رفعت زيتون؛ مهندسٌ- شاعرٌ، أو شاعرٌ-مهندسٌ؛ فبحسب الموقف تجده مبتكرًا ومبدعًا كما تريده. إذ يصمم ديكورات المنازل بلمسة فنية، تستجيب لرغبات الساكن وتوفر له أجواءً من السكينة والهدوء؛ فيرى السقف جميلًا، ويعيش تحته آمنًا مطمئنًا. كما (يُهندسُ) قصائده؛ بأن يجعلها تأسيساً، متينًا-متماسكًا، لِبُنْيانٍ فكريٍ أيديولوجيٍ معرفي ثقافي شامخ، يعانق عنان حاجة القارئ بأن يسهم في صياغة شخصيته، ويضيف لها ما هو جديد في ذلك كله.
تلك ليست مقدمة (مجاملة) لشاعر صديق، وإنما هي جزء من منهجية نقدية تضع شخصية الشاعر ضمن الأجواء التي تصنع النص وتؤدي إليه, بل تقوده بالاتجاه الذي يريده للقارئ. فقد صدر ديوانه بعنوان "نوافذ" عن دار الجندي للنشر والتوزيع في العام 2012، وقع في (112) صفحة من القطع المتوسط، توزعت عليها 13 قصيدة؛ اثنتا عشر منها تشكل النصف الأول للديوان والقصيدة الثالثة عشر، بعنوان "لم يبق إلا الكلمة" تشكل النصف الثاني له.
لأنني التزمت, منذ زمن, بمنهجية القراءة التحليلية–التفكيكية, فقد قمت بالإطلال على الديوان من نوافذه الثلاث التي تعلو غلافه: الحمامة؛ حملتني من قصيدة إلى أخرى.. الفتاة؛ أرشدتني، بعقلها الراجح ورأيها الصائب، حتى تمكنت من تفكيك القيد عن اليد التي تذود عن حرية الكلمة وقداستها.
بهذا؛ غصت في قصائد "شاعرنا–رفعت"، التي يستهلها بطلبه "أقبل بالضحكة منشرحاً" ويختمها بأن يضع "الكلمة" أمانة في أعناقنا؛ علينا أن نصونها، ونحفظ حروفها، لكي تحفظ لنا كرامتنا ووجودنا.
بقراءة متأنية، وبالمرور على جميع القصائد نجد أننا أمام ديوان مشبع بمجموعة مرتكزات تتمثل فيما يلي:
أولًا: الحكمة، النصيحة، الإرشاد والوفاء: فإذا تم توجيه هذا الديوان إلى جيل الشباب نجد أن هناك مجموعة من الحكم والنصائح التي سوف يستقيها القارئ؛ فتصبح جزءاً من سلوكه وشخصيته. وتغلب صفة الحكيم-المرشد؛ الذي يدل على الخير ويحض على فعل المعروف، بشكلٍ أو بآخر، في جميع قصائد الديوان:
- ففي قصيدة (أقبلْ بالضّحكةِ مُنْشَرِحًا) ينصحنا "شاعرنا–رفعت" بانتزاع الحزن من نفوسنا, والتخلص منه، إذ يقول:
كيْ نرمي حزنًا يسكنُنا في البحرِ وننسى ذكراهُ
وفي نفس القصيدة، يدعو إلى الفرح والسرور وإدامة البسمة والبشاشة مرسومة على محيانا؛ لأن في ذلك امتلاك لرأس المال الاجتماعي، وما يرتبط به من أفضل السبل لعمل الخير والتعلّم من تجارب الحياة، بقوله:
أقبلْ بالضّحكةِ منشرحًا كالنّهرِ تراقصَ مجراهُ
واعملْ من خيرٍ وتعلّم ذا رأس المال وذا الجاهُ
- ويعزز ذلك كله في قصيدة (غيثُ الفؤاد) بقوله:
وازرعِ الحبّ صباحًا في المسا تجنِ الودادْ
وابتعد عنْ صحبِ سوءٍ فالنجاةُ في الابتعادْ
- وفي قصيدة (قالَ لي حُلمُ المساء) يحفزنا على النهوض، وعدم الاستسلام ولا الركون إلى اليأس، ويعزز فينا الاتجاه نحو الأمل والتفاؤل، وأن نرى على الأرض ربيعها، وفي الشمس جمالها، إذ يقول: وانفض غبارَ العجزِ// عن كل الصحائفِ// لا تفرط في الربيع// وضحكة الشمس الجميلةِ// عند فجركَ...
