صدر عن دار الأيام في الأردن، كتاب، بعنوان: مشاريع تسوية للقضية الفلسطينية –دولة فلسطين حرة ومستقلة-، للباحث د. محمد محمود بدر شلباية، وقع في (193) صفحة. وقد قمت بالتقديم لهذا الكتاب الذي بذل فيه المؤلف جهدًا استثنائيًا، يستحق تقديرًا عاليًا من كل من هو معني بالشأن الفلسطيني، بل بشأن المنطقة العربية برمتها. ويعود ذلك إلى أنه عالج الموضوع بمنتهى الموضوعية والحيادية؛ بالرغم من أنّ له موقف شخصي مرتكز إلى قناعات فكرية تتناقض مع الأطروحات السياسية التي قام بعرضها ومناقشتها.
كما أن هذا الكتاب/ الدراسة يأتي في هذه البرهة، التي تقف فيها المنطقة في بؤرة الزلزال الناجم عن الصراع الفلسطيني-الصهيوني أو العربي-الصهيوني، القائم منذ حوالى القرنين من الزمن. فالرجل، فيما يسرد من رؤى استراتيجية بشأن هذا الصراع، يستحضر ما جرى في سبعينيات القرن الماضي، مما يساعد في الربط بين الأحداث الجسام التي تبعت تلك المرحلة حتى يومنا هذا، والتي تشير، في نتيجتها النهائية (حتى اللحظة)، إلى تثبيت وجود إسرائيل على الأرض الفلسطينية، وتمكينها من السيطرة على ما يزيد عن 90% منها، وإضعاف وميض الدولة الفلسطينية بل أنها تكاد تكون دولة على الورق، دون أن يكون لها أي وجود على الأرض.
تطرقت الدراسة إلى المشاريع والقرارات والمواقف والرؤى الاستراتيجية المختلفة التي تم طرحها بشأن إنهاء ما أطلق عليه الصراع العربي-الإسرائيلي أو الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ويتبين من خلال القراءة الدقيقة والمتمعنة للدراسة، ومن خلال الوقائع التي كانت على الأرض في تلك الحقبة، أن المشاريع التي كانت تتنافس و/أو تتصارع في أرض الصراع، تنقسم إلى الحزم التالية:
أولًا: حزمة المشاريع الإسرائيلية:
حيث تطرقت الدراسة إلى مجموعة مشاريع (رسمية وشبه رسمية) صادرة عن شخصيات اسرائيلية نافذة في الشأن السياسي والعسكري والاقتصادي، محكومة لمفاهيم أيديولوجية صهيونية تسعى، في نهاية المطاف، إلى إقامة دولة يهودية قوية في المنطقة قادرة على استيعاب يهود العالم وتوفير الأمن والأمان لهم. وجاءت تلك المشاريع في أجواء الانتصار، غير المتوقع، الذي أحرزته اسرائيل في العام 1967. وتتمثل في مشروع يغئال آلون، ومشروع أوري إفنيري واقتراح أبا إيبان.
وإنّ قراءة متمعّنة لحزمة المشاريع الإسرائيلية، بخاصة مشروع آلون، بسيناريوهاته المختلفة، تبين لنا مدى الحنكة والدهاء والشعور بنشوة الانتصار التي كانت تسيطر على الوزير الإسرائيلي، والتي يمكن وصفها بأنها مجموعة "فخاخ" لكلٍ منها طريقته وآلياته المؤدية إلى إجهاض الثورة الفلسطينية المسلحة التي تقض مضاجع الاحتلال، و"تدجين" الشعب الفلسطيني؛ بامتصاص أي فعل ثوري-تمردي وجعله يتعايش مع الاحتلال ويستوعبه، وإلى تثبيت الكيان الإسرائيلي كدولة يهودية طبيعية في المنطقة، غير محصورة في حدود الرابع من حزيران/ 1967؛ متصالحة مع الأمة العربية، ولم ينسَ الخوض في موضوع اللاجئين الفلسطينيين الذين تم الإلقاء بمشكلتهم على عاتق المحيط العربي؛ دون أن يكون على إسرائيل أي مسؤولية اتجاههم. ويأتي ذلك كله في ظل قناعة "تامة" بأنه "ليس في مقدور الجيوش العربية الحصول على دونم واحد من الأرض بقوة السلاح".
