خليل شوكة؛ كاتب-مؤرخ، له العديد من المؤلفات التي تعنى بالشأن التلحمي، من العهد العثماني حتى تاريخه، وهو يسعى للمعرفة والمعلومة التاريخية، لا ليحتكرها ويلقي بها في غياهب جواريره؛ بل ليعيد صياغتها، فينظمها ويصقلها ليجعل منها وثائق تنير المظلم من دروب التاريخ ودهاليزه، التي عانينا منها لقلة التوثيق، ولانتشار الجهل والأمية والفقر عبر مئات السنين.
في شهر أيلول من العام 2014، قامت بلدية بيت لحم ومركز حفظ التراث الثقافي بإطلاق كتاب "المركز التجاري في مدينة بيت لحم – شارع بولس السادس" وهو من إعداد المؤرخ "خليل شوكة".
لم يتوان الصديق "المؤرخ-شوكة" عن إهدائي نسخة من هذا الكتاب/ الدراسة، الذي سعدت "لعدة ساعات" بين غلافيه اللذين يحتضنان ثمانين صفحة من الورق المصقول، تحتوي تسع وخمسون صورة تاريخية تتراوح بين منتصف القرن التاسع عشر وأواخر القرن العشرين. ينحصر هذا الكتاب في سرد التطور "العمراني" لبيت لحم" في المنطقة الممتدة بين ساحة النجمة وباب الزقاق، الواقعة على جانبي شارع بولس السادس، والتي أطلق عليها "المركز التجاري في بيت لحم". حيث أن بيت لحم تعتبر مركزاً تجارياً لتسوق جميع سكان مدن وقرى المنطقة، إضافة إلى أعداد الزوار والسياح الذين يقصدونها. وهدف الكتاب إلى وصف الدافع والنشاط التجاري في بيت لحم القديمة، كيف بدأت النواة الأولى لهذا النشاط التجاري بالتكوّن منذ نهاية القرن التاسع عشر، حتى تاريخه.
بعد قراءة متمعنة وجدتني أتجول بين ماضٍ تليد وحاضر جميل، وما بينهما من هموم وأحداث وقضايا لا تخلو من الإثارة، ببعديها الإيجابي والسلبي. ولكي لا تختلط علينا الأمور ارتأيت توزيع البيانات والبينات التي قام عليها الكتاب على المرتكزات أو المحاور التالية:
أولاً: تاريخيًا:
استعرض "المؤرخ-شوكة" ما كتبه الرحالة الأوروبيون عن بيت لحم خلال الفترة أواسط القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين، ويكاد هؤلاء الرحالة الإجماع على أن بيت لحم كانت مركزًا تجاريًا-سياحيًا، يعمل أهلها، في الصناعات اليدوية التي يتقنها معظم أفراد العائلة؛ كخشب الزيتون والصدف وغيره. كما يؤكدون على أن شوارعها وأزقتها كانت تشهد حركة دؤوبة مصدرها الوافدون من القرى المجاورة.
كما أشار الرحالة إلى أن بيت لحم قد سبقت غيرها من المدن على المستوى الحضاري؛ ففي حوالى النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان فيها خمسة عشر دكاناً تبيع البضائع المختلفة مثل الأحذية، وبعض الأعشاب البيطرية، وفيها مستشفى. واشتهرت بيت لحم بالتخصص في صناعة الخمر والعسل، وكانت تربية الماشية ذات شأن فيها لارتباطها بالعربان من حولها.
وكانت المدينة محور ومركز النشاط الاقتصادي لجميع النواحي والقرى المحيطة، وكانت تجارة الحِرَف التقليدية اليدوية والتذكارات الدينية والسياحية المصنوعة من الصدف وخشب الزيتون وحجر موسى مثل الصلبان/ المسابح قد راجت كثيراً عن طريق الاتجار بها في الدول الأوروبية، مما أدى إلى أنها من المدن التي تغير وجهها بشكلٍ مباشر أكثر من غيرها، وذلك بتأثير التغلغل الأوروبي وزيادة السواح والحجاج الذين قصدوا كنيسة المهد.
