في الذكرى الحادية عشرة لاستشهاده:
"ياسر عرفات" وجدلية العلاقة مع النظام الرسمي
العربي!
نشر في صحيفة القدس
المقدسية، بتاريخ: 11/11/2015م، ص: 17
عزيز العصا
في مثل هذا اليوم قبل إحدى عشرة سنة، أي في 11/11/2004م، ودّع الشعب الفلسطيني
القائد الرمز "ياسر عرفات"، الذي ترك في حياة شعبه أثرًا، بحجم لم يسبقه
فيه أحد. فكان شخصية برغماتية عملية، لا يلتفت لما يقوله النقاد حول سلوكياته
وتصرفاته، وإنما وضع نصب عينيه هدف واضح، لا لبس فيه، وهو "وضع فلسطين على
الخريطة الجيوسياسية"، بعد أن كادت تذوب بين مطارق المتآمرين على الشعب
الفلسطيني ووجوده وهويته، على المستويات الدولية والإقليمية والعربية.
لقد اشتهر الشهيد
ياسر عرفات بالقدرة الفائقة على التحرك بين الألغام، دون أن يتمكن منه العدو، كما
قاد مركب الشعب الفلسطيني، بأحزابه وطوائفه وشرائحه المجتمعية كافة، دون أن يغرق
أو يُغرق من معه. كما أنه كان ذا بصر وبصيرة تمكنه من رؤية ما وراء الأفق، كما
تمكنه من قراءة الممحي في سلوكيات وتصرفات قادة العالم وزعمائه، الذين تعامل معهم.
إذ كان، رحمه الله، لا يكل ولا يمل في محاولاته الدؤوبة من أجل استقطاب الأنظمة
والمؤسسات والشخصيات لصالح القضية العادلة للشعب الفلسطيني، الذي يسعى إلى العودة
والدولة وتقرير المصير.
أما على مستوى علاقة
الشهيد ياسر عرفات بأنظمة الحكم العربية، فقد كان الأقدر على تشخيصها ووضعها في
مكانها الصحيح بالنسبة للقضية الفلسطينية. ولعل أكثر الدول التصاقًا بالقضية
الفلسطينية، هي دول الطوق الملاصقة لفلسطين المحتلة: مصر، وسوريا، ولبنان والأردن.
وكان "ياسر عرفات" يسعى إلى أن تكون أراضي تلك الدول منطلقًا للعمليات
العسكرية ضد الأهداف الصهيونية. أضف إلى ذلك العراق الذي كان نظامه، بقيادة الشهيد
صدام حسين، يرفع شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر.
إلا أن واقع تلك
الدول، وعلاقة أنظمتها بالثورة الفلسطينية وتأثيرها على هذه الثورة، قد لخصه "أحمد عبد الرحمن في كتابه "عشت في زمن عرفات":
بعد النكسة في العام 1967م، صمدت مصر بقيادة عبد الناصر في "حرب
الاستنزاف"، رغم الضربات الإسرائيلية في العمق المصري. وهذا ما عجزت عنه دول
الطوق في المشرق، أو فيما كان يسمى الجبهة الشرقية. ومع وفاة عبد الناصر المفاجئة
في أيلول 1970، بدأت الثورة الفلسطينية رحلة التراجع والانحسار، فخسرت
قاعدتها الرئيسة في الأردن، ومنع حافظ الأسد (الرئيس السوري في حينه) العمل
الفدائي بعد سيطرته على الحكم في سوريا. وتبادل نظام حافظ الأسد وإسرائيل
الأدوار طوال (12) عاما، حتى تمكنا أخيرا من تقاسم النفوذ في لبنان، وإخراج الثورة
الفلسطينية.
لقد بدأ تدخل نظام حافظ الأسد وإسرائيل بعد فشل
القضاء على الثورة بواسطة القوى المحلية، عندما دخلت القوات السورية لبنان بقرار
أميركي وتقاسم النفوذ مع إسرائيل من أجل ضرب الثورة الفلسطينية. حيث بدأ نظام
الأسد تدخله في حزيران 1976 وسيطر على كل المناطق، وحاصر بيروت الغربية حيث قيادة
الثورة. وفي نيسان 1978 تدخلت إسرائيل واحتلت جنوب لبنان، في تقاسم صارخ
للنفوذ بين إسرائيل ونظام الأسد. وفي عام 1982 جاء دور إسرائيل لإخراج الثورة من
لبنان، كليا، بعد حصار الثورة في بيروت الغربية مدة 88 يوما. وفي عام 1983 جاء دور
نظام حافظ الأسد لإخراج الثورة من شمال لبنان، ووقعت معركة طرابلس والشمال
اللبناني من أيار وحتى تشرين الثاني 1983، وانتهت بإخراج أبو عمار وقواته من كل
شمال لبنان.
