نشر في صحيفة القدس
المقدسية، بتاريخ: 12/06/2015، ص: 22
مشهور البطران؛ كاتب
روائي فلسطيني، جمع بين العلم والأدب، فصهرهما في بوتقته، وجعل منهما مثقفًا
متميزًا، وتربويًا بارعًا وصاحب فكرٍ نيّرٍ. عايشته وخبرته في مجالات وميادين
مختلفة، فوجدت فيه صاحب الرأي السديد والقول الفصل.
أما على
مستوى الكتابة في الأجناس الأدبية، فقد قدر لي أن أقرأ له في العام 2005 روايته
الأولى "آخر الحصون المنهارة" التي كانت، وبالرغم من أنها بداية تجاربه
الروائية، ذات قضية روائية عميقة؛ تتعلق بالصراع القائم على أرض فلسطين، بين أصحاب
الأرض الأصليين وبين من اغتصبوا الحقوق واستعمروا الأرض وشردوا الإنسان.
أما العمل الأدبي الذي نحن بصدده للكاتب "البطران" فهو روايته، بعنوان: "السماء قريبة جدًا" الصادرة بطبعتها الأولى للعام (2016) عن دار فضاءات، والواقعة في (223) صفحة من القطع المتوسط، احتضنت (26) سردية. تبدأ بغلاف يحمل طبيعة فلسطين الخلّابة.
منذ
السطر الأول في روايته، وبدون مقدمات مطوّلة، وبعيدًا عن الرمزيات والشيفرات
الخطابية، يحدد "البطران"
الملامح الرئيسية للبنيتين اللتين تقوم عليهما روايته: البنية الزمانية التي تبدأ
من العام 1967، والمكانية التي تدور أحداثها في قرية فلسطينية، من قرى محافظة
الخليل أسماها "الدير". كما أنه يشير إلى تاريخ ميلاد بطل الرواية، في
العام 1963. ثم ينطلق بنا في هاتين البنيتين ليمر على أحداث الانتفاضة الثانية،
كما شاهدناها وعايشناها، كما يتجول بنا في القرى الفلسطينية المختلفة، في الخليل
وبيت لحم والقدس... الخ.
يقدم
"البطران" لقضيته الروائية
بوصفه لبراءة الأطفال، والخيال الممتد لإبن الريف؛ الذي تسكن البطل منذ طفولته
المبكرة، وهو يحلم بملامسة السماء التي تبدو له "قريبة جدًا"، كما يعيش
أيام الضّنك والفقر والفاقة، التي جعلته يأكل "الحوّر"، وأيام الخوف من
الاحتلال وجنوده، وما يتركونه في نفوس الأطفال من حنق وغضب يملؤهم ويكبر معهم؛
فيحملون البندقية دفاعًا عن كرامتهم الوطنية، مهما كان الثمن.
أما
الثيمة (القضية) الروائية، فتقوم على أن الصراع القائم بين الخير المتمثل بأصحاب
الحق والثوار من جانب، والشر المتمثل بالعدو المحتل الذي يمارس القتل ببشاعة
وجواسيسه الذين يسهلون له إمكانيات الوصول إلى هدفه من الجانب الآخر.
وأما من
حيث الشخصيات والسرد, فقد انحاز الكاتب إلى الشخصيات التي شكلت منظومة الدفاع عن
الوطن والتي ترفض الاحتلال والظلم، وهي من الديانات الثلاث: الإسلامية والمسيحية
واليهودية، وما يقابلهم من المحققين ورجال الأمن، الذي يمثلون "الدولة"
المحتلة ويصطف إلى جانبهم الجواسيس الذين لا يكتفون بدور المساندة للاحتلال وإنما
يأخذون دوره في ملاحقة الثوار واغتيالهم.
وأما من
حيث السرد الروائي، فقد أخذ الكاتب دور الراوي الذي يصف الأحداث، وينقل حوارات
الشخصيات المكونة للرواية، مع ملاحظة أنه اقترب كثيراً من الإسهاب والمبالغة، إلى
حد ما، في الحجم الذي منحه لإبن البطل؛ وهو طالب في سنواته الجامعية الأولى، والذي
بدا يتحدث بفلسفات ورؤى فكرية أكبر من عمره ومن مستواه المعرفي بكثير، مقارنة مع
علماء متخصصين في علوم الاجتماع والسياسة.