أما أهالي بيت لحم، فقد كانوا يتكلمون بلغات مختلفة وخاصة الباعة، علمًا بأنهم أميين. وكانوا يمتلكون قيمًا راسخة، أهمها: عدم القيام بالأشغال من الأمور المعيبة. وبالتالي؛ فإنهم بجِدّهم واجتهادهم تمكنوا من أن يجعلوا لبلدتهم أهمية تجارية في البلاد من حولهم. وفي أواخر القرن التاسع عشر كان السوق التجاري الرئيس للمدينة عبارة عن ساحة المهد وشارع النجمة بالإضافة إلى المحلات حوله.
كما يتبين من هذا الكتاب أن المنطقة، قيد الدراسة، قد شهدت تغيرات دراماتيكية عبر القرن الماضي، من حيث الهدم والبناء، والترميم، ثم إعادة الهدم وإعادة البناء في الحقب الزمنية المختلفة. وذلك لرغبة المخططين والمستثمرين في أن تبدو مدينتهم بأجمل حلّة كبلد سياحي وكمركز تجاري.
هناك العديد من التسميات والمسميات التي تتحدث عن نفسها؛ ولا يحتاج المرء لجهد كبير للبحث في أصلها، كساحة المهد، وشارع النجمة، وشارع بولس السادس، والجامع العمري، والأحواش المختلفة المنسوبة إلى العائلات التي تمتلكها و/أو تقطنها. إلا أنه من الطريف أن نشير إلى تسمية "المدبسة" تعود إلى أنها كانت تطلق على تلك المنطقة التي "يطبخون فيها الدبس".
من جانبٍ آخر؛ هناك إشارة إلى أن هذه المدينة، وبالرغم من الحركة التجارية والسياحية الدؤوبة، كانت "مخيفة في الليل"، حتى منتصف الأربعينيات، التي كثيراً ما كانت تُرى الضباع بعد الغروب.
أما أهم المحطات التاريخية ذات الصلة بالتحول العمراني والحضاري، فهي":
1) في عام 1888 أصدر السلطان موافقته على إنشاء المستشفى الفرنساوي، باعتباره مؤسسة أجنبية خيرية.
2) العام 1895 صدور الفرمان السلطاني بإنشاء مجلس بلدية بيت لحم الذي تَبِعَه انتخاب أول مجلس بلدي للمدينة.
3) في العام 1898 تم إنشاء مدرسة الألمان (اللوثرية) والكنيسة، وافتتحت "رسميا" بحضور امبراطور المانيا.
4) في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تطورت المدينة في ظلِّ الاستقرار النسبي والازدهار التجاري. حيث بدأ الأهالي بالتوسّع في البناء خارج قوس الزرارة.
5) الكهرباء دخلت المدينة في نهاية عام 1930.
6) تم تسمية شارع بولس السادس بهذا الإسم في العام 1963؛ بمناسبة زيارة البابا للمدينة في حينه، وكان قبل ذلك يسمى "شارع الحريزات".
ثانيًا: يتجول بنا في دروب بيت لحم وأزقتها:
لقد تجول بنا "المؤرخ-شوكة"، بشكل تأريخي-سياحي-عمراني في أزقة المنطقة قيد الدراسة؛ مبتدءًا من مبنى البلدية، متجهًا نحو باب الزقاق، مرورًا بالعديد من المباني والعمارات والأحواش، مثل: ساحة المهد، الجامع العمري، قوس الزرارة، شارع النجمة، ساحة المنارة، سوق البلدية، زقاق القطان، مفرق الحريزات، ساحة المدبسة، مجمع سعادة، شارع جمال عبد الناصر، حوش دكرت، حوش سلامة، حوش دعيق، حوش موسى دبدوب، حوش القطان، حوش هرماس، عمارة يوسف مسلَّم المالك، وعمارة طلماس، عمارة الجمعية الوطنية الأرثوذكسية، وعمارة ناصر، وعمارة علقم، عمارة كنيسة السريان... الخ.
