المسجد الأقصى: بين عبق التاريخ.. والواقع المؤلم

القدس عروس فلسطين، بل هي جوهرة العروبة والإسلام، ضاعت في غفلة من الفرقة، والتشرذم وانعدام الحيلة. لن أتحدث في السياسة، وكيف ضاعت فلسطين ودرتها القدس.. ولن أتطرق إلى الظروف التي جعلت الكرامة الوطنية في مهب رياح الاحتلال والمحتلين.. ولا مجال للتحدث عن هذا العالم الظالم الذي يؤجج نيرانه لتأكل الأخضر واليابس من تاريخ أمتنا وحاضرها ومستقبل أجيالها.

بل إن الحديث سينصب على مشاهدات رمضانية في رحاب القدس بأقصاها، وقيامتها، وأزقتها وتفاصيلها الدقيقة التي يفوح من جنباتها عبق التاريخ المكتوب وغير المكتوب. تلك التفاصيل التي تكشف زيف تزوير التاريخ الذي يداهمها، صباح مساء، وهي أسيرة لا تقوى على الإفلات من القيود التي تصفدها منذ عقود طويلة وهي تنتظر، بفارغ الصبر، صلاح الدين القادم من بعيد!!

   رغبة في التفاؤل، وبالنظر إلى "النصف المملوء من الكأس"، فإن الزائر للقدس في جمعة رمضانية يرى فيها ما يسر الخاطر، ويقرأ في عيونها الشوق الدائم إلى من يأتي إليها ليرفع اسم الله في وجه الأسْر والآسِرين. ولعل الأمثلة لا تحصى على الجمالية التي يتمتع بها الأقصى بضيوفه، إلا أن الصور الجميلة التي تمكنت من التقاطها في جمعتين متتاليتين (12 و19/أيلول/2008م) تتمثل بما يلي:

1. هناك إيمان حقيقي بأهمية التوافد للأقصى الذي بارك الله حوله، وبارك فيه، وبارك فيمن دافع عنه باليد أو باللسان أو بأضعف الإيمان؛ أي بالقلب. فالحواجز، والأسوار والجُدُر التي كُبِّلت بها القدس تشهد تزاحمات شديدة من أبناء فلسطين، ومن مختلف الأعمار من الجنسين، في ظل رغبة جامحة، وإيمان عميق بضرورة الصلاة في الأقصى بما يحمل من معاني المكان المقدس الذي يجب أن تُشَدَّ إليه الرحال من كل حدب وصوب.

2. المصلون، في مجموعهم، يشكلون لوحة تقرأ فيها تفاصيل الوطن الفلسطيني الذي لم ينزع ثوبه رغم العقود الستة التي مرت عليه تحت نير الاحتلال والإحلال الذي لم يدع وسيلة لطمس الهوية الفلسطينية إلا واتبعها. ففي ساحات الأقصى وردهاته يتجول الزي الفلسطيني من كافة الأنواع والأشكال والطرز. أي أن الجغرافيا الفلسطينية موجودة معاً وتبدو كجسد متماسك في مواجهة الطمس المبرمج.

3. إن منظرَ المُسعِفين وهم ببزاتهم الخاصة ذات اللون البرتقالي يعيد الأمل المفقود، فهم فتية من أبنائنا، ذكوراً وإناثاً، يتجولون بين المُصلين-المُتَعَبِّدين لكي يطمئنوا عليهم، ولكي يقدمون الخدمات الطبية السريعة لمن يحتاجها، وبسرعة فائقة. كما أن هناك من الشباب من يتمترس عند بوابة الصخرة المشرفة لكي يمنع الاختلاط الذي حرمه الله.

4. إن الإفطارات التي تُقَدَّمُ لمن يقيم ليله في المسجد الأقصى تشير إلى الخير الكامن في الأمة رغم المحن، والتشرذم، والهزائم المتلاحقة. وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمة بقوله: "أمتي كالمطر لا تدرى الخير في أوله أم في آخره"، وفي قوله: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة" . فالخيرون يجودون بمالهم وإدارة المسجد بمال الخيرين تجود.

أما من الجانب الآخر ولكي نحقق الأفضل، بل أفضل الأفضل، فإنه لا بد من الإشارة إلى النصف الآخر من الكأس، ألا وهو تلك المشاهد والممارسات التي تحتاج إلى المراجعة الدؤوبة والمستمرة لكي يُستثمَرَ الممكن من هذا المكان بأقصى الطاقات، ولكي يبقى المكان آمناً بأهله وبزواره وبالمقيمين فيه والقائمين عليه. وفي هذا المجال أود الإشارة إلى ما يلي:

1. نظراً للأعداد الكبيرة والمتزايدة للمصلين الذين يؤمون المكان فإن الساحات، وبالرغم من مساحاته الواسعة، إلا أن المكان يضيق بتلك الأعداد التي تتدافع تحت ظلال الأشجار. كما أنه باقتراب الوقت من الظهر تضيق مساحة ظلال الأشجار لأن أشعة الشمس تصبح عمودية. ويؤدي هذا كله إلى أن أعداداً كبيرة من المُصلِّن، يصعب تقديرها، تجلس وتصلي وهي تحت أشعة الشمس الحارقة. ولا يحتاج الأمر أكثر من إضافة شوادر من تلك التي تعطي "شبه ظل" يُمَكِّن المُصلِّين من الجلوس المريح خارج نطاق ظلال الأشجار.