لم يخلُ
السرد من الفكاهة ووصف جماليات المكان بأشجاره وأزهاره وجباله وسمائه، مما أعطى
النص الروائي معمارًا جماليًا، عززه بصياغة جاءت بلغة رصينة متماسكة وبترقيم دقيق
وبفقرات متناسقة وموزعة بانتظام؛ زادت جمال النص وجوهره جمالًا. أما السرديات الـ
(26) فقد تتابعت بانسيابية، بما يجعل القارئ يصعد إلى طوابق هذه الرواية حتى
الطابق السادس والعشرين، دون أن يشعر بالتعب أو الملل؛ لأن الخيط الروائي الواصل
بينها يمتاز بالسلاسة، وبشئ من المتعة التي تجعل القارئ يستعجل الانتقال إلى السردية
القادمة؛ لكي تكتمل الحلقة وتستقر الفكرة في سياقها الدقيق.
أما
العمق المعرفي للنص؛ فقد وجدته يركز على المحاور والمرتكزات التالية التي شكلت
الهيكل الفكري والفلسفي للرواية:
أولاً: في الرواية مواكبة للتغير الحضاري في فلسطين:
تنقل
بنا "البطران"، خلال مجموعة
مشاهد، من الحال الذي كانت فيه النسوة ينقلن الماء من البئر البعيدة، ومن البيت
البسيط المتواضع، الذي يؤوي الأغنام والأبقار إلى جانب أفراد الأسرة إلى البيت المعاصر،
بمستوى "الفيلا"، كما ظهر التطور على ثقافة الأجيال؛ إذ أن سمية وأحمد
الراقصان العالمييان هما حفيدا الحاجة أمينة التي تعتبر ظهور شعرها على الرجال
خروج على الدين والإيمان، و"أبو زيدون" الفلاح البسيط الذي يستخدم
"الحمار" وسيلة مواصلاته الوحيدة. أما الذروة في ذلك كله فتتمثل في
الانتقال إلى الهاتف النقّال والانترنت، وما يمثله ذلك من انفتاح على العالم
بتفاصيله الدقيقة. وفي ذلك إشارة إلى أن الشعب الفلسطيني، وبالرغم من شظف العيش
الناجم عن الاحتلال، قد التحق بركب الحضارة العالمية، ووظفها في معركة وجوده
وهويته.
ثانيًا: المرأة تشارك في بطولة الرواية:
فقد
تقاسمت المرأة البطولة مع الرجل، جنبًا إلى جنب، ولا يكاد مشهد يخلو من أثرها
وتأثيرها ودورها، منها:
1)
أمًا
ناصحة مربية تنجب الثوار، كما هو حال "الحاجة أمينة/ أم زيدون" التي كان
لوفاتها وقع مؤلم على المجتمع المحلي الذي تحظى بحبه وتقديره.
2)
زوجة
وفية مخلصة تشجع زوجها على الثورة على المحتل، بل تزوده بالمال الكافي لشراء
السلاح اللازم لمقاتلته. كما أنها تشكل السند القوي والداعم للزوج وهو في أحلك
ظروفه؛ تنتظره، دون كلل أو ملل، ودون أن تتطلّب أيًا من حقوق الزوجة على زوجها، بل
أنها ترى في تلبية نداء الوطن أهم من نداءاتها واحتياجاتها الشخصية. ولم توقف عند
هذا الحد، وإنما خرج زوجها من السجن ليجد نفسه في بيت واسع فسيح جميل، يضم أبناءهما
وهم في أفضل حال؛ صحيًا وتربويًا وثقافيًا.
3)
كما أن
هناك مواقف جمعية للنسوة في المجتمع الفلسطيني، كالذي قامت به نسوة بلدة الدير،
عندما حوصرت بلدتهنّ؛ حيث قمن بجلب قلائد زينتهنّ والبنات تبرعن بخواتم خطوبتهن (ص: 56).
4)
الحبيبة
المتعلمة الواعية المدركة لما يدور حولها، والوفيّة لمن تحب، والتي تواجه الاحتلال
وتقاومه. كما فعلته "أمل"؛ الطالبة في الجامعة العبرية، التي انتهى بها
المطاف إلى فقدان بصرها جرّاء إصابتها في مواجهات داخل المسجد الأقصى، فتبقى
متمسكة بأطياف "عزت" الذي تحوّل إلى مقاتل مطارد من قبل الاحتلال.