ثانيًا: حزمة المشاريع الفلسطينية:
استعرضت الدراسة مجموعة مشاريع فلسطينية، صادرة عن شخصيات فلسطينية، غير نافذة في السياسة الفلسطينية، وكانت محكومة لمفاهيم وأفكار "شخصية" تسعى، في نهاية المطاف، إلى إقامة كيان فلسطيني قادر على "لملمة" الشعث الفلسطيني، الذي أصبح مشتتًا هنا وهناك، بلا عنوان وطني جامع وشامل. وتتمثل هذه المشاريع في: مشروع حمدي التاجي الفاروقي، ومشروع عزيز شحادة، ومشروع موسى العلمي، ودعوة الشيخ محمد علي الجعبري ودعوة "رشاد الشوا"، ودعوة "محمد أبو شلباية" إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة حرة. أضف إلى ذلك مشروع الدولة العلمانية على أرض فلسطين التاريخية (الانتدابية)؛ الذي تبنته "منظمة التحرير الفلسطينية"، وحركة "فتح" هي كانت أول من دعا لهذا المشروع.
وقد جاءت تلك المشاريع في أجواء الهزيمة الساحقة التي تعرض لها العمق العربي أمام اسرائيل الدولة الناشئة، والتي أطلق عليها "النكسة" التي انتهت باستكمال احتلال اسرائيل لما تبقى من فلسطين بعد النكبة التي حلّت في العام 1948، بالإضافة إلى احتلال أجزاء من مصر وسوريا ولبنان.
لذلك؛ من الطبيعي أن نلاحظ على تلك المشاريع أن واضعيها سعوا إلى "إنقاذ" ما تبقى بعد شتات الشعب الفلسطيني الذي، لاقى كل ذل وإهانة حتى طمست شخصيته وشلت إرادته، بإقامة دولة فلسطينية "عالة" على المجتمع الدولي، واقترحت وضعها تحت رعاية دولية لمدة خمس سنوات. كما أكدت تلك المشاريع على تخوفها، بل خوفها الحقيقي، من تعاظم القوة الإسرائيلية التي يقابلها تناقص في عناصر القوة الفلسطينية و/أو العربية على المستويات كافة.
وتميز مشروع "حمدي التاجي الفاروقي" بين تلك المشاريع، للحد الذي يُشعرك وكأنك أمام مشروع دستور لدولة قائمة؛ فهو يتطرق إلى تعريفات تتعلق بمواطني الدولة، وحدودها، وعاصمتها، وأجهزتها المختلفة وعلاقاتها بالجوار وبالعالم... الخ. ومن الطريف أنه تطرق، في نهاية مشروعه، إلى عاملين يجعلان قيام الدولة المقترحة أمرًا صعب التحقيق، هما: عدم موافقة الدول العربية المتحررة، وعدم موافقة أمريكا. كما تميزت دعوة "رشاد الشوا"؛ الذي كان رئيسًا لبلديّة غزة، بطرح فكرة اتحاد فيدرالي بين الدولة الفلسطينية والأردن.
من جانبٍ آخر؛ ظهر السياسي الفلسطيني المعروف "محمد أبو شلباية"، الذي دعا إلى "إقامة دولة فلسطينية حرة في الضفة والقطاع والقدس العربية بإشراف الأمم المتحدة، وأن يكون هناك اعتراف متبادل بينها وبين إسرائيل والقدس عاصمة مشتركة للدولتين، معترضًا على أية علاقة لها مع المملكة الأردنية الهاشمية".
وقد كان "أبو شلباية" الأكثر جرأة في تحدي مناوئيه السياسيين، وفي تجاوز أصحاب المشاريع الأخرى كمنظمة التحرير الفلسطينية، والمملكة الأردنية الهاشمية، ويغئال آلون، وإفنيري، والمشاريع والمبادرات الفلسطينية المذكورة أعلاه، وكان يرى أن الكثيرين من المثقفين والمراقبين السياسيين العرب يفتقدون الوعي والفهم الأساسي لطبيعة الصراع العربي–الإسرائيلي، كما قال: إذا ما وضع الفلسطينيون أمام خيار البقاء تحت الحكم الإسرائيلي او العودة الى الادارة الاردنية، فانهم سيختارون الادارة الإسرائيلية. كما كان الأكثر التصاقًا بمشروعه، عندما بدأ (بالرغم من قدراته المحدودة جدًّا) ببرنامج إعلامي-ترويجي لمشروعه؛ مستخدمًا وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها.