- ويتجلى في قصيدة (يا حاسدي) بأن يطالبنا بوضع جهودنا وأوقاتنا وإمكاناتنا وما نمتلكه من قدرات، وما نحققه من إنجازاتٍ، في مختلف المجالات، في خدمة مجتمعنا. وقد أنصفنا، وعزز إنسانيتنا، عندما يطالبنا أن نكون كالنحلة في تضحيتها وفي عطائها (بصمت)؛ دون ضجيج، فيقول: قمْ يا أخي، كنْ نحلةً// فالزَّهْرُ قدْ ملأ الرُّبى..
- وفي هذه الأجواء، وفي ظل استراتيجية "النحلة" التي يدوعونا إلى تبنّيها، يقول "شاعرنا–رفعت": لا تنْظُرَنَّ إلى السماء بحسْرةٍ// وانظر إلى الأرض التي// برحابِها كيْفَ استقرَّت// تحتَ رجلِكَ عَنْ رضا// بَلْ دونَما سَخَطٍ عليك..
ثانيًا: أمثال لمواقف محددة، واستحضار للماضي: تميز "شاعرنا–رفعت" في "نوافذه" هذه بأن هناك أبياتًا شعرية يمكن وضعها ضمن سياقات الأمثلة "الشعرية" التي تكافئ الأمثال المنثورة التي تناقلناها جيلًا بعد جيلٍ، مثل:
- في قصيدة (أنتِ اشتياقي.. وأنتِ السرابْ)، ساق تعبيرًا رائعًا لمن سعى واجتهد من أجل أمرٍ ما، فساقه قدره لحظٍّ عاثرٍ، ليقول: حنانيك حظّي، أراني دخلت لعش الغراب.. في قصيدة (لوْ تَموتُ الذّكرَياتُ)، يصف مشاعر من ضاق بالحياة ذرعًا، بقوله: أتوسّلُ الحظّ الشّحيحَ// فيستخفُّ بحاجتي// ويضنُّ حتّى بالفتات. وفي ذروة تصويره للحزن والأسى، يقول: بكيتُ..// فأبكى انتظاري// عيون اليباب؛ واليباب، كما ورد في المعجم الوسيط (ص1106)، الخالي لا شيءَ فيه (حوضٌ يبابٌ : لا ماءَ فيه). وفي صورة تعبيرية عن حجم الأسى والاغتراب الذي يمكن أن يُبتلى به المرء، يقول في قصيدة (ألا مِنْ خَبَرْ):
غريبًا غدوتُ كطيْرٍ حزينٍ تُرى هلْ سلتْني غصونً الشَجَرْ؟
- وفي الحنين إلى الماضي واستذكار جمالياته ونضارة الشباب, يقول في قصيدة (طوتِ السُّطور حروفَها): وتذكر الماضي الذي// بالأمسِ كان صبيّةً// حوراءَ في خصرٍ نحيفْ.. ويقول في قصيدة من (منْ بينِ قطراتِ المطر)، بشأن تبدل الناس وتغير نفسياتهم ومواقفهم بتغيّر الأجيال، يقول: كنا وكانوا, والحياة تبدّلت أيامها// كم كانت الدنيا نقيًّا قلبُها// ويْلنا ماذا جرى؟ كيف انتهى عصرُ البشرْ؟ كما يخصص "شاعرنا–رفعت" قصيدة حول الحياة والخلق والسرمدية، وهي بعنوان (غيثُ الفؤاد), والحتمية التي سيؤول إليها بنو البشر، مطلعها:
سوف َ نخبو ذات يومٍ سوف نغدو كالرمادْ
قد قدمنا من رُقادٍ ثمَّ نمضي لرقادْ
- وفي قصيدة (لمْ يَعُدْ في النَّهر مَاءٌ)، يدعو إلى الفطنة والانتباه والحذر، والالتفات إلى أن من يغامر؛ ولم يقدر خطواته، يهلك في النهاية، إذ يقول: يا فؤادي، إن رماك الدهر سهماً// سوف يدمي ما تبقى.. و يصل الذروة، في التحذير من القادم المجهول، عندما يقول: سوف لن يبقى حبيبٌ// ربما ينساك حتى// ماء صلبك.. وفي ذلك إشارة إلى أنه قد ينساك الجميع؛ حتى من هم من "صُلبك"؛ أي ذريتك التي أنجبت وربّيت وكبّرت..
