إياد شماسنة؛ شابٌّ فلسطيني ينقّب بين الكتب كما ينقّب الصائغ الحذق عن المعدن النقي الصافي من الشوائب، فيصب المعارف والمعاني سبائك، صلبة جميلة بهية تمتلك الديمومة والسرمدية والنقاء والصفاء، لقارئ يبحث عن شعاع يضئ ظلمة المكان والزمان، ويوقف التصحر الثقافي والمعرفي الذي تتسع مساحته حتى أضحت تهدد الهوية والوجود على أرض الآباء والأجداد. إنها المعرفة "النوعيّة" التي شخّص "شماسنة" حاجتنا إليها منذ زمن. فتراه يبحث في السياسة، والحروب، والتاريخ، والأماكن، والأفكار، والفلسفات، والروايات، والأساطير... الخ، لكي يصوغ منها، ما لذ وطاب من المفاهيم والرؤى والآراء السديدة. وفي كل الأجناس الأدبية التي ينتجها "شماسنة"، تجد أن الشعر يشكل روحها الفنية، كما أنها تأتي، في جوهرها، غير بعيدة عن العقيدة الدينية التي يؤمن بها كمنهج لحياة الأفراد والمجتمعات.
لقد قُدِّر لي أن أقرأ روايته "امرأة اسمها العاصمة" الصادرة عن "دار فضاءات للنشر والتوزيع/ عمان/ الأردن". وهي مجلد يقع في (279) صفحة من القطع المتوسط، تتوزع على (15) عنواناً. وبعد قراءة متمعنة؛ تحليلية-تفكيكية تهدف إلى سبر غور النصوص وما وراءها من رسائل أراد "شماسنة" بثّها في نفوسنا، ووثائق أراد لنا إدراك قيمتها وأهميتها في روايتنا الوطنية، والتسلح بها في رحلتنا نحو التحرر والانعتاق.
لذلك؛ فقد توقفتُ، معمقاً، عند أحداث هذه الرواية؛ لكي أجتهد في "استخلاص" العصارة الكامنة بين سطورها، المتمثلة بالمحاور والمرتكزات التالية، التي تشكل الهيكل الذي تتكئ عليه أحداثها والصخب الذي تثيره العاصمة-المرأة والمرأة-العاصمة، وهي:
أولاً: مدخل الرواية وشخصياتها:
قبل أن يلج إلى روايته، أراد "شماسنة" أن يعزز فينا أهمية الأمة التي ننتمي إليها، ودورها في حياة البشرية جمعاء، فاستهل أحداثها بالتجوال في الأندلس التي بناها الأجداد بعبقرية قلما تتكرر في التاريخ. فكانت الحوارات المعمقة، المشبعة بالفكر، وبالمعرفة بالتاريخ وشئونه، وبالصراع القائم على أرضنا وأسراره ومكنوناته، فوقف على أطلال الأندلس وغرناطة، التي شهدت على حضارة العرب وإبداعاتهم في الربط الجدلي بين القوة والجمال، مستشهداً بــِ "ابن زيدون" الذي أنجز ديوانه الخالد من اجل ولادّة بنت المستكفي, والملك "ابن عباد" الذي نحت اسم محبوبته "اعتماد" من اسمه.
ولكي يمتّن بياناته وبيّناته وحججه، التي يستند إليها في أحداث هذه الرواية، وجدنا أن "شماسنة" قد اختار شخصيات روايته بمستويات ثقافية متقدمة، ومن أصحاب التجارب الواسعة والتخصصات الأكاديمية الدقيقة؛ المطلعون على حضارات وثقافات الأمم الأخرى. ولكي لا يبتعد عن الجوهر الذي أراده؛ في رصد مجريات الأمور على الساحة الفلسطينية، وفي المنطقة المحيطة بالقدس (امرأته العاصمة)، جعل تلك الشخصيات فلسطينية الأصل والفصل والمولد والنشأة. وكان بطل الرواية "أحمد العربي" للدلالة على عروبة عاشق العاصمة، والتي لا يملك قلبها أحد غيره.