وقد كان التجوال صاخبًا بعمليات البيع والشراء والتبديل والهدم والبناء واقتلاع الأشجار ونقل المقابر واستبدال الملاعب والساحات بالعمارات الشاهقة، وإقامة مبانٍ ضخمة على أطلال مبانٍ قديمة أثرية.
ثالثًا: التعايش والتحاب والتعاضد بين المسيحية والإسلام:
بالاستناد إلى الوثائق؛ قام "المؤرخ-شوكة" بجولته الموصوفة أعلاه، وهو يشير إلى عمليات البيع والشراء والتبادل بين أبناء الشعب الواحد، دون النظر إلى الديانة، أو الطائفة، أو العائلة. كما لم تخلُ الجولة من ذكر السنوات والتواريخ التي جرت فيها تلك التغيرات والعمليات التجارية المتبادلة بين أبناء الوطن الواحد. ولعل طيب هذه العلاقة وقدسيتها تتجلى في وجود هؤلاء كأصحاب أعمالٍ ومصالح، متجاورين، في عمارة واحدة وطابق واحد، بل حتى في شقة واحدة.
وسوف أقتبس تطورات قطعة الأرض المقام عليها فندق "جراند بندك" حاليًا، التي نجد أنها كانت مقبرة حتى العام 1905، حيث صدر قرار من الحكومة العثمانية بمنع تواجد المقابر داخل المناطق السكنية، وعلى إثرها نقلت المقبرة إلى موقع باب الزقاق موقعها الحالي، فقام م بشراء أرض المقبرة نقولا يوسف فقوسه بشرائها، فأقام عليها بعض الغرف وحولها إلى مقهى ومنتزه، ثم أصبح مقراً استأجرته إدارة نادي الشبيبة البيتلحمي عام 1930، الذي قامت سلطة الانتداب الإنجليزي بإغلاقه عام 1932 لأسباب سياسية، ثم استأجره حنا أنطون حنضل ثم محمد مصطفى كنعان (...)، ثم استأجر المكان جليل عيسى اجحا وإخوانه، الذي باع حصته فيما بعد إلى عيسى علي الهريمي، ثم إلى خليل هرماس (أبو عامر) والياس جحا وشركاه، وبقي كذلك إلى أن تمَّ شراء الأرض من قِبَل إبراهيم خليل البندك وإخوانه، حيث قاموا بهدمه وبناء فندق جراند البندك الحالي.
ويتضح من هذا التسلسل أن عمليات البيع والشراء ونقل الملكية، كانت تجري بسهولة ويسر بين أبناء الشعب الواحد. كما يتبين لنا أن الانتداب البريطاني كان يقمع الحريات السياسية للفلسطينيين؛ مسيحيين ومسلمين، بلا تمييز.
رابعًا: أسباب التطور:
يتضح من نتائج هذه الدراسة أن المنطقة، قيد الدراسة، من مدينة بيت لحم قد تطورت بشكل سريع خلال المائة سنة الأخيرة، ويعزي "المؤرخ-شوكة" ذلك إلى عدة أسباب، منها:
1- تأسيس رابطة الصناعيين في ثلاثينيات القرن العشرين، التي ركزت الضوء على أصحاب المهن في المدينة، بتشجيع تشجيع الصناعات، وتخفيض الضرائب .
2- إنشاء شركة الباصات الوطنية لتسيير خط باصات بين بيت لحم والقدس؛ كان له أثر كبير في تنشيط التجارة وفي تنقل المواطنين بالإضافة إلى إنعاش السياحة.
3- قرار المجلس البلدي تحويل شارع المهد من منطقة سكنية إلى منطقة تجارية.
4- تأسيس وافتتاح جامعة بيت لحم كان له تأثير مباشر على النشاط التجاري وانتقال وفتح العديد من المحلات التجارية في محيط منطقة المدبسة والسينما، هذا عدا عن الزيادة الملحوظة في حركة تنقلات الطلبة من مناطق مختلفة في داخل المحافظة ومن خارجها كمحافظات: القدس والخليل ورام الله.
5- استلام السلطة الوطنية الفلسطينية لمقاليد الأمور، وما نتج عنها من التوسع التجاري، وفتح مجالات الاستثمار في مختلف المرافق الاقتصادية.
