية للمسلمين"،إنه شعارٌ باطل يراد به باطل.. فماذا يعني أن يمتهن الإنسان على أبواب عاصمته الروحية والمدنية.. وماذا يعني أن يلاحق في شوارع عاصمته وأزقتها ودروبها التاريخية ولا يُسمح أن تكتحل عيناه إلا بالقدر الذي يمن به الاحتلال؟!  
فتسهيلات الاحتلال لصلاة المسلمين هي فقط خلال شهر رمضان ومقصورة على أيام الجمعة... وهذه التسهيلات مشروطة بأعمار الرجال والنساء كما ذكر سابقاً، وبتصاريح للرجال فوق الخامسة والأربعين شريطة أن يكون متزوجاً ولديه أولاد، وللنساء فوق الثلاثين شريطة أن تكون متزوجة ولديها أولاد، وما دون ذلك حرمهم الاحتلال من الصلاة.
أما المكان المسموح الوصول إليه فهو المسجد الأقصى الذي يزين البلدة القديمة من القدس المحتلة منذ العام 1967؛ أي أنها جزء أساسي من الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967 حسب كافة قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة وكافة القرارات الدولية الأخرى بخصوص قضية فلسطين.

أي حرية وأي ممارسة للشعائر الدينية في ظل الاحتلال

ما أن تنتهي من رؤية وجوه الجنود التي يرتسم عليها صور الإرهاب والخوف والقلق والارتياب حتى تدخل في مسارب وبوابات حديدية (معّاطات) وبوابات الكترونية فيتعكر المزاج، وتضطرب العواطف، وتتزاحم الأفكار، وتكثر الأسئلة/ التساؤلات الفرعية حول السؤال الاستراتيجي: "ما شكل العبادة في ظل الاحتلال"؟!
وفي أجواء تلك التساؤلات تدخل إحدى بوابات المسجد الأقصى.. ذاك المستطيل الرائع المقدس البالغة مساحته 144 دونماً فتشعر بعبق التاريخ وأنت تسير على بلاط حجري ضخم، تحتار كيف رصفه قدماء العرب والمسلمين.. وترى أروقة وزخارف حجرية على الأسوار، ومساطب دراسية، وأدراج، ومسالك تربط بين كل ساحات ومدارس وقباب المكان، تربطها بالمسجد القبلي والمصلى المرواني ومسجد قبة الصخرة.. تلك القبة المطلية بالذهب الخالص (عيار– 24) بزخارفها، وأبوابها، وآيات القرآن المخططة على جدرانها، وشبابيكها، وثوب الحرير الذي يكسو قبتها من الداخل (المنسوج بأيدٍ عربية منذ أكثر من ألف عام) لولا (19) ثقباً سببتها رصاصات احد الحاقدين الذي أرسله الاحتلال لتشويه جمالها فلم يستطع.. 
وأنت تسير في ساحات الأقصى تشتم رائحة الأنبياء الذين صلى محمد صلى الله عليه وسلم فيهم إماماً في رحلة الإسراء والمعراج.. ترى بعينك وتسمع بقلبك أصوات عمر بن الخطاب وأبو عبيدة وخالد بن الوليد وهم يكبرون عند الفتح الأول.. تسمع أصوات أقدام خيل صلاح الدين والقاضي الفاضل وعيسى العوام وهي تقبل بلاط ساحات الأقصى وهم يتوجون معركة تحرير القدس من الفرنجة.. تأخذك هذه المشاعر الصوفية عميقاً في تاريخ المنطقة وعبقها المقدس.. وتكاد تُنسيك بشاعة واقع الاحتلال وقتامة رحلة الدخول للقدس.. 
فجأة تجد نفسك تحت سطوة صوت خطيب يتحدث عن أجر الصيام في رمضان وعن فضل الصلاة في المسجد الأقصى فالركعة بـ خمسمائة وفي رواية أخرى بألف ركعة، دون أن ينبس ببنت شفة عن تلك الجموع الزاحفة من أرجاء الوطن الفلسطيني المحتشدة أمام بوابات القدس، من كل الاتجاهات، تحت الشمس الحارقة وهي تشوي وجوههم في أيام آب اللهاب، أضف إلى ذلك المشهد الصادم الذي يمر به من قُدِّ له الدخول والمتضمن حواجز الاحتلال المهينة، وقيوده، وأصفاده الجاهزة لتحطيم آمال المؤمنين بركعة آمنة مطمئنة لله وحده، وجنوده المتحفزون لتمزيق كل من لا يحلو لهم منظره.. 