ثانياً: خصائص وسمات الطفل والمرأة والرجل:
يعيد "شماسنة" تعريف الطفولة، ليست بالمعنى التقليدي، الذي ننظر فيه إلى الطفولة أنها مرحلة الضعف، وانتظار من يسندها ويبث الحياة فيها، بل يرى بأننا دائما نحتاج إلى الطفل الماهر، الساكن في النفس؛ فهو الفنان الأجمل، والأوسع خيالا، والأقل حدودا، وأن طفل القلب، يعيد ترتيب المختلط، ويبتكر المفقود. ففي وصفه لـ "أدهم عبد الرحمن"، يقول: هذا الرجل الأسد: الذي يحمل الأسد في قلبه. والرجل الطفل: الطفل في حلمه. والرجل السيف: السيف في يده ولسانه.
وكان للطفولة والأطفال وقفات تأمّل وتقدير من قبل "شماسنة" الذي توقف عند براعة الانتباه للطفلة "دعاء"، التي أصبحت طبيبة فيما بعد، في حين أنه يصر على أن يرى فيها طفولتها حتى بعد أن داومت في عيادتها كطبيبة تداوي المرضى. كما يستشهد بالأسئلة الصعبة والمعقدة التي يطرحها الأطفال، كسؤال إبن الشهيد الذي يسأل أمه في ليلة ممطرة: هل أرسل أبي الساكن في السماء هذا المطر يا أمي؟ كما تدخل الطفلة شيرين في المشهد أثناء حصار الشهيد ياسر عرفات، التي تمارس شعائرها الطفولية في طريقها نحو الوعي، لتجد نفسها تهرب نحو الخلف، خلف باب الوعي، وخلف الأسئلة، والأجوبة التي بقيت معلقة.
أما بشأن المرأة؛ فيرى "شماسنة" أن مجتمعنا أنثوي بامتياز. وفيما يشبه "طقوس الاعتراف"، نجد أن "شماسنة" يمعن في وصف المرأة ودورها في حياة البشرية، جمعاء. ويتجلى ذلك في النظر إليها على أنها: هي التي تصنع الثقافة، وتخلق الفروق، وتصمم الأشكال للحاجات الإنسانية وطرائق تلبيتها، وتخلق الأنماط الغذائية، والزراعية، وهي التي تصنع الحروب وتصنع السلام، وتصنع التاريخ؛ حتى أن التاريخ أنثويًا وليس ذكوريًا. ثم "يُبحِرُ" في استعراض الأمثلة العديدة التي تعزز وجهة نظره هذه، حتى يصل إلى المرأة والدة الشهيد (ماجد) التي يشبّهها بشجرة زيتونٍ وأن يدها يد بحار، ووجهها وجه بحار، إنما بحار داخل المخيم. بحار للقهر، في بحر اليأس والبؤس.
كما أن المرأة-العاصمة أو العاصمة-المرأة هي التي تثير الصخب الذي تقوم عليه الرواية بأكملها، فهي الملهم للشاعر، وللكاتب، وللراوي وهي المحرك للأحداث. وقد شبّه "شماسنة" الأماكن بالنساء؛ لأنها لا تنسى تجاربها الأولى، كما شبّه الأغاني بالنساء؛ لأن أجملها ما يخلع قلوبنا. ومن الطريف أنه صنف النساء من فصيلة الكتب؛ فإن كذبت ألسنتهن صدقت عيونهن.
أما بشأن دور النساء في حياة الرجال، فيقول "شماسنة": "نحن نحب النساء لكي نجد من يخاف علينا بطريقة غير التي اعتدناها من أمهاتنا، وعندما نموت ليبكين علينا خلاف ما تبكي أمهاتنا، وربما نحن بحاجة لمن يحفظ ذكرانا بطرق غير التي تعرفها أمهاتنا". أما ما تنتظره النساء من الرجال، فإن أقواهنّ تحب جرأة الاقتحام وتصاب بنشوة، حين تجد القوي، الأمين، القادر على تحطيم كل أسوارها المحصنة.
ثالثًا: فلسفة الروائي ونظرته الخاصة للأمور:
لم تمر مناسبة أو موقف، إلا ونجد "شماسنة" وقد أدلى بدلوه، من حيث فهمه الخاص وفلسفته المستقاة من فهمه المستند إلى ثقافته الواسعة، التي يتمتع بها من خلال اطّلاعاته وقراءاته المتعددة المصادر والمراجع. ومن هذه القضايا:
1. فلسفة خاصة به: فقد وصف ممارسته لعادة حرق السجائر الكوبية دون أن يدخنها، بأنها رياضة الإتيان على آخر الأشياء، آخر الكأس، آخر الحب، آخر الورق، آخر الليل، آخر الأنفاس، آخر اللذة، وهو بذلك يجسد طريقته في الاستمتاع بالتفاصيل على مهل، حتى النهاية أما لب الفلسفة والشاعرية المتدفقة، أو ما أسماه في حديث عابر بـ "السرد الدافئ"، عند "شماسنة" فتجلى في قدرته على قراءة ذاكرة المكان وذاكرة الوجوه، وصولًا إلى "تاريخ الروح"؛ الذي هو تاريخ العقل، والروح، والفلسفة، والدين، والفن، والشعر.