2. نظراً لأن المحتل يشدد الخناق على عروبة القدس وإسلاميتها فإن الآفاق المسموح بها للحركة والتنقل داخل هذه المدينة المقدسة هي في أضيق مجال. حتى أن الشرفات، التي تطل على ساحات المسجد الأقصى مباشرة، أصبحت مأهولة باليهود المتدينين الذين يكيلون للإسلام البغضاء والكره. 

وعليه فإن الطرق التي يُسمح للمُصلين سلوكها محدودة للغاية ولا يمكنها استيعاب الأعداد الكبيرة من المُصلين الذين يحضرون مرة واحدة، ويغادرون مرة واحدة أيضاً. الأمر الذي يعني التزاحم الشديد لحد الالتصاق المؤذي الذي يسبب الآلام المبرحة للمتدافعين، سواء كان بين الرجال أنفسهم، أو بين النساء أنفسهن، أو بين الخليط منهما.

عندئذ أضف شكلاً آخر من أشكال عذاب الضمير الناجم عن اضطرار المُصَلِّين (رجالاً ونساءً) إلى الالتصاق للحد الذي يُغضب "وجه الله"، كما يثير الغضب والبغضاء بين المصلين أنفسهم؛ إذ لولا لطف الله بخلقه ولولا تفهم الناس لطبيعة الموقف لنشبت نزاعات يصعب السيطرة عليها. بهذا تتحول طرق القدس، الرائعة-الجميلة إلى طرق آلام وعذابات للمصلين الذين تجبرهم قوات الاحتلال وشرطته على سلوكها. ولا أعتقد بأنه من الخيال أو الوهم أن نتحدث عن بناء جسور و/ أو أدراج كهربائية تساعد في التخفيف من تلك الازدحامات غير المقبولة، وغير المحتملة. علماً بأننا ندرك بأن الاحتلال سيعيق هذا التوجه بل سيحاربه بكاف إمكاناته كمحتل يسعى لتفريغ المكان من أهله الأصليين.  

3. بعد مغادرة الازدحامات في الطرق تنتقل إلى مشهد آخر، لا يقل إيذاءً وإيلاماً عن سابقه، وهو التدافع على المواصلات (الحافلات وسيارات الأجرة).. وهنا تجد نفسك بلا عنوان، إذ تتيه وسط جموع الناس التائهة-الهائمة بلا أمل يرتجى بالحصول على وسيلة نقل ما. وعندما تأتي حافلة يتدافع الناس عليها بشكل غير حضاري للحد الذي يشكل خطراً حقيقياً على حياة مريض، أو عجوزٍ، أو طفل فجميع هؤلاء مرشحون للدهس تحت أقدام المتدافعين.

كما أن القادمين من المحافظات البعيدة، بخاصة المحافظات الشمالية، فإن الواحد منهم، إذا ما انعزل عن معارفه وأقاربه، سيعاني من ألم الغربة والتيه في شوارع لا يعرفها، وهو يعيش تحت ضغط ضرورة الوصول إلى بيته لتناول الإفطار بين أفراد أسرته.  ولعله من المفيد التدليل على ذلك بامرأة من محافظة قلقيلية تائهة في منطقة باب العامود، حوالى الساعة الثالثة عصراً، لا تدري كيف يمكنها الوصول إلى حاجز قلنديا الذي تنتظر عنده الحافلة التي أقلتها صباحاً. 

وهنا يمكننا استحضار مشهد المُسعفين الذين ذكرناهم سابقاً كصورة مشرقة نتباهى بها. أي أن الأمر يتطلب وجود أدلاء يوجهون الناس للحافلات وينظمون صفوفهم للتقليل من التدافع أو للتقليل من أعداد المتدافعين. 

4. أما المشهد الذي يمس بالوجه العقائدي والحضاري للشعب الفلسطيني فهو المتعلق بمن يجمعون الأموال تحت عناوين ومسميات ما أنزل الله بها من سلطان، والتي حرّم أحد الأخوة المتحدثين لدروس ما قبل الجمعة التعاطي معهم بالتبرع لهم، منهم:

 المتسولون/ ات: وهي شريحة تتعاطى بكافة أساليب النصب والاحتيال، فقد شاهدت بأم عيني إحدى المتسولات التي حاولت خطف النقود من يد متبرعة وهي تعد نفسها للتبرع لها، إلا أن المتسولة قبلت، على مضض، ما قدمته لها المتبرعة المسكينة التي اعتقدت بأنها قد أدت واجبها اتجاه الفقراء والمساكين. وهي لا تدري بأنها قد تكون دفعت نقودها لواحدة ممن ترتبط بعصابة ما من لاعبي القمار أو غيرها مما حرم الله. كما أنه يُلاحظ أن الغالبية العظمى منهم هي من النساء وليس من الرجال، وبخاصة النساء اللواتي "يتخمرن بخمار مصطنع" يٌقصد منه إخفاء الملامح للمتسولة، أو هي من ضرورات المهنة!!