ثالثًا: تصوير درامي لمجريات انتفاضة الأقصى:
لا
أعتقد بالمبالغة إن قلت بأنني وجدتُني أستحضر الانتفاضة الثانية للشعب الفلسطيني
التي حملت عنوان "انتفاضة الأقصى". فقد أحال "البطران" العوامل المسببة للانتفاضة
ومجرياتها وأحداثها، حتى التفاصيل، إلى "دراما" حقيقية من خلال المشاهد
المتتابعة التي أشبعت بها السرديات العشر الأولى من الرواية. ولعل أهم ملامح تلك
المرحلة، التي أجاد "البطران"
وصفها وتصويرها، تتمثل فيما يلي:
1)
عندما
"انكشفت عورة أوسلو" انطلقت الثورة التي رأى فيها "زيدون"،
ومن هم على شاكلته من أبناء الشعب الفلسطيني، أن الثورة على الاحتلال وانتزاع
الحقوق منه، تتفوق على عشقهم للحياة بين أحضان زوجاتهم وأبنائهم. فبذلوا الغالي
والنفيس من أموالهم الشخصية لشراء السلاح اللازم لتحقيق أهدافهم تلك.
2)
الظروف
التي عاشها المطاردون من الثوار، وما لحقهم من أذى شديد وأمراضٍ؛ جرّاء اختبائهم
في الكهوف، ونقص الأغذية، والتشرد من مكانٍ إلى آخر.
3)
ظهور
بطولات حقيقية تتمثل في المقاتلين أنفسهم وعملياتهم البطولية، وبطولات أخرى مارسها
أفراد وأسر تتعلق بتوفير الأماكن الآمنة للمطاردين لمواراتهم عن أعين الاحتلال
وجواسيسه؛ كما حصل مع الدكتور عزيز، الذي
أطلق عليه "البطران"
"حكيم الثورة"، والذي قضى إلى جانب ستة عشر شهيدًا آخرين؛ بسبب رعايته
لزيدون وغيره من المطاردين (ص:
53)، و"ميليا"؛ تلك المرأة التي شكلت النموذج الجميل للمرأة
القوية المتفهمة لدورها الوطني، ونموذج حي للعلاقة بين أبناء الشعب الواحد؛ عندما
ساعدت "زيدون" المطارد من الاحتلال، والوقوف إلى جانبه حتى النهاية (ص: 39-48).
4)
ظاهرة
الجواسيس وأعوان الاحتلال الذين كانوا أكثر شراسة من الاحتلال وأكثر أذىً منه،
فالتفت إليهم الثوار، ووضعوا التخلص منهم على جداول خططهم، ضمن خطط التخلص من
الاحتلال نفسه. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هناك أخطاءً قد وقعت فيها الثورة، في
بعض الحالات، بإزهاق أرواحٍ بريئة، كما يقول المعلم سليم العيسى في انتقاده
للطريقة التي قتل بها أحد المشبوهين (ص: 54).
رابعًا: ظواهر خاصة بالصراع مع الاحتلال وضباط مخابراته:
لقد برع
"البطران" في تصويره
لممارسات الاحتلال الإرهابية بهدف تجييش عملاء له من خلال عملية الترهيب والترهيب
التي يتعرض لها أبناء شعبنا، بخاصة المراهقين وطلبة الجامعات، حيث تحولت حواجزه
بين المدن والقرى والنقاط الحدودية (كالجسر والمطار) إلى "مصائد"،
يُتّبع فيها الأساليب اللاأخلاقية والرخيصة، والأساليب الأكثر ابتذالًا واحتقارًا
للذات البشرية في توظيف العملاء والمخبرين للأجهزة الأمنية على مستوى العالم.
كما استطاع
بناء شخصيات المناضلين الحقيقيين، بخاصة الأسرى الذين استعصوا على الاحتلال
وأصبحوا نماذج بطولية لمجتمعاتهم، ومحاولة الاحتلال اختراقهم من خلال أبنائهم أو
زوجاتهم أو أقرب الناس إليهم. فكانت قصة "عزّت" نجل الثائر والأسير
المحرر "زيدون" التي انتهت بقتل الضابط الاحتلالي، وبمغادرة
"عزت" لمقاعد الدراسة وحمل بندقية والده لمقاتلة الاحتلال بالسلاح، بعد
أن كاد يؤمن بالتصالح معه.