ويقتحم "حصون" محمود درويش، عندما يقول "شماسنة": "البيوت تموت إذا غاب عشاقها"، في حين أن درويش، يقول: "البيوت تموت إذا غاب سكانها". وفي ذلك حوار بين الأجيال وتطوير لمعاني الالتصاق بالوطن السليب.
كما يرى أن منتصف الليل يعني وصل الماضي بالحاضر والأمس الماضي باليوم القادم. ويرى أن الشعور بالفراغ يعني شعور بالحاجة، لأنه كالجوع "تمامًا"؛ هو دعوة للفعل.
2. الشعراء والكتّاب: يلاحظ أن "شماسنة" عند تبريره للتوقف عن الكتابة قوله: لقد جف قلب الشاعر ومعه قلم الكاتب. مما يعني أن الشاعر يكتب "بقلبه" والكاتب يكتب بقلمه، إلا أن المشترك بينهما أن كليهما "يسبح في محراب الجمال". أما بالنسبة لدور الشاعر في المجتمع، فيرى "شماسنة أن الشاعر أكثر قدرة من السياسي على الاستبصار؛ لأنه أكثر انخراطا في الصفوف، وأكثر اقترابا من الناس؛ فالشاعر يحرك جيوشا بقصيدة، أو يحرك سيفا ببضعة أبيات من الشعر، وأنه لا يموت إلا حين يُنسى، ولكنه قد يختفي قليلا، ليبعث من جديد فينيقا آخر. أما اللغة عند الشاعر، فهي "امرأة الروح" بكل تفاصيلها؛ فالشعراء يتزوجون اللغة؛ ومن ذلك الزواج تولد القصيدة؛ لذلك فاللغة امرأة، هي امرأة الروح، بل هي الروح التي نعشقها. والشعر يفتح "بوهجه" أبوابًا لا يفتحها إلا الشعر نفسه.
أما الكتابة؛ فيرى "شماسنة" أنها راحته، وموته وقيامته، وهي أداة للتصالح مع الذات أولًا، ومع الكون ثانيا، كما أنها طريقته في القتال، وهو يكتب لكي يتنفس، ويستمر في الحياة.
رابعًا: مآسي الوطن السليب:
اجتمع أبطال الرواية المقدسيون الأربعة؛ المختلفون فكريًا، على مدى خمسة عشر عامًا، فوحدتهم القدس التي يذودون عنها، ووحدهم الوطن الذي ينادي أبناءه. وهنا؛ نجد "شماسنة" وقد استغرق في وصف معاناة القدس والمقدسيين من الاحتلال باعتداءاته على الأرض، وأسواره العنصرية، وحواجزه القاتلة، وقوانينه الظالمة التي تستهدف قدسية المكان وكرامة الإنسان.
وخلال فترة انتفاضة الأقصى، تجول بنا "شماسنة" في أرجاء الوطن الذي تم "تدميره"، بشكلٍ مبرمج، حضاريًا واقتصاديًا، واستبيح أمن أبنائه وحريتهم. واستشهد على ذلك بوصفه، بشئ من الإسهاب، لعملية حصار الشهيد ياسر عرفات، الذي اختار أن يقضي "شهيدا، شهيدا، شهيدا"، عندما تحرك أكثر من مئتي دبابة ومدرعة، وناقلة جند، تتقدم كزئبق سام في شرايين رام الله والبيرة، وتتسلل إلى هدفها في المقاطعة، حيث مقر الرئيس ياسر عرفات. بعد أمر دبر بليل، وهو قرار الذئاب بهدم شعب، عبر النيل من زعيمه.
