نشر في مجلة الإسراء. تصدر
عن دار الإفتاء الفلسطينية. العدد 122، تموز وآب/ 2015، صص: 40-46
عزيز العصا
مقدمة
قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ" (البقرة: 185). يتبين من هذه الآية الكريمة ومن الآيات التي
سبقتها في نفس السورة مدى أهمية شهر رمضان في حياة المسلمين، من تهذيب للنفوس وصقل
للإرادة والقدرة على الصبر.
لا تأتِ الأهمية هنا ببعدها الزماني كشهر من أشهر السنة؛ فلا عبادة
للأزمنة ولا للأماكن في الإسلام، وإنما هي مواقيت وأماكن نستخدمها ونوظفها في
عبادة الله وحده لا شريك له.
سنتناول، فيما يلي، هذا الشهر الفضيل من الناحيتين: العقائدية؛ كشهر
نمارس فيه عبادة الصيام تضرعًا واحتسابًا لله تعالى، والواقعية؛ المتعلقة بسلوكيات
الفرد والجماعة والمجتمع في وطننا الفلسطيني، وانعكاس ذلك على حياتنا الاقتصادية.
شهر رمضان شهر عبادة
شهر رمضان هو الشهر الذي فرض الله، سبحانه وتعالى، علينا عبادة الصوم
كركن أساسي من الأركان الخمسة التي قام عليها الإسلام الحنيف. والمسلمون ليسوا أول
أمة تكتب عليها عبادة الصوم؛ وإنما كتب الصيام على الأمم التي سبقت، مصداقًا لقوله
تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"
(البقرة: 183). ففي جميع الأديان وحتى الوثنيون هناك طقوس للصوم تختلف باختلاف
المعتقد.
من هنا؛ نجد أنفسنا أمام حقيقة ثابتة وهي أن الصوم عبادة التقرب من
الله؛ بالصبر والتقوى والصلاة، وتلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، والتضرع إليه سبحانه بالمغفرة وحسن الختام، وما يرافق ذلك من إيتاء الزكاة والتصدق على
المساكين، ورد لهفة الملهوفين، والإسهام في رفعة الأمة.
وأما من لم يستطع القيام بالصيام فقد كان الله في عونه؛ فأعفي من هذه
العبادة، واستبدلت بما يعوض عنها؛ بإسهام صاحب العذر في بناء مجتمعه، لقوله تعالى:
"فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ
لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ" (البقرة: 184).
يتضح مما سبق أنه لم يرد في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية
الشريفة، ولا في سيرة السلف الصالح، أن هناك تخصيصًا لشهر رمضان بالمأكولات
والملابس والمشتريات المختلفة، وإنما الأمر لا يتعدى توجيه الصائم بضرورة اتّباع
عادات وسلوكيات سليمة؛ تخفف عنه أعباء الامتناع عن تناول الطعام والشراب، كما
توجهه إلى كيفية تناوله لطعامه وشرابه، عند الإفطار؛ بما يحفظ له صحته ويحميه من
أي ضرر.
شهر رمضان والعادات البائسة
أما
في واقعنا المعيش، فإن في السلوكيات المجتمعية، ببعديها العام والخاص (على مستوى
المجتمع والأفراد)، ما يتناقض مع الرؤية الموصوفة أعلاه للصوم كعبادة، أراد الله
بها تهذيب النفوس وصقلها وتربيتها على العمل الصالح والتقوى، لا على الجشع
والأنانية البغيضة. فما إن يعلن عن ثبوت هلال رمضان، إلا وتجد الناس يتدافعون إلى
السوق للاستحواذ على أكبر كمية ممكنة من المأكولاتٍ والمشروبات؛ لتخزينها من أجل
شهر رمضان، ليبدو الأمر وكأن هناك حرباً قادمة سوف تمنعنا من مغادرة منازلنا لمدة
شهر كاملٍ. ويقابل ذلك من جانب بعض التجار، من يسارع إلى التلاعب في أسعار
المأكولات وجودتها ونوعيتها؛ لتحقيق الكسب غير المشروع.
لا
يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ وإنما يتبعه إقامة الولائم (الوجبات) الرمضانية، على
مستوى الأسرة، وعلى مستوى تبادلها بين الأسر، فحدث ولا حرج؛ فيهيمن عليها طابع
المبالغة والتبذير، من خلال الكميات التي تفيض عن حاجة (المفطِرين)، وأسعارها
المرتفعة التي تجعل كلفة الوجبة (الرمضانية) أضعاف كلفة نفس الوجبة في الأيام
العادية لنفس أفراد الأسرة.
حتى
الولائم الرمضانية-الخيرية؛ الهادفة إلى إطعام الفقراء والأيتام والشرائح
المجتمعية الأخرى فإنها، في كثير من الأحيان، (ترتد) عن الهدف الذي أقيمت من أجله،
بأن تتحول إلى إفطارات (مهرجانية-احتفالية) يتخللها مصروفات و(بهرجات)، ليست من
عبادة الصوم في شئ، ولا تتعلق بإشباع حاجة الملهوفين والجوعى والفقراء والمعوزين.