6- ازدياد أعداد العمال الفنيين والحرفيين وعمال البناء الذين من خلال قوتهم الشرائية أنعشوا الاقتصاد المحلي، وأدى إلى توسع النشاط التجاري وتحديث وتطوير المحلات التجارية لخدمة المواطنين وانتشارها في شوارع المدينة بصورة واضحة.
الخلاصة
هذه هي دراسة "المؤرخ-شوكة" التي سلطت الضوء على التطور العمراني والنهضة الحضارية التي عاشتها بيت لحم للفترة الممتدة على مدى القرن العشرين وحتى تاريخه، والتي تبين منها أنها قفزات كمية ونوعية، انتقلت ببيت لحم من بلدة مخيفة ليلاً؛ تنتشر الضباع في أزقتها وحاراتها، إلى مدينة الأضواء والسهر والسمر والأمن والأمان. ويعود ذلك إلى قدرة أهلها وقاطنيها والمحيطين بها على الاستجابة لمتطلبات المعاصرة، والقدرة الفائقة على مواكبة روح العصر. كما أنه لا شك في أن التصاقها بمدينة القدس؛ مهد الحضارات البشرية المتراكمة عبر آلاف السنين، بالإضافة إلى أنها المكان الذي يتوجه إليه الحجيج القادم من كل حضارات الأرض..
وكل ذلك أدى إلى التطور الذي شمل المكان والإنسان. فلم يتوقف الأمر على التطور الحضري للمكان، وإنما انتقل السكان من الأمية التي وصفها الرحالة أعلاه، إلى انتشار العلم والمعرفة بينهم، فكانت المدارس الأجنبية والمحلية والحكومية والخاصة التي احتضنت أبناء بيت لحم وجوارها، ثم إنشاء جامعة بيت لحم منذ العام 1973، الأمر الذي مكّنهم من امتلاك ناصية العلم والمعرفة.
بقي القول: يتضح من هذا الكتاب الذي بين أيدينا، أن الباحث قد بذل جهودًا مضنية وجادة في البحث عن البيانات التي أرادها لدراسته، كما أن هناك نوّعًا، إلى حد ما، في المصادر والمراجع التي استند إليها الباحث في جمع بياناته. وقد كان للصور المرفقة دور مهم في "إنعاش" الذاكرة التاريخية، وربط الحاضر بالماضي، شكل دليلًا للقارئ- الباحث عن حجم ومستوى تطور المدينة وأحيائها وأزقتها-. إلا أنني مضطر إلى أن أشكو للباحث "المؤرخ-شوكة"، من أن توثيق الصور المرفقة إلى جانب النصوص لم تكن لتريح القارئ؛ وذلك بسبب افتقار الصورة الواحدة إلى المعلومات الخاصة بها، حيث جاءت "تفاصيل" الصور في آخر الكتاب؛ بعيدة عن المحتوى، الأمر الذي يعيق تواصل الأفكار وتتابعها. كما أن هناك عددًا من الصور لا تحمل تاريخًا؛ الأمر الذي يُضعف عملية التوثيق؛ مما يقطع حالة التتابع التي يحتاجها القارئ في هذه الدراسة.
وقبل أن نغادر؛ لا بد من التذكير بأننا أمام مدينة تاريخية يزيد عمرها عن الأربعة آلاف عام، الأمر الذي يعني أننا، في هذه المدينة، أينما نتحرك وتطأ أقدامنا نكون في حضرة آباءٍ وأجداد حفروا في حضارة تستوجب منا التوقف عندها بعمق. ولعل خير مثال على ذلك ما يذكره "المؤرخ-شوكة" من أنه أثناء ترميم وتوسيع الشارع المار من أمام اللوثرية هبط الشارع ووُجِدَ تحته بنايات قديمة ارتفاعها من 3-4 أمتار مهدمة. حيث تم تعبيد الشارع فوقها.
نشر في صحيفة القدس المقدسية، يوم الأحد، بتاريخ: 16/11/2014م، ص18
فلسطين، بيت لحم، العبيدية
aziz.alassa@yahoo.com
إرسال تعليق Blogger Facebook