ثالثًا: صور تشبيهية متميزة: فقد أبدع "شاعرنا–رفعت" بما أتحفنا به، وأشبع خيالنا من صور وتشبيهات من الطبيعة، وُفِّق، إلى حد كبير، في استخدامها لإيصال الأفكار التي أرادها للقارئ، منها:
- في تصويره للظلم، والقسوة؛ بإفقار ونهب خيراتهم وثرواتهم، يقول في قصيدة (طوتِ السّطورُ حروفَها): يدخل في بلاد الخبز، يسبى قمحها// لا بلْ ويسلبُ مثلَ لصِّ الليلِ// مِن فِيها الرّغيفْ..
- وفي صورة تشبيهية جميلة للطبيعة، وأثر الغيث (المطر) في حياتنا؛ عندما يحيل اليابس إلى طري نضر، والجاف إلى رطب، فيقول في قصيدة (من بين قطرات المطر): من بين قطرات المطر// تمتد أيدٍ بالدعاء، وأعينٌ بالدمع// فاضتْ والرجاء، تدقُّ أبواب النّدى.. وتكتمل الصورة، بقوله: ما أجمل الغيث الرّقيق// على الوجوه اليابسات.. ثم يناجي الغيث، قائلًا: يا أيّها الغيثُ الودودُ// إذا مررتَ بليلةٍ// أعِدِ المسرّةَ للشّجَرْ..
- وفي قصيدة (عابِرةُ سَبيل)، التي تتجلى الرمزية وصور التشبيه. ولأن "المعنى في بطن الشاعر"، فإن "شاعرنا–رفعت" أومأ لي بأنه، في هذه القصيدة يتحدث عن اللحظة/ المفاجأة التي تعبر عن قدرٍ يفرض نفسه فجأة؛ دون سابق إنذار. وفي هذه القصيدة، يوظف ظاهرتي المد والجزر في وصف اللحظة، بقوله: عابرة سبيل قدماها// كالمد إذا كان رضاها..
رابعًا: الإيمانيات والمفاهيم العقائدية: كما هو مذكور أعلاه، لم يدع "شاعرنا–رفعت" مناسبة إلا ونصح وأرشد ودلّ على الخير، ويعزز ذلك بتعزيز روح الإيمان والتوحيد في نفس القارئ. ففي قصيدته الأولى يقول:
من ربٍّ أعطاك كثيرًا فاشكرْهُ لوفْرِ عطاياهُ ْ
والشّكرُ يكونُ بأنْ ترضى بالله وترضى بقضاهُ ْ
وفي قصيدة (غيث الفؤاد) التي يتحدث فيها عن نواميس الكون (الحتميات) التي يخضع لها الإنسان، والقضاء والقدر يختتمها "شاعرنا–رفعت" بالدعوة إلى أن نعمر صدورنا بالإيمان بالله؛ بذكره وشكره وحسن عبادته، إذ يقول:
طمْئن القلبَ بذكرٍ إنه غيثُ الفؤادْ
إنّهُ للروحِ نورٌ إن طغى ليلُ السّهادْ
خامسًا: ملحمة "الكلمة": جميع ما ذُكِر أعلاه كان نصف الديوان، أما نصفه الآخر، فقد تركز في قصيدة واحدة مطولة، بعنوان: (لمْ يَبْقَ إلا الكَلِمَة)، والتي يروي "شاعرنا–رفعت" أن فكرتها قد انبثقت من حوارٍ مع الكاتبة الفلسطينية "كاملة بدارنة"؛ عندما طلبت منه أن يكتب ما يؤكد على أن كلمة الحق هي التي تنتصر في النهاية، وأن يكون فيها دعوة لإعادة الغيوم البيضاء إلى سماء البشرية، بعدما غطّتها الغيوم السوداء، فسألها لماذا لا تكتبين أنت هذه الفكرة الجميلة، وأنت كاتبة للقصة والخاطرة، فقالت أنها ستكون بالشعر أجمل وأنا لست بشاعرة، وفعلا شرع بكتابتها في تلك اللحظة.