أما م. ت. ف فقد هاجم يحيى حمودة قائد جيش منظمة التحرير الفلسطينية كل مشروع يرمي إلى إقامة دولة فلسطينية.
ثالثًا: حزمة المشاريع الأردنية:
تعتبر الأردن، تاريخيًا، ذات صلة مباشرة بالشأن الفلسطيني، وقد فرضت ذلك الطبيعة الجغرافية، التي تم تعزيزها بخضوعهما لنفس الانتداب الذي وحّد هموم المواطنين في كل من فلسطين والأردن، وما آل إليه الأمر بعد النكبة من إنشاء المملكة الأردنية الهاشمية؛ التي ضفتي نهر الأردن: الغربية والشرقية. وبعد خسران الدولة الأردنية لضفتها الغربية في العام 1967، ونظرًا لعدم نجاح أي من المشاريع المذكورة أعلاه، أطلق المرحوم الملك حسين بن طلال "مشروع المملكة العربية المتحدة" في العام 1972، بحيث تتكون تلك المملكة من قطرين: فلسطيني (ويتكون من الضفة الغربية، وأية أراضٍ فلسطينية أخرى يتم تحريرها ويرغب أهلها في الإنضمام إليها)، عاصمته القدس. وأردني (يتكون من الضفة الشرقية)، وتكون مدينة عمان هي العاصمة المركزية للمملكة.
وقد تم رفض هذا المشروع من قبل جميع أطراف المعادلة الجيوسياسية في المنطقة؛ فقد رُفِض من جميع العرب ومن منظمة التحرير الفلسطينية، كما رفضته إسرائيل أيضًا.
رابعًا: حزمة المشاريع الدولية:
استعرضت الدراسة المشاريع والمساعي الدولية المختلفة المتمثلة بكل من:
1) قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، بتاريخ 22/11/1967، القائم على إقرار مبادئ السلام العادل والدائم في الشرق الأوسط. حيث احتدم النقاش بين الدول الأعضاء، حتى أنه قدِّمت في تداولاته مشاريع للقرار، من قِبَل: الاتحاد السوفييتي، وأمريكا وبريطانيا ومشروع من ثلاث دول (الهند ومالي ونيجيريا). وانتهى الأمر بإصدار القرار المذكور الذي ارتأى أن ما جرى في العام 1967 بين العرب واسرائيل هو نزاع، وأنه على كل الدول أن تنهي حالة الحرب، وأن تنهي كل الدول حالة الحرب وأن تحترم وتقر الاستقلال والسيادة الإقليمية والاستقلال السياسي لكل دولة في المنطقة وحقها في أن تعيش في سلام في نطاق حدود مأمونة ومعترف بها متحررة من أعمال القوة أو التهديد بها.
2) مشروع روجرز: وروجرز هو وزير الخارجية الأمريكية خلال الفترة 1969-1973، ادعى أن سياسة الولايات المتحدة (متزنة!!) بين أطراف الصراع العربي-الاسرائيلي، في حين أن الظروف الموضوعية المحيطة كانت ليست في صالح اسرائيل ولا الولايات المتحدة، من حيث أن الاتحاد السوفييتي كان مصدر السلاح لمصر؛ العدو الرئيسي لإسرائيل في المنطقة، كما تميزت تلك الفترة بالدور المتزايد الأهمية للفدائيين الفلسطينيين في الاردن. وتألف "مشروع روجرز" من ديباجة موجزة تدعو إلى عقد واتفاق ملزم بصورة متبادلة بين مصر واسرائيل، يجري التفاوض تحت رعاية سفير الامم المتحدة "يارنج"، ويستند إلى عشرة نقاط.
