القدس في وجدان الكل الفلسطيني

شهدت الجمعة الثانية من رمضان للعام (1434 ه) الموافق (19 تموز، 2013م) زخماً للمتوافدين من المصلين، القادمين من مختلف أرجاء الوطن؛ الذي تمكنوا من تجاوز الحواجز الاحتلالية. حتى أن عددهم تجاوز الـ (300) ألف من الرجال من أعمار ما فوق الأربعين عاماً، ومن النساء من جميع الأعمار. 

لم ينحصر العدد في هؤلاء لعدم رغبةٍ من قبل الآخرين في الدخول إلى القدس؛ بل يعود السبب إلى قوانين الاحتلال، وإجراءاته الخاضعة للهوس الأمني (!!) الذي ينتابه منذ اليوم الأول لإعلان دولة كيانه على أرض فلسطين. لمن يريد التعرف على أجواء هذه الجمعة، نقول:

• جنود الاحتلال، وشرطته، وأجهزته الأمنية، كعادتهم؛ متحفزون للرد والهجوم على أي شئ لا يروق لهم، يدهم على الزناد، يدارون المستوطنين، ويوفرون لهم سبل الراحة والأمن والأمان؛ فينصحونهم بالتحرك بعيداً عن جموع "المسلمين"، ويراقبون تفاصيل ما يجري داخل الزحام الشديد الذي يعيشه مئات الآلاف من المصلين؛ المنحصرون "عنوة" في شوارع وأزقة لا تتسع للعشرات من البشر. 

• الفلسطينيون، كذلك كعادتهم؛ فرحون لدخولهم إلى "قدسهم"، غاضبون-حانقون- ممتلئون غيظاً نحو الاحتلال؛ الذي يحرمهم النوم والاستقرار لأسبابٍ عدة، منها: أسْر أبنائهم، الاستيطان -الذي يأكل أخضر بلادهم ويابسها ويلوث الأرض والسماء-، هدم بيوتهم، اقتلاع أشجارهم، حرمانهم من حرية التنقل والحركة التي تحدها المئات من حواجزه التي تنتشر على طول الوطن وعرضه. وفوق كل هذا تتكدس مرارة الإحباط، بل الإحباط الشديد، في حلوقهم من أمتهم التي لم يبق منها معهم؛ داعماً أو مؤازراً إلا من رحم ربك.

• أما الجزء الشرقي من القدس؛ التي نعبر شوارعها وأزقتها؛ فيكسوها حزن شديد، وكآبة ممتدة منذ (46) عاماً. فهي تفقد عروبتها شيئاً فشيئاً؛ فلا يوجد يافطة تشير إلى شارعٍ، أو عقبةٍ، أو زقاقٍ، أو حارةٍ، أو وقفٍ (ذري و/أو خيري)... الخ، إلا وحملت المسمى العبري باللغة العبرية، يليه نفس المسمى بحروف عربية، وينتهي به المطاف بحروفٍ إنجليزية. 

• وأما المستوطنون؛ فهم منتشرون فوق أرض القدس؛ ساكنون-آمنون-مطمئنون (!) في مساكن عربية الأصل والفصل (إسلامية ومسيحية)، لم يُمَكِّنَهُم منها سوى القوة والقوة فقط. وعناصر الأجهزة المتخصصة في دولة الاحتلال، منتشرون تحت الأرض؛ للحفر والتنقيب، وكلما وجدوا أثراً عبثوا فيه، وعالجوه؛ كيماوياً وتوثيقياً و"عَبْرَنوه"؛ ليصبح أثراً يهودياً "بامتياز!!". حتى أن المسجد الأقصى، وما يجري فيه من اجتياحات (أصبحت يومية)، وإن بقي الأمر على ما هو عليه الآن؛ فهو كذلك في طريقه إلى الاستباحة والتهويد.

بهذا؛ فإن القدس تتجه نحو التهويد الكامل؛ تأريخياً، وجغرافيا،ً وديموغرافياً، الأمر الذي يجعلنا ندور حول أنفسنا ونحن نفتش عن طرق الإنقاذ. ونظراً لحال الأمة، الذي لا يسر صديقاً ولا شقيقاً، فلا بد من التحور للمحافظة على ما تبقى والتأسيس لارتجاع ما ضاع. ليس المقصود هنا هو التقوقع والانطواء على الذات، بل يُقصد به التركيز، الجاد والفاعل، على التوعية والتثقيف والتمكين المعرفي للأجيال المختلفة؛ بما يضمن اليقظة الدائمة من أبناء شعبنا، داخل الوطن وخارجه، ومن الغيارى من أبناء الأمة، اتجاه ما يجري على أرضهم التي عليهم المحافظة عليها، وما يجري في "قدسهم" التي يجب أن "يعضوا عليها بالنواجذ".

لذلك؛ فإننا، وعبر هذا المنبر الإعلامي، نتوجه إلى الأخوة الأجلاء الأفاضل في المسجد الأقصى؛ من أئمة وخطباء، ووعّاظ، وأدلاّء، ومنقذين ومتطوعين... الخ. أن يستثمروا هذا الحضور الخيّر من أبناء شعبنا الصابر المرابط؛ كماً ونوعاً، من أجل نثر بذور المعرفة بالقدس؛ تاريخاً، وحاضراً. 

وليأذن لنا الأخوة الذين يستخدمون السماعات الرئيسية للمسجد؛ أن نذكرهم بأن كل همسة يهمسون بها، وكل كلمة ينطقون بها تستقر في قلوب المصلين وعقولهم، الأمر الذي يعني أن ما يتم الحديث به حول أي همٍّ من هموم القدس، وأي شأن من شئونها وشجونها، إلى جانب القضايا العقائدية الأخرى، سوف يصل، من خلال هذا الجمع الغفير من أبناء شعبا، إلى كل بيت وكل فردٍ بلا استثناء؛ لأنهم يتناقلون كل ما يسمعونه وما يشاهدونه، وما يتداولونه بما يجعل المعرفة تنتشر في "الكل الفلسطيني" لتشكل، في النهاية، سياجاً يحمي ما تبقى من الوطن، بخاصة القدس، وحافزاً للالتئام والتعاضد؛ في مواجهة عوامل الإحباط التي يسعى الاحتلال لنثرها في نفوس الأجيال المختلفة من أبناء شعبنا. 

فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 21/07/2013م

نُشِرَ في القدس، بتاريخ: 24 تموز، 2013م، ص19

مقالة مشتركة: عـزيـــــــز العصـــــــا و ناصر التوتنجي