وهنا يمرر كل منا للآخر ابتسامة مريرة على شفاهه الجافة المتشققة من الغيظ والغضب الذي تركه الاحتلال في النفوس.. وتصبح الضرورة الملحة للتفتيش عن خطيبٍ يخطب في الناس دون أن يفسد عليهم ما تنسموه من عبق التاريخ الذي حفره قادة عظام رفضوا الضيم والهوان..
تبحث عن خطيبٍ يجيب على السؤال المحير مجدداً: "هل أن ثواب زيارة الأقصى يكمن في الصلاة فقط؟! أم أن لها معانٍ أخرى أقلها الاستحمام بعطر التاريخ منذ اليبوسيين إلى أن أصبحت مسرى رسول البشرية محمد صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، وما يعنيه ذلك من التزام بالعمل ليل-نهار من أجل تحرير الأقصى وفك قيود القدس وأصفادها، التي إن لم ننتبه لها فلن يبقى قدس ولن يبقى أقصى لا سمح الله.. إنها الرسالة التي على كل فردٍ من أبناء الأمة أن يعيشها في حله وترحاله، في صلاته وصيامه وقيامه.. رسالة يجب أن تعتمر بها جوارح المؤمن وجوانحه ما دام الأقصى يرزح تحت نير الاحتلال..  
ونحن نشد على أيدي خطباء المسجد الأقصى الذين يبدعون في رسم اللوحة التي تحمل ألوان الطيف الإيماني المتكامل؛ الذي لا يهمل صغيرة ولا كبيرة في الهم العقائدي-الوطني المقاوم للظلم والطغيان، نقول:
الأقصى ليس مجرد مكانٍ دينيٍ فحسب، بل هو جوهرة القدس.. والقدس تاريخ أمة، بل تاريخ الإنسانية جمعاء؛ فـ "إبراهيم الخليل عليه السلام" هو واضع المعالم الأولى للأقصى.. وفيه قال تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ" الاسراء، آية 1.. وعلى  القدس تنافست الإمبراطوريات، والقوى العظمى والصغرى عبر التاريخ، من كلدان وبابليين إلى فراعنة ورومان وبيزنطيين ويونان.. وفي كل تلك المراحل، وإلى يومنا هذا، كانت القدس ميزان السلام والحرب في هذا العالم..
الأقصى ملتقى الأنبياء والأديان، وبوابة الكون؛ درب الأنبياء إلى السماء..
الأقصى يعني العهدة العمرية رابطة الدم والأخوّة بين الأديان.. 
الأقصى يعني قمة التراث الحضاري العربي والفن المعماري.. يعني الجمال اللامتناهي ويعني العشق الصوفي المتنسك في محراب الإيمان.. يعني رائحة مسك دماء آلاف الشهداء وعرق عذابات الملايين..
الأقصى يعني الكرامة والكبرياء لأمة العرب وأمة المسلمين..
الأقصى هو المكان الذي تتطهر فيه النفوس من القهر والذل والعجز والضعف.. الأقصى يلفظ الخيانة والتخاذل؛ ففيه تصفو النفوس ومن خلاله تشرئب العيون نحو أعالي المجد الضائع للأمة.. وهو المحراب الذي يستقطب كل طاقات الحرية والتحرير..
الأقصى والقدس هما من ستنهزم فيهما آخر أعداء الله وأعداء الأمة وأعداء الإنسانية..
لذا فالصلاة في القدس، وفي الأقصى بالتحديد، هي جهاد وكفاح وعطاء.. هي صدق وإخلاص ووفاء.. هي إيمان وعشق وعناء.. هي تكافل وأخوة وإيثار.. هي ثقافة وعلم وحوار.. هي عمل وبناء واعتمار.. هي طفل ورجل وامرأة ومن كل الأعمار.. هي الأرض والهواء والصخر والأشجار.. هي الحادي والمحدي والسمّار.. هي تحدٍ للاحتلال وتعبير عن إرادة شعب وإصرار..
الصلاة في الأقصى هي كل ذلك وأكثر.. وعلى كل من يدخل ساحات الأقصى وباحاته، سواء أكان خطيباً أو مصلياً أو عامل نظافة، أن يستحضر مهابة تلك المعاني والقيم والمثل حتى تسمو روحه لمستوى قدسية المكان ومسؤولية ما تمثله الصلاة في الأقصى من عنفوان.. وليعلم كل منا أنه جندي مقاتل في معركة  الحق والباطل عبر المكان والزمان.. عندئذ فقط يصبح زوار الأقصى جديرون بدخوله والصلاة فيه.. وعندئذٍ فقط تصبح الصلاة في الأقصى حق يراد به حق.

مقالة مشتركة بقلم : جمال طلب العملة وعزيز العصا
القدس 15/08/2011

إرسال تعليق Blogger

 
Top