تتألف الدراسة من خمسة فصول، كان نصيب تلك الرزم من المشاريع أن وزّعت على الفصلين: الأول؛ الذي شمل جميع الرزم المذكورة، والثاني؛ انفرد به مشروع الدولة الفلسطينية الحرة الذي قام عليه المرحوم "محمد أبو شلباية"، والانتخابات البلدية في فترة السبعينيان من القرن الماضي التي أثارت جدلاً حادًا على المستوى الوطني الفلسطيني.
ونظرًا لأن الدراسة تعتمد أنموذج "محمد أبو شلباية" للدولة الفلسطينية المقترحة، فقد قام الباحث بتخصيص الفصل الثالث، للأطروحات السياسية لـ "أبي شلباية" المتمثلة بالحزب الذي دعا لتأسيسه؛ يدعو للسلام "يحمل في يده أغصان زيتون"، ويستغل جميع الوسائل السلمية من أجل إفهام الرأي العام في إسرائيل والرأي العام في العالم كله أن شعبنا لا يريد الحرب ولا يهدف إلى ذبح اليهود والقذف بهم في البحر. واستعرض الفصل الرابع العمل الإعلامي والجماهيري لأبو شلباية، من خلال جريدة صوت الجماهير لصاحبها ومحررها المسؤول محمد أبو شلباية الصحفي المقدسي المستقل المبادئ.
أما الفصل الخامس؛ فلم يبتعد عن "أبي شلباية" كذلك، إذ أنه مخصص لآرائه فيما جرى في القدس خلال الحقبتين: الأردنية والإسرائيلية. حيث انتقد (قاوَمَ) محاولات التهويد والتهجير التي بدأ الاحتلال بممارستها في القدس وفرضها على المقدسيين.
بعد هذا الاستعراض للدراسة وما تم عرضه من مشاريع لإقامة كيان فلسطيني، وما تم عرضه من أفكارٍ وآراءٍ ورؤى لـ "محمد أبو شلباية"، فإنني أتوجه للباحث بالتحية على جهوده التي بذلها وهو يتجول وسط حقل ألغام لا يستطيع الخلاص من مخاطرها إلا من تمتع بقدرة على قراءة ما بين السطور وما وراء الأحداث.
فبالنسبة للمشاريع الموصوفة أعلاه، لا بد من التذكير، بأنه منذ أن جاء نابليون إلى المنطقة (أكثر من 150 عامًا قبل النكبة) والاصطفاف الأوروبي قائم خلف فكرة مشروع الدولة اليهودية على أرض فلسطين، وأُتبع ذلك باصطفاف، بل إيمانٍ أمريكي بقدسية هذه الدولة وضرورتها الروحية، أما الاتحاد السوفيتي، فقد حرص على الإسهام في حل معضلة اليهود عندما منحهم، في العام 1928، أراضٍ شاسعة تقدر ب (22) ألف كيلومترًا مربعًا شرق الاتحاد السوفييتي بالقرب من منشوريا الصينية، إلا أنه فشل بسبب انتقال اليهود إلى عاصمة الإقليم، وعدم قدرتهم على تحمل ظروفه الجغرافية. وعندما أقيمت دولة إسرائيل إثر نكبة الفلسطينيين، كان الاتحاد السوفييتي أسبق من أمريكا في الاعتراف بإسرائيل.
وعليه؛ فإن أي مشروع يمس بإسرائيل وأمنها ووجودها واستقرارها سوف يُحاربُ، بكل قوة، من قِبل أعتى قوى على وجه الأرض (مجتمعة). فكانت النتيجة، بالفعل، أن الدولة الفلسطينية لم تقم حتى اللحظة، بالرغم من اتفاقية أوسلو التي حازت فيها إسرائيل على اعتراف كامل من قبل م. ت. ف؛ الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وبالرغم من الاعتراف بنا دولة غير عضو في الأمم المتحدة، وبالرغم من كل الاعترافات التي نسمع بها على المستويات الرسمية والشعبية على طول أوروبا وعرضها. أي أن دولتنا لن تقوم ما لم نقمها نحن.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية
نشر في صحيفة القدس المقدسية، يوم الأحد، بتاريخ: 30/11/2014م، ص20
aziz.alassa@yahoo.com
إرسال تعليق Blogger Facebook