أضف
إلى ذلك أن المسارح والحانات والأماكن السياحية والملاهي والمراقص ودور السينما (إن
وجدت)، تفتح ذراعيها (للصائمين!!) وتفتح جيوبها لأموال (الصائمين!!)؛ لكي تجعلهم
(يتمتعون!!) بأجمل السهرات (الرمضانية!!). كما تقوم الفضائيات بابتداع برامج
ومسلسلات فيها من الفسق والضلال والتضليل ما يتناقض، تمامًا، مع هذا الشهر الفضيل،
شهر الهدى والتقوى والعبادة.
شهر رمضان شهر الاستهلاك العشوائي
لكي
نضع الأمور في نصابها لا بد من التوقف عند الانعكاسات التي تتركها تلك الممارسات
والسلوكيات على حياة الفرد المسلم، وعلى حياة المجتمع، من النواحي النفسية
والمعنوية والاقتصادية.
لعله
من المفيد التذكير ببعض الأرقام والإحصاءات الخاصة بالفلسطينيين في الضفة وغزة،
مثل: العدد الكلي هو (4,550,368) نسمة[1]،
ومتوسط عدد أفراد الأسرة الفلسطينية هو (5,3) فرد لكل أسرة[2]؛
أي أننا أمام (858,560) أسرة. أما متوسط الاستهلاك الشهري للأسرة الفلسطينية من
الطعام فهو (351) دينارًا[3].
كما أن معدل البطالة بين الشباب الفلسطيني، بعمر (15) عامًا فما فوق هو 23,4%،
ونسبة الفقر بين الأفراد هي (25,8%) وأن (12,9%) منهم يصلون لحد الفقر المدقع[4].
علمَا بأن الفقر هو "مؤشر إلى
وضع يتسم بالحرمان من موارد، أو قدرات تعتبر ضرورية لحياة بشرية كريمة"[5]،
والفقر المدقع يعني "العجز
عن توفير تكاليف المتطلبات الدنيا الضرورية من حيث المأكل والملبس والرعاية الصحية
والمسكن"[6].
بالاستناد
إلى الأرقام والمفاهيم السابقة، نجد أن الأسر الفلسطينية، ضمن مناطق الدولة
الفلسطينية، تستهلك على الطعام (301,3) مليون دينارًا أردنيًا شهريًا. وإذا قدرنا
أن مصروفات الأسرة الفلسطينية خلال شهر رمضان تزداد بمقدار ثلث المصروفات الشهرية
العادية، فإننا نجد أنفسنا أمام مائة مليون دينار أردني (تزيد عن نصف مليار شيكل
بالعملة المتداولة) تهدر خلال هذا الشهر على الطعام فقط، ناهيك عن المصروفات
الخاصة بالملابس والمشتريات الأخرى، نتيجة الممارسات الفردية والجماعية للمجتمع
المسلم، التي تتناقض مع الشرع والشريعة جملة وتفصيلاً.
أضف
إلى تلك الأرقام الفروق المالية الناجمة عن ارتفاع الأسعار، ورداءة نوعية البضاعة،
والأموال المصروفة بسبب الأمراض، الطارئة والمزمنة، الناجمة عن سوء التغذية (بسبب
إساءة تنظيم تناول الغذاء بطريقة صحية)، وما يتبعه من مصروفات طائلة استعداداً
لعيد الفطر.
إذا
ما قمنا باتخاذ قرار مجتمعي يقضي بأن نبقي على مصروفاتنا كما هي في الأشهر الأخرى،
ونحول الأموال (المهدورة) إلى صندوق لمعالجة الفقر والفقر المدقع، فإننا سوف نؤمن
مصروفًا يكفي حاجة (283,324) بأن ينقلها من الفقر المدقع إلى حال الأسر العادية
(فوق خط الفقر)، وإذا ما أحسن استخدام هذا المبلغ فإنه سوف يمكّننا من القضاء على
الفقر والفقر المدقع على مدى عامٍ كامل.
عندما
ارتأيت الكتابة في هذا الموضوع، قمت بجولة (بحثية) في الدول العربية والإسلامية؛
للتعرف على ما يجري عندهم خلال شهر رمضان، فوجدت أن الكتاب والمفكرين والاقتصاديين
في تلك الدول يطلقون صرخات عالية في وجه تلك العادات والبدع التي تم إلصاقها
بعبادة الصيام، والتي يتم ممارستها في شهر رمضان في تلك الدول. وأكتفي بما يقول به
السعوديون في مجالي الشراء الاستهلاكي ودوام الموظفين في شهر رمضان المبارك، كما
يلي:
أولًا:
يشكو المواطن السعودي مما أُطلق عليه "شهر
رمضان وما يرافقه من عشوائية الشراء الاستهلاكي". فخلال شهر رمضان
المبارك تكون هناك تخفيضات على عدد من السلع، ما يدفع بعدد من الأسر استغلال هذه
الظاهرة وشراء ما يفوق حاجتها، ما يجعل ميزانيتها تتقهقر؛ حيث يقوم المواطن
(السعودي) بشراء حوائج وأغراضاً بنسبة 30% تفوق متطلباته اليومية نتيجة للعروض
المقدمة والأسعار التي تستقطب وتستنزف الجيوب[7].
