0
خليل شوكة في "جولة في قرية بتّير":
تحالف الفلسطينيين مع الطبيعة.. أنجَبَ جمالًا يَسرّ الناظرين
نشر في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 6/11/2015، ص: 16
                                                         قراءة: عزيز العصا
خليل شوكة؛ مؤرخ فلسطيني، يقبض على جمر التأريخ والتوثيق الخاص بالتراث والحضارات المختلفة التي مرت على فلسطين، عبر المراحل التاريخية المختلفة. وقد صب جهده هذا في محافظة بيت لحم. ورغم ضنك البحث؛ لقلة المراجع، وصعوبة الحصول على المتوفر منها، ولقلة الوثائق التاريخية، بل وندرتها، إلا أنه مستمر في جهوده البحثية، وفي كل مرة يصدر فيها إصداراً تجده وقد همّ نفسه ليشرع في التالي.

أما العمل البحثي الذي نحن بصدده للباحث "شوكة"، فهو كتابه "جولة في قرية بتّير"، الذي يحتضن بين غلافيه الجميلين ثمانون صفحة من الورق المصقول، تتخللها صور جميلة، مأخوذة بطريقة احترافية، تعتبر ترجمة للمحتوى الكتابي للكتاب. يضم الكتاب، الذي قدم له الأستاذ "طاهر النمّري"، العناوين الرئيسية التالية: الموقع والتسمية، وما ذكره الرحالة والباحثون، والفلاحون سكان فلسطين خلال الفترة الممتدة من الرومانية حتى العثمانية، ويستقر به الحال ليتوسع عند عنوان " الفلاحون في قرى سنجق القدس". وفي كل مرحلة من تلك المراحل نجد "شوكة" يتلمس كل ما يتعلق بقرية بتّير، حتى وصل بنا إلى واقعها المعاش في هذه اللحظة.
إن القراءة المتمعنة لهذا الكتاب، تضع القارئ أمام مجموعة من الحقائق التاريخية التي مرت بها قرية بتّير بشكل خاص، وقرى سنجق القدس بشكل عام. وبين هذا وذاك، وجدتنُني أمام كم من المعرفة، والبيانات والبينات التي لا بد من أن يطلع عليها القارئ، منها:
أولاً: جولات الرحالة: اتفاق على الأهمية.. واختلاف على التسمية:
عندما استعرض "شوكة" ما كتبه الرحالة الأوروبيون عن قرية بتّير،  نجد أنهم يبرزون الأهمية الجمالية لطبيعتها الخلّابة؛ ذات التنوع الطوبوغرافي بين الوادي والجبل والهضبة، والتنوع في مكوناتها بين الصخري والأراضي الزراعية، وما حباها الله سبحانه من الينابيع التي توفر لها الري الدائم، التي جعلتها مكسوّة بحلة خضراء على مدار العام، كما أنها كانت من أهم مصادر المياه التي تغذي القدس كلما عطش أهلها. أضف إلى ذلك أهميتها الاستراتيجية لموقعها الجغرافي على الخاصرة الجنوبية الغربية للقدس وإلى الشمال الغربي من بيت لحم، والتي تربط بين الخليل وبيت لحم، وهي المحطة الأولى لخط سكة الحديد بعد خروجه من القدس إلى يافا.
لقد أدى ذلك كله إلى أن تحظى هذه البقعة الجغرافية الصغيرة بالإعمار والحماية، حتى تراكمت عليها الحضارات المختلفة، التي تمتد إلى ما يزيد عن أربعة آلاف عام. إلا أننا نجد أن المؤرخين الأجانب لم يشيروا إلى كنعانية هذا المكان، وإنما يسعون إلى جعل تسميتها ذات جذور يهودية، وأنها كانت موئلًا لليهود عندما اشتد بهم الخطب من قبل الرومان، في حين أن منهم من يعتقد بأن أثر اليهود منحصر في تلة مساحتها (900) مترًا مربعًا، تقع على مسير ربع ساعة على الأقدام من مركز القرية. أما المؤرخون العرب فيميلون إلى أن سبب التسمية يعود إلى ما يعني "بيت الطائر أو حظيرة الغنم"، ويؤكد "عيد الحاج" على أن "بيتار"، وهو التسمية اليهودية، لم ترد في التوراة.  
ثانيًا: المجتمع البتّيري عبر العصور:
رغم محاولات المؤرخين أعلاه إلصاق اليهود بالمكان إلا أن هناك مؤرخًا يؤكد على أن "سكان القرى في منطقة القدس كانوا يتحدثون لهجة سامية وهم ليسوا يونان ولا يهودًا. وإنما الفلاحين القاطنين فيها هم من الكنعانيين والحيثيين والأمويين والفلسطينيين والأدوميين (ص: 23). ثم يتطرق "شوكة" أوضاع الفلاحين في قرى لواء القدس خلال ثلاث فترات رئيسية، هي: الرومانية، والبيزنطية، والإسلامية الممتدة ما بين الفتح الإسلامي حتى وقتنا هذا، مرورًا بالفترة الصليبية والمملوكية والعثمانية.
أشار "شوكة" إلى تلك الحقب من حيث بعض الإجراءات والقوانين المتعلقة بعلاقة فلّاحي منطقة القدس مع السلطة الحاكمة، وبعض العادات والتقاليد الزراعية الهادفة إلى استغلال الأرض وتخصيب تربتها وتسويق منتوجاتها. وقد خصص مساحة واسعة للعهد العثماني، حول القضايا التالية:
1.      ملكية الأراضي؛ التي تبين منها أنها تتوزع بين أراضي السلطان (أراضي الدولة)، وأراضي حاكم السنجق، وأراضي الزعامات التي يمنحها السلطان إلى قادة الجيش والشرطة والجنود، وأراضي الوقف. وأما من الناحية الإدارية، فقد قسمت الأراضي بين "مزرعة" و"قرية"، والفرق بينهما يتحدد بمقدار الضريبة المدفوعة، إلى جانب عدد السكان.
2.      الفلاحون المزارعون؛ إذ يشير "شوكة" إلى أن المشرّع العثماني اهتم بالفلاحين، ليس رغبة في توفير سبل الراحة لهم، وإنما لحماية خزينة الدولة، حيث كانت الدولة قد جعلت من موظفيها من هو متخصص في جمع الضرائب من الفلاحين، إما مباشرة أو من خلال قائم على القرية من أبنائها مثل: محامي القرية أو شيخ القبيلة. وعليه؛ كانت الدولة تشدد على عدم ترك الأراضي القابلة للزراعة بورًا، وتسلف المزارعين ما يحتاجونه من بذور. كما كانت الدولة تعاقب بالموت كل من يهرب من قريته وقت استحقاق الضرائب. ويصف "شوكة" الأشجار المنتشرة في سنجق القدس خلال الحقبة العثمانية، كأشجار الزيتون، والفستق، والبلح، والتوت، والتين. كما يتطرق إلى الثروة الحيوانية كالأغنام والماعز.
3.      النواحي الإدارية والاجتماعية والسياسية؛ فقد أشار "شوكة" إلى أن سنجق القدس، بتّير تابعة له، كان يضم (147) قرية في القرن السادس عشر، يسكنها الفلاحون العرب؛ مسلمون ومسيحيون. وأنهم كانوا ينقسمون بين "قيسيّ" و"يمنيّ"، وتجمعهم مجموعة من العادات والتقاليد، ويرأس كل قرية رئيس أو شيخ القرية أو الاختيارية، يتم اختيارهم لاعتبارات الخبرة والعمر، للسهر على أمور القرية أمام السلطة الحاكمة بخاصة في مجال تحصيل الضرائب، إلى جانب المسؤوليات الأخرى عن الشؤون الداخلية للقرية، وما يطرأ فيها من خلافات داخلية أو مع القرى المجاورة. أضف إلى ذلك المسميات الأخرى. كما كان في قرية بتّير جامع للصلاة، وقوّاس واحد للمحافظة على استتباب الأمن في القرية. علمًا بأنه حتى العام 1596م كانت بتّير "مزرعة" ولم تكن قرية.