وفي ذلك حذر الشيخ في الدرس بقوله: "إن الدَخْلَ اليومي لهؤلاء المتسولين/ ات يصل إلى 1500 شيكل يوميا، ولا يقل عن 3000 شيكل في جمعة واحدة من جُمع رمضان"، وهو يضاهي راتب موظف.  

 جامعو الأموال للمساجد: ليس غريباً أن تسمع من يتلو آيات من القرآن الكريم بأخطاءٍ تُغضبُ وجه الله، وعندما تتوجه إليه تجده يجمع الأموال لـِ "بيت من بيوت الله". وهنا تتساءل: أين سيذهب هذا بالمال الذي يجمعه بلا وصولات، وبلا مستندات مالية صحيحة؟

وأي مسجد هذا الذي سيُبنى من أموال الزكاة التي قال حولها أحد الأخوة المتحدثين في درس ما قبل خطبة الجمعة: "لا يجوز وضع زكاة الأموال في المساجد لا للتأثيث ولا للبناء وهو حرام، (...) وإذا سبق أن أخرجتها للمساجد عليك أن تخرجها مرة أخرى للفقراء والمساكين"، وأشار المتحدث إلى أن 8% من شعبنا هم فقراء يستحقون الصدقات وزكاة الأموال. 

 جامعو الأموال للجمعيات الخيرية: وهم شريحة ممن ينشطون في جمع الأموال في شهر رمضان لصالح مؤسسات غير متفرغة للفقراء والمساكين، بل أن جزءاً، قد يكون يسيراً، هو الذي يُصرَف لصالحهم. وقد أشار المتحدث إلى من يجمع المال لتشييد برك السباحة أو الملاعب، في حين أن الشعب يتضور جوعاً.

 جامعو الأموال بحجة العلاج: وهي شريحة ممن يدعون حاجتهم للأموال لكي يحصلوا على العلاج، وقد شاهدت واحدة من هذه الفئة تحمل وثيقة من إحدى المؤسسات الطبية تفيد بالحاجة للعلاج من مرضٍ مستعصٍ، ففاجأتُها بالسؤال: هل توجهتِ لوزارة الصحة للحصول على التحويلة اللازمة فارتبكت ولم تُجِب بإجابة واضحة. 

بعد هذا الاستعراض الموجز لبعض ما نشاهده في أقصانا وقدسنا لا بد من التوقف بالتقييم والتقويم على قاعدة أن القدس بمقدساتها هي عنواننا الوطني، وهي عاصمة الدولة التي قدمنا التضحيات الجسام من أجل إقامتها. 

كما هو معروف، عالمياً، فإن عاصمة أي بلد تحظى بالرعاية والاهتمام بكل تفاصيلها من قِبَلِ الدولة. ونظراً لأن عاصمتنا أسيرة فإن الواجب الديني، والوطني، والقومي يتطلب من الجميع التكاتف والتعاضد من أجل تعزيز الصور المشرقة لها كعاصمة، وتعميمها، وجعلها هي الأساس وليس الاستثناء. ويتطلب الأمر المراجعة الدائمة، ووضع كافة السلبيات المذكورة، وغيرها مما لم يُذكر، تحت الضوء من أجل الاعتراف بها كمشكلات تستحق المعالجة الفعلية، لكي نبدع في استحداث الوسائل والطرق الكفيلة بتوفير التسهيلات اللازمة لكي يُمضي المصلون وزوار المسجد الأقصى أوقاتهم ركعاً سُجَّداً في جو من الدعة والطمأنينة.

أما بشأن المتسولين وجامعي الأموال بطرق غير مشروعة، فإنه لا بد من لَجْمِهِم باعتبارهم من العابثين بسمعة شعبنا، وكبريائه، وكرامته الوطنية.

وفي الختام لا بد من التوجه بالشكر والتقدير لأبناء أمتنا العربية والإسلامية الذين يحاولون أخذ دورهم في الدعم المادي والمعنوي لمؤسسات القدس ومنشآتها التي تعزز الهوية العروبية والإسلامية لهذه المدينة المقدسة، وندعوهم لبذل المزيد في مواجهة محاولات التهويد التي أخذت تهدد كافة تفاصيل هذه المدينة المقدسة والغالية على قلوب العرب والمسلمين. ونذكرهم جميعاً بأن هذه المدينة بشكل خاص، وفلسطين بشكل عام، هي أمانة في عنق كل من يستطيع الدعم والإسناد، فهي مسرى نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وعنها قال تعالى في محكم كتابه العزيز: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" صدق الله العظيم (سورة الإسراء، الآية 1).

عزيز العصا/ العبيدية، 21/أيلول/2008م

نُشِر في صحيفة القدس بتاريخ 23/9/2008م صفحة 19