نشر في صحيفة القدس، بتاريخ: 5/6/2015،
ص: 18
قراءة: عزيز العصا
وليم فوسكرجيان؛ كاتب فلسطيني ولد في
أجواء النكبة، وشبّ في أجواء النكسة، وصار رجلًا في أجواء الانتفاضة الفلسطينية في
مواجهة أطول وأسوأ احتلال في تاريخ البشرية. صاحب خط كتابي لا يخلو من المشاكسة
الأدبية، والخروج عن التقليد والمألوف. كتب القصص القصيرة، وكتب في الأدب
الوجداني، فحازت كتاباته تلك على رضا اتحاد والكتّاب ووزارة الثقافة الفلسطينية؛
فنشروا له لتصبح نصوصه جزءًا من المكتبة الفلسطينية التي تتوارثها الأجيال.
أما العمل الأدبي الذي
نحن بصدده للكاتب "فوسكرجيان"
فهو مجموعته القصصية، بعنوان: "والمطر ذاك
أراه آتيا وللمرة الألف بعد المائة إلى مدينتنا"، وهي من منشورات جمعية رؤيا للثقافة والفنون/ ضواحي القدس
بالتعاون مع وزارة الثقافة الفلسطينية، في العام 2015, الواقعة في (112)
صفحة من القطع المتوسط.
يستهل "فوسكرجيان" مجموعته القصصية هذه بإضاءة
مشبعة بالوفاء لحبيبته ورفيقة دربه التي رحلت قبل أن يكملا بحثهما. لم يشر إلى ما
كانا يبحثان عنه، إلا أنه من حقنا أن نؤوّل ونستنتج بأنهما كانا يبحثان عن
السعادة، وهما يحضنان بعضهما البعض ويستشعران دفء مدينتهما؛ دفء الوطن الذي لا
يعدله دفء.
قرأت هذه المجموعة،
قصة قصة، من الغلاف إلى الغلاف، لم ترف عيني عن كلمة منها، تابعتها بنهم؛ لكي
أتوصل إلى الذروة التي جعلت كاتبنا يباغتنا منذ الغلاف بهذا العنوان الطويل المشبع
بالغضب للمرة الألف بعد المائة، فوجدتها على الغلاف الأخير الذي يحمل ملامح ذلك
الغضب ومسبباته وعوامله الناجمة عن الجوع الذي يدب في أوصاله، وعن المرأة التي
قامت باغتصابه أكثر من مرّة، أمام المارّة وطرقات وحوانيت ورجال شرطة المدينة.
وما بين الغلافين،
تجد مجموعة قصص يتأرجح فيها "فوسكرجيان"
على الحبال التي أوغلت فينا؛ ظلمًا وقهرًا وتشريدًا وإفقارًا بغير وجه حق، لدرجة
أن الكرامة الإنسانية لم تعد ذات معنى، فهي تُهرس هرسًا بين أقدام الغزاة القادمين
صوب "مدينته"، القابضين على الزناد دومًا، الذين يستبيحون كل شئ حتى
"ضفائر" الرجال والنساء والصغار. وأي إنسانية ستبقى بعد هذا الهوس
"الأمني" الذي تشتعل نيرانه لتلتهم الشعب المحتل وتأكل أخضره ويابسه.
وسط ذلك كله، نجد أن "فوسكرجيان" يشير إلى أن هناك الكامن
المتحوصل فيما وصفه بالغرفة الصغيرة التي تضم "الكتب والخزانة العتيقة"،
وهذا المختبئ فيها يقرأ بنهم. وكأني بالكاتب يحمل فلسفة سامية بأن الثقافة
والمعرفة والمحافظة على الجوهر؛ دون الانجراف مع سيول القادم الغريب الجارفة
وإغراءاته وإرهابه، هي الضامن الوحيد للتحرر في النهاية، لإيمانه بأن الاحتلال،
ومهما طال وجوده راحل لا محالة (ص: 6-11).
وفي تصويره للصراع
الطبقي، بين الغني والفقير، نجد أن "فوسكرجيان"
وصف ذلك الصراع بدقة عالية، بما فيه من ظلمٍ وشراسة ومهانة على المستويات كافة،
يتعرض لها الفقير والشديد الفقر؛ الذي ترغمه ظروفه على العمل تحت إمرة رجل كريه،
وزوجته الكريهة وعمله الكريه. ومن شدة الفقر تجده "يغسل وجهه بالماء الممزوج
عنوة بالصابون الرخيص جدًا، ويجففه بجرائد قديمة" (ص: 12-18).