ثانيًا:
يقدر الاقتصاديون السعوديون أن حجم الهدر في
الإنتاجية خلال شهر رمضان وإجازة عيد الفطر بحوالى (25%)، مشيرين إلى تقارير هيئة
الرقابة والتحقيق التي تنتقد بصورة صارخة سنويا معدلات الغياب عن العمل والتسيب
الوظيفي أثناء رمضان وقبل إجازة العيد وبعد العودة لعدة أيام[8].
حلول لا بد منها
إذا
كان الأمر كذلك في المملكة العربية السعودية؛ تلك الدولة النفطية المستقرة، والتي
يتمتع مواطنوها بقدر عالٍ من الرفاهية والامتيازات الخاصة بالموظفين، فإنه علينا
نحن في فلسطين أن نلتفت إلى خصوصيتنا المتعلقة بوجودنا تحت احتلال يسعى، ليل نهار،
إلى جعلنا الحديقة الخلفية لاقتصاده ويسعى إلى إفقارنا؛ لكي يضمن تبعيتنا الدائمة
له ولمشاريعه الاستعمارية التوسعية على أرضنا.
كما
علينا الالتفات إلى أنه، بالإضافة إلى مئات الآلاف من الأسر الفقيرة وذات الفقر
المدقع، هناك بيننا عشرات آلاف الأسر التي فقدت أربابها ومعيليها بين أسير وشهيد
وجريح، والتي علينا أن نراعي ظروفها المعيشية، وأنه لزامًا علينا رعايتها وتوفير
سبل العيش الكريم لها، في كل الظروف.
لذلك؛
نتوجه إلى كل فردٍ من أبناء شعبنا وأمتنا أن يتقي الله في هذا الشهر الفضيل؛ بأن
يتوجه إلى الله؛ بعبادته والتقرب إليه سبحانه، وأن نتحرر من التعلق بالمأكولات و(البهرجات)
الأخرى التي ما أنزل الله بها من سلطان.
الخاتمة
قال
تعالى: "وَكُلوا وَاشرَبوا وَلا
تُسرِفوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسرِفينَ" (الأعراف: 31). إن في ذلك
أمر إلهي بضرورة أن نأكل ونشرب، ولكن لهذا الأكل والشرب شرط أساسي؛ وهو عدم
الإسراف والمبالغة في الاستهلاك، بما يصل بالأمر إلى حد التبذير ورمي الفائض إلى
الحاويات. بذلك فقط يكون شهر رمضان شهر عبادة، ونخلصه مما التصق به، عبر الزمن، من
عادات بائسة ليست من الدين في شئ.
في
ختام هذا المقال، أتوجه إلى كل من يصل صوته إلى قلوب المسلمين وعقولهم، بالنصح
والإرشاد، أن يتقوا الله بأن يبينوا للفرد وللأسرة مخاطر التبذير والإسراف التي
نشهدها في شهر رمضان، لأن في ذلك الإسراف خروج عن الرسالة المحمدية التي جاء بها
صلى الله عليه وسلم ليخرج العباد من ظلمات الجهل والفقر والعوز إلى نور العلم وغنى
النفس والحياة الحرة الكريمة.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 29/03/2015م
[1] انظر إحصاءات السكان في نهاية العام 2014 على الموقع الالكتروني للجهاز
المركزي للإحصاء الفلسطيني: http://www.pcbs.gov.ps/site/lang__ar/881/default.aspx#PopulationA (أمكن الوصول إليه في
27/03/2015م).
[2] هذه هو حجم الأسرة كما هو
مقدر في العام 2012، ما ورد في الكتيب الصادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (آذار، 2014)،
بعنوان: فلسطين في أرقام-2013. ص: 8.
[5] مركز المعلومات الوطني الفلسطيني-وفا. انظر الرابط: http://www.wafainfo.ps/atemplate.aspx?id=3217 (أمكن الوصول إليه في
27/03/2015).
[6] انظر "تعريف الفقر المدقع" على موقع موسوعة الويكيبيديا. /خط_الفقرhttp://ar.wikipedia.org/
(أمكن الوصول إليه في 25/03/2015)
[7] نقلًا عن صحيفة سبق الالكترونية السعودية (02/06/2014).
انظر الرابط التالي (أمكن
الوصول إليه بتاريخ: 28/3/2015م): http://sabq.org/keQo5d
[8] نقلًا عن صحيفة عكاظ السعودية(18/8/2012). انظر الرابط
التالي (أمكن
الوصول إليه بتاريخ: 29/3/2015م): http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20120818/Con20120818525612.htm
إرسال تعليق Blogger Facebook