بهذا؛ تكون الأمور قد وصلت "كسر العظم"، وأن سكين
"الشقيق!" قد وصلت النخاع، كما أن الثورة أصبحت بين فكي كماشة؛ العدو الإسرائيلي
من جانب، والنظام السوري والقوات اللبنانية من الجانب الآخر، وكل فكّ منهما أكثر
شراسة من الآخر. وهنا يبقى السؤال الاستراتيجي: أين النصير؟
لا شك في أن الإجابة على هذا السؤال تتسع للكثير من المعلومات، إلا أننا
أمام واحدة منها، وهي ما يتعلق بالشهيد صدام حسين؛ رئيس عراق ذلك الزمن؛ الذي كان
بلده يخوض حربًا ضروسًا مع إيران، أكلت الأخضر واليابس. إذ يقول "ركاد
سالم"؛ أمين عام جبهة التحرير العربية:
أثناء الحصار الموصوف أعلاه، استدعاني ياسر عرفات في أحد مواقع "جبل
تربل"، وطلب مني الاتصال مع الرئيس العراقي "صدام حسين"؛ لكي يرسل
له، ولرفاق السلاح من أبناء الثورة الفلسطينية، الأسلحة والذخائر التي تمكنهم من
الصمود والدفاع عن القرار الوطني الفلسطيني، في تلك الحقبة. فاستغربت ذلك الطلب؛
بسبب الحصار المطبق على المقاتلين الفلسطينيين من البر والبحر، فسألته: كيف يمكن
تحقيق ذلك, فقال: لا عليك، المطلوب منك أن توصله هذا الطلب. فقمت أنا من جانبي
بالتواصل مع الجهات المعنية في بيروت، حيث أُبلتُ في اليوم التالي بأنه قد تم تنفيذ
المطلوب منه. وعندما سارعت إلى ياسر عرفات لأبلغه بما قاله السفير, فوجئت به يبلغني
بأنه قد حقق ذلك الاتصال مع "صدام حسين" نفسه، بالاتصال من موقعه في جبل
تربل عبر محطة اتصال للثورة في قبرص، بحيث يبدو حديث ياسر عرفات وكأنه من قبرص..
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بشأن العلاقة بين
الشهيدين: عرفات وصدام، وإنما تطورت حتى وصلت ذروتها إبان العدوان الثلاثيني على
العراق في العام 1991م. حينها كان موقفه، رحمه الله، واضحًا وجليًا، إلى جانب
العراق في مواجهة ذلك العدوان الهمجي الذي قادته الولايات المتحدة، ومن ضمن
مكوناته وأدواته عدد من الأنظمة الرسمية العربية.
وبعد اتفاقية أوسلو, التي رفضها العراق بقيادة "صدام
حسين"، استمرت العلاقة في ذروتها بين القائدين الشهيدين.
وينقل "ركاد سالم" ما سمعه من الشهيد صدام حول
تلك الاتفاقية أثناء لقائه المباشر في العام 2000، بقوله: السارق لن يعطي شيئاً
لصاحب البيت. أما عندما يتعلق الأمر بشخص "ياسر عرفات"، ونقائه الثوري
والوطني، فكان الشهيد صدام يقدر الظروف الضاغطة على أبي عمار، وكان يرى أن دور
العراق يكمن في التخفيف من تلك الضغوط، والتقليل من آثارها وانعكاساتها. لا سيما
وأن العراق ليس من دول المواجهة المباشرة مع العدو، لأخذ دوره في دعم الثورة
الفلسطينية.
هكذا؛ رحل "ياسر عرفات" كما أرادها
"شهيدًا شهيدًا شهيدًا"، وهو يردد: ع القدس رايحين شهداء بالملايين. كما
أن "الشهيد صدام حسين" رحل، وآخر كلماته: عاشت فلسطين حرة عربية (من
البحر إلى النهر).
واليوم نجد أن الشعوب لم ولن ترحم متقاعسًا ولا متآمرًا،
وسيذكرهم في صفحاته السوداء، بل الحالكة السواد. كما أن الشعوب لن تنسى القابض على
مصالح شعبه ووطنه وأمته كالقابض على الجمر. رحم الله "ياسر عرفات"
الذي قضى، وهو يوصي الأجيال القادمة بأن "يرفع شبل وزهرة العلم الفلسطيني فوق مآذن القدس
وكنائسها وأسوارها".
فلسطين، بيت
لحم، العبيدية، 04 تشرين الثاني، 2015م
إرسال تعليق Blogger Facebook