لم يدع "فوسكرجيان" فرصة لفضح الاحتلالات المختلفة
إلا وتوقف عندها، حتى أنه يسميها بـ "الليل ذو الأسنان الملطخة بأسفلت
مدينتنا الموروث من الأتراك، والإنجليز، وأتباع موسى وآخرين" (ص: 35). وعلى ذلك نجد أن
وطن الكاتب في ظلام دامس، عبر مئات السنين. ولعل في ذلك تفسير لاستخدامه المتكرر
للأعداد الكبيرة، فقد كرر "الألف بعد المائة" والقرون، عند قوله: أبحث
في أحد جيوب "البالطو النص" الذي يلتصق بجسدي منذ قرون" (ص: 61)، أو "كما
تخبرني الرزنامة المزروعة في صدري، منذ أعوام تتلوها أعوام" (ص: 63)، كما تكرر مصطلح
"منذ أكثر من أمس"، كقوله: "أستلقي قرب كومة قمامة تقبع هناك، قرب
أحد جدران المدينة، منذ أكثر من أمس، وأغط في نومي العميق والمعهود لقرون
وقرون" (ص: 69، ص: 71،
ص: 77). إلا أن هناك رقمًا مختلفًا، وهو: الجزء الألف قبل المائة" (ص: 75) الذي لم يتم
توظيفه في النص. كما أن لغرفته خمسة جدران، ولمدينته خمس جهات.
نرى في ذلك كله خروج
عن المفاهيم التقليدية التي أشبع الكاتب النصوص بها، كما يردف هذا الخروج بخروج
آخر، يتعلق باستخدام التكرار لمفردات (عادة، كثيرًا... الخ) ولجمل وفقرات مطولة.
ولعل في ذلك تعبير عن الألم الذي يجتاحه، فهو يكره النهار الذي يساق فيه من الجنود
المغتصبين لحريته، ويكره الليل الذي يجعله منغرسًا في غرفة نتنة آسنة، وهو يتضور
جوعًا، ويكره الأمطار التي تداهمه وتستقر على سطح غرفته المهترئ؛ وكأنها مساهمة من
الطبيعة، في قهره وإذلاله إلى جانب المغتصبين.
وفي إشارة منه إلى
حجم الظلم والقهر والإجحاف، نجد أن "فوسكرجيان"
يحرّك الجمادات ويُنطقها ويجعلها تأخذ دور الإنسان، بل يوظفها لخدمته في ظل الجوْر
الذي يلقاه، فالباب الخشبي ينطلق لشراء بعض الأرغفة، وبعد قرون يعود بأرغفة الخبز
تلك (ص: 81، ص: 85)،
والجريدة تتقدم نحوه، وتقدم له سيجارة باهتة اللون، وتهمس له بخشونة: وبعدين معاك
يا زلمة (ص: 58).
وقبل أن يغادرنا "فوسكرجيان" نجده يعرج على "غزة"
ويصفها بسيدة المدن وأجملها، ثم يصف جوعها وآلامها، ثم يحاور سماءها وأشجارها
وحاراتها، ثم يفتح لها باب غرفته الوحيدة وهو يحمل في جيوب ثيابه الملتصقة بجسده
منذ يوم ولادته بعض الخبز وقصائده التي تتحدث عن جمال عينيها (ص: 98-110).
بذلك؛ نجد أنفسنا
أمام كاتب يخرج عن التقليد في كتابة القصة؛ فالأرقام تتراوح بين الممكن وغير
الممكن في حياة الإنسان العادية، والتكرار في الجمل والفقرات لم نعهده من قبل،
وإنطاق الجماد وتحريكه وتكليفه بدور البشر، هو من الأمور التي تبدو مستحدثة. علمًا
بأن ابن المقفع أنطق الحيوان، ولكننا لم نسمع بمن أنطق الجماد.
أما من الجانب المعماري
لهذه المجموعة القصصية، وفي نظرة إلى الجزء الفارغ من كأسها، فإن الكثير من
التراكيب اللغوية الواردة في المجموعة القصصية هذه، والانتقال المفاجئ في الأحداث،
واستخدام الأرقام بتذبذب كبير، كثيرًا ما تربك القارئ وتشتت تركيزه. وأما الترقيم؛
فقد جاء بأنماط غير منتظمة، وهو بحاجة إلى إعادة ضبط وتوحيد في الأنماط.
ختامًا؛ ومن خلال
قراءتي لقراءة الكاتب المقدسي "إبراهيم جوهر"؛ الذي يعرف "فوسكرجيان" ويتابع كتاباته منذ إصداره
الأول في العام 1989، وبالمقارنة مع ما قرأته في هذه المجموعة القصصية، فيبدو أن "فوسكرجيان" "يفجّر الجمل والكلمات ليخرج لقارئه كيانا
غريبا من كلمات تعبر عن غربة الواقع وغرابته وعن ضياع إنسانه[1]".
وهنا أتوجه إلى الكاتب بضرورة العلم بأن هذا الإيغال في هذا النمط من "غربة
الواقع" والمبالغة فيه، قد يربك القارئ ويدخله في حالة من الملل، فهل له أن
يخفف من حدة تلك التفجيرات، لكي يستقطب قارئًا راغبًا في القراءة من الغلاف إلى
الغلاف؟!
فلسطين،
بيت لحم، العبيدية
18
أيار، 2015م
إرسال تعليق Blogger Facebook