فكانت تلك القصيدة التي تبدأ بمقدمة/ تمهيدٍ بعنوان "في البَدْءِ"، يصف فيه الحرف؛ وهو أصغر من الكلمة، كما يصف بدايات الحياة، حيث كان الخير هو السائد على الشر، والبياض على السواد، تلك الحقبة التي يقول عنها "شاعرنا–رفعت": لم يفهم التاريخُ بَعْدُ الفكرتين// ولمْ يعِ المعنى المُخبّأَ// في جفون الغيبْ.
ثم انطلق "شاعرنا–رفعت" في ملحمة شعرية رائعة، يفتح فيها ست وثلاثون نافذة لرجلٍ قُدِّرَ له أن يكون حبيس كهفٍ لردحٍ من الزمن. وإنّ من يتابع جزئيات هذه الملحمة يجد نفسه، في مواجهة مباشرة، مع حقائق الكون؛ بأزمنته المختلفة. وهي مشبعة بما استوحاه "شاعرنا–رفعت" من رموز أدبية (حوالى 150 رمزًا) من التوراة والإنجيل والقرآن، ومما جاء به الأنبياء والرسل والصالحين والوعّاظ.
وأود هنا الإشارة إلى أن الكاتبة "نسب حسين" ناقشت هذه الملحمة باستفاضة، جعلتني أتوقف عندها، معمقًا؛ لما تمتعت به من عمق التحليل ودقة الوصف، عندما أعادت النصوص إلى جذورها العقائدية والفكرية، وإلى القصص والمواعظ والعظات الرابضة في عمق التاريخ البشري (انظر: صحيفة القدس بتاريخ: 18/11/2012، ص47).
خلاصة القول:
هذا هو ديوان "شاعرنا–رفعت" بعنوان "نوافذ"، قرأته فوجدتُه يزخر بالحكمة والكلمة الطيبة. يصف الطبيعة فيسبر غورها، ويلتقط أجمل ما فيها، يدعو إلى التضحية والفداء من أجل الغير إلا أنه، في الوقت ذاته، يدعو إلى الفطنة والحيطة والحذر، وكأني به يذكرنا بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لستُ بالخِبِّ، ولا الخِبُّ يَخدعُني. كما يعمِّق، في نفوسنا، الإيمان بالله والقضاء والقدر، الذي علينا أن نعالجه بالحكمة والحنكة، وأن نواجهه بتعميق الإيمان في نفوسنا، وأن نتوجه إلى الله، جلّ شأنه، مبتهلين، بقول : اللهم أسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشداً.
بقي القول: إن في هذا الديوان، من الحكمة والموعظة الحسنة، ما إن تعلمه أبناؤنا، وسبروا غوره، واستوعبوه، وأدركوا معانيه، فإنه سيصيغ شخصياتهم ويوجههم نحو الخير وفعله، كما يأخذ بيدهم في مواجهة أزماتهم، وما أكثرها، ببعديها: الخاص والعام. ويأتي ذلك كله "بالكلمة المغنّاة"، التي يسهل حفظها وتناقلها وتداولها؛ فتشيع ثقافة ومعرفة كم نحن "جميعًا" بأمس الحاجة إليها في زماننا هذا وفي القادم من أيامنا.
أختم بطلبٍ أتوجه به إلى وزارة التربية والتعليم العالي، بأن تنظر في إبداعات شعرائنا، وإنجازاتهم، لتضمينها في مناهجها التربوية والفكرية، وأن تعمّمَ إبداعاتهم، بأجناسها الأدبية المختلفة، في مكتباتنا المدرسية. كما أدعو الوزارات الأخرى، ذات الصلة، بخاصة وزارة الثقافة، إلى تعميم هكذا إبداعات ونشرها كنتاجات أدبية وفكرية فلسطينية الأصل والفصل والمنبع.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية
نشر في صحيفة القدس المقدسية، يوم الجمعة، بتاريخ: 28/11/2014م، ص22
aziz.alassa@yahoo.com
إرسال تعليق Blogger Facebook