ثم ذهب إلى مخيم جنين عندما استشهد صديقه "ماجد منصور"؛ أحد أبناء المخيم. هذا الشهيد الذي ذهب يبحث عن حضن أمه في جنين، فضمته الأرض إليها في نابلس. وهناك وصف "شماسنة" الدمار الذي أصاب المخيم الذي أصبحت بيوته فارغة إلا من صخب الوحشة، وبقايا شظايا، فلا تستطيع أن تحمل في داخلها أحد، إلا بقايا حطام، أو حمامة ميتة برصاص قناصة، أو ربما رصاص مروحية، أو ببيان سياسي ذو رقم ألفيٍّ، من قمة عربية أو عالمية.
أما "حيفا"، وما ترمز له من الإشارة إلى الجزء المغتصب من فلسطيننا في العام 1948، فقد كان لها حضورها، بجغرافيتها ومعالمها الحضارية وبعض قراها، وبأهلها القابضين حقهم بالعودة إلى أسرّتهم التي انتزعوا منها، وفق أشرس عملية اغتصاب حقوق لشعبٍ بأكمله مرّت عبر التاريخ البشري.
كما أشار "شماسنة" إلى الاحتلال وشروره وأثره السيء في حياتنا، فوصف "التهاب الصدر" بأنه ثقيل؛ مثل الاحتلال، كما يخشى على الأوراق التي في أيدينا أن يؤذيها هواء موبوء بالقهر والاحتلال. ثم ينبهنا "شماسنة" إلى مخاطر الفرقة والتشرذم، بقوله: نحارب، وندفع الصخرة إلى أعلى، ونحن نعلم أن جنديا واحدا من جيش الاحتلال في لحظة اختلافنا واقتتالنا، قد يصلبنا إلى حائط، فنرخي الصخرة، لتعود إلى الوادي مرة أخرى من جديد.
خامسًا: القدس، يطغى حضورها:
قام "شماسنة" بجولته في القدس، وتمتع بعبقها؛ مكانيًا وزمانيًا، وهو متيقظ لإشكالية التهويد، والأسرلة الجامحة لسرقة المدينة. وقد ذكر المسجد الأقصى، وبعض أحيائها، مثل: سلوان وبيت حنينا، وبعض العقبات، والأضرحة والتكايا، والمكتبات، وباب خان الزيت والأحياء الإسلامية والمسيحية، ودرب الآلام؛ وهي درب مقدسة في نظر المسيحيين، لاعتقادهم بأن السيد المسيح سلكها حاملاً صليبه يوم ساقه جند الرومان للصلب، بعد أن حكم عليه الوالي الروماني بالموت، عبارة عن أربع عشرة مرحلة: تسع منها خارج كنيسة القيامة وخمس في داخلها".
ولم يغادر "شماسنة" القدس، بعد تلك الجولات، قبل أن يشخص ما أسماه "الأشواك" التي تدمي أقدام القدس-العاصمة وما تسببه من ألمٍ دائمٍ لها، وهي: السابلة من جنود الاحتلال، المنتشرون في كل مكان، والأطفال المقدسيين المتسربين من مدارسهم، واللغة المختطفة من العروبة إلى العامية واللامعنى، وتلك الصادحات بالعبرية، التي تكاد تلوث كل شيء وتجعل الأذان الصادح من المسجد يكاد يعود غريبا.
سادسًا: الأسئلة الصعبة وإجاباتها:
تبدو الرواية من عنوانها، وكأنها تصعد جبالًا شاهقة، وهي تخلق حالة من التحدي الفكري والفلسفي للتقليد الروائي الذي تعودنا عليه. إذ بعد الحوارات التي شكلت المحاور الموصوفة أعلاه، وغيرها من المحاور التي يراها آخرون من النقّاد، نجد أن "شماسنة" يفجر سؤالين، استراتيجيين، تقوم عليهما الرواية، هما:
أما السؤال الأول، فهو: هل تستطيع امرأة أن تكون مدينة أو عاصمة؟ ويجيب عليه "شماسنة"، بالقول: المرأة هي المدينة الأولى، العاصمة الأولى، سواء أُحرقت أم بقيت أبدية، سواء كانت روما أم القدس أم دنيا الأنصاري. ثم يعمم بقانون "الهندسة العاطفية للأماكن"، ونصّه: المدائن والعواصم لا تفنى ولا تستحدث إنما تتحول من شكل إلى آخر.