كما
أظهر "البطران" واحدة من
أخطر الظواهر الاحتلالية، وهي تلك المتعلقة بالهجمات المتكررة على المسجد الأقصى
في محاولات (يائسة) لاستباحته والعبث في هويته الإسلامية، وما يقابله من إصرار
شعبنا، بخاصة من فلسطينيي-1948، من العلمانيين والمتدينين، الذين ينبرون لحمايته،
كما جرى مع "أمل" التي أصيبت برصاصة احتلالية أفقدتها بصرها.
خامسًا: القيم التي لا تنفصم عراها:
هناك
العديد من القيم الوطنية التي يبثّها "البطران"
في نفس القارئ، يتركز أولها في أن الصراع على هذه الأرض مستمر، وسينتقل من جيلٍ
إلى جيل، فينبري "عزت" لحمل السلاح في وجه الاحتلال، على خطى والده
الثائر.
وأما القيمة
الثانية؛ فتتعلق بالتأكيد على أن الفلسطينيين في الجزء المحتل عام 1948، لم يُفت
في عضدهم، فبقوا جزءًا من النسيج الوطني الفلسطيني، وـأنهم يقاومون الاحتلال
بالسبل المتاحة، وتمثل ذلك بـ "أمل"؛ ابنة يافا التي ارتبطت بـ
"عزّت" ابن القرية الواقعة على أطراف الخليل.
كما أن
هناك قيمة ثالثة يتعلق بالنظرة الثابتة من قبل الشعب الفلسطيني إلى العملاء
والجواسيس وأعوان الاحتلال وما يشكلون من دونيّة تتمثل بـ "حمدي
الهلالي"؛ الذي اغتال "زيدون-الثائر" والذي أصيب بجلطة دماغية
تقعده وتحيله إلى كتلة من العفن الذي يتقزز منه أولاده وبناته؛ فيتخلون عنه ويتمنون
له الموت (ص: 221).
ويقابل ذلك أن يتحول زيدون- الثائر وإبنه عزت-الثائر إلى رموز وطنية وأممية،
ويتحول البيت الذي يهدمه الاحتلال إلى "مزار"، وقبلة للفنانين والمفكرين،
وشموخ يجعله يكاد يلامس السماء الذي كان زيدون-الطفل يحلم بالوصول إليه، فوصله
برمزيته الوطنية. إلا أنه يبقى للقبلية والعشائرية طغيانها الذي يهدد الروح
الوطنية في المراحل الكفاحية المختلفة، والتي يؤججها الاحتلال؛ لاستثمارها في
اختراق الصف الوطني المقاوم له.
الخلاصة
لقد
أتحفنا "البطران" برواية ذات
البنية زمكانية واضحة، وذات محتوى معرفي يشير إلى ما جرى من أحداث حقيقية في تلك
الحقبة، التي يستطيع كل من عايشها، أينما كان مكانه في أرجاء الوطن الفلسطيني، في
القرية أو في المدينة أو في المخيم، أن يسقطها على ما جرى في جغرافيته، كصورة طبق
الأصل؛ لأن تفاصيلها قد تكررت بشكل شبه كامل، مع الفارق في بعضها. إلا أن هذا
الوضوح والتفاصيل الدقيقة في الحياة المعاشة، تكاد تلقي بها إلى جنس "القصة
الطويلة" أو الوثيقة التاريخية، التي توثق لحقبة زمنية تمتد بين العامين 1999
و2013. ولكن ما يشفع لها وجود الخيط الروائي المتين المتمثل بوجود الشخصية-البطل
وقد تكررت في سرديات الرواية دون أن تتكسّر أو تغيب عن المشهد.
ونأخذ
على الكاتب أن الحوارات التي كانت تتم حول الدولة الواحدة والتعايش بين القاطنين
على أرض فلسطين، قد تم "حشرها" لغاية فكرية وفلسفية، أكثر مما هي ضرورة
من ضرورات النص. كما يؤخذ على الكاتب "تعقيم" شخصياته لحد سذاجة بعض
الشخصيات الثانوية.
أما
خلاصة القول؛ فإننا أمام رواية قضيتها الرئيسية الوطن والصراع القائم على أرضه بين
الأعداء وأعوانهم وجواسيسهم من جانب، وبين الشعب الفلسطيني الحر، الموحد رغم تباعد
أماكن تواجده، من جانبٍ آخر. كما أن المرأة موجودة في المشهد بأبهى الصور التي
نعرفها عن المرأة الفلسطينية، فهي التي تنجب ثائرًا تتوالد منه الثوار القابضون
على حريتهم كالقابض على الجمر.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 21/05/2015م
إرسال تعليق Blogger Facebook