وأما السؤال الثاني؛ فقد دفعته إليه "دنيا الأنصاري"؛ القائمة بدور المرأة-العاصمة، برفضها الزواج من "أحمد العربي"، وقيامها باختيار فستان الزفاف لصديقتها "راوية" وتزويجه منها، ثم تسارع للعودة إلى القدس لتستقر فيها. حيئذٍ ينفجر بسؤال، لم يكن غافلا عن إجابته: لماذا أطعتك، وتزوجت راوية، وأنا أحبك؟
ثم يحاور نفسه، ليتوصل إلى النتيجة ذات الحد الأدنى من الوجع وألم الفراق، فيقول: كنت في محراب الخسران، وربما آثرت النجاة بها على أن لا أفوز بأي شيء، وأنا اللاجئ، الذي تعلم أن يأخذ معه ما استطاع بعد نكبة ونكسه. ولأن العودة قد تتأخر كثيرا، تعلمت بتجربة الألم، وفي طريقي إلى حريتي، أن أعمل على شيء آتٍ، وشيء بعيد سيأتي.. وعندما يشتد أَلَمه، يعود إلى إستراتيجيته التي طورها عبر سنين العذاب، في مواجهة الصعوبات، وهي: لا يعالج الجروح الكبيرة إلا الإيمان الكبير بالشفاء.
الاستنتاجات:
هكذا؛ نكون مع "إياد شماسنة" في روايته هذه المشبعة بالفكر الناضج، والفلسفة المعمقة، والمفاهيم والمصطلحات المثيرة للبحث والمتابعة. تعرفنا فيها على الأندلس؛ رمز عزة الأمة وتفوقها الحضاري التي توجّهت إليها "دنيا الأنصاري" للحصول على درجة الدكتوراة. كما تعرفنا في هذه الرواية على الرجل البحري، والمرأة البحرية، وأنواع القهوة (كيف نشربها ومع من نشربها)، وعلى روايات وأساطير يصعب علينا أن نجد من يجمعها، معًا، بين دفتي كتاب. وقد جاء ذلك كله بعبارات وجمل، أشبه ما تكون، بسمفونية تم إعدادها خصّيصًا لهذه الرواية، التي تعلمنا منها كيف نغازل وطننا؛ بمدنه وتلاله، وجباله، ووديانه كما يغازل العاشق حبيبته الصغيرة.
ونحن في رحاب القدس-العاصمة، والقدس المعشوقة من أهلها، وفي رحاب "حيفا" التي تحتضن الكرمل كما تحتضن الأم رضيعها، وفي ظل حرماننا من حضننا الدافئ العامر بالحب والحنان، يبقى السؤال: هل نستبدلها بعاصمة-امرأة أخرى؟ وفي ظل التشتت والتشرد الذي يعيشه شعبنا في أصقاع المعمورة، فمن هي العاصمة التي ينتمي لها الفلسطيني المولود خارج المجال الحيوي للقدس؟ فهل ينتمي الفلسطيني الذي وُلِدَ في القاهرة، إلى القاهرة أم إلى القدس؟
هذه الأسئلة، الشائكة، تنتظر إجابات وطنية بحتة، تتطلب من صانعي القرار، على المستوى الثقافي الفلسطيني، التوقف عندها بعمق، لكي نتوجه إلى الأجيال المتلاحقة بآلة إعلامية وتثقيفية محكمة الإعداد، لمنع حالة "الذوبان" العاطفي والوجداني في العواصم الأخرى، الأمر الذي يعني جفاف و/أو انقطاع "الحبل السري" المتصل بين القدس-العاصمة وأبناء الشعب الفلسطيني، أينما حلّوا وارتحلوا. ولعل "شماسنة" يساعدنا في ذلك عندما يقول: عندما أطوف مدن العالم كصحافي، أو كشاعر، يحدث أن أصاب بواحدة أو أكثر من المدن، عمان مثلا، أو بيروت، عنابة وغيرهن. لكن أي منهن، لا تملك بكل إغرائها، وما فيها من غواية المكان، وذاكرة الطرقات، وعبق الوجوه، والملامح المتناثرة في الريح، أن تصبح عاصمتي الأبدية. حتى رام الله، يقول فيها "شماسنة": امرأة بديلة، والنساء البديلات لا يشبعن قلق الروح.
aziz.alassa@yahoo.com
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 29 تشرين أول، 2014
نشر في صحيفة العاصمة المقدسية، يوم الخميس، بتاريخ: 13/11/2014
الصفحة الرئيسية
»
ثقافة
»
شئون مقدسية
» في رواية "امرأة اسمها العاصمة": المرأة والمدينة وجهان لعشقٍ واحدٍ قراءة: عزيز العصا
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
إرسال تعليق Blogger Facebook