4.   خط سكة الحديد؛ يشير "شوكة" إلى أنه في العام (1888م) صدرت الإرادة (العثمانية) بمنح اليهودي "يوسف نافون" مد سكة الحديد بين يافا والقدس، إلا أنه لم يتم له ذلك، فقد نفذته شركة فرنسية في العام 1890 وتم تدشينه في العام 1892م، بطول 87,1 كيلومترًا، وعلى مسار واحد بين يافا والقدس، وعليه خمس محطات، كانت بتّير أولها للمغادر من القدس إلى يافا.  




















ثالثًا: بتّير: من الانتداب حتى تاريخه:
حتى الحرب العالمية الأولى كانت بتّير الأكثر ازدهارًا في قرى جبال القدس، ويقطنها (450) نسمة، غالبيتهم العظمى فلّاحين. وخلال الحرب العالمية الأولى أصابهم ما أصاب الشعب الفلسطيني؛ من إرسال أبنائها للتجنيد بعيدا عن وطنهم، وانعدام الدواب المستخدمة للزراعة بسبب استيلاء العثمانيين عليها، وتقطيع الأشجار التي أخذت وقودًا للقطارات، والفقر والفاقة الذي أصاب البلاد والعباد.
كان ذلك حال المجتمع الفلسطيني عندما داهمه الاحتلال البريطاني، الذي جاء وهو يحمل مسؤولية إنشاء "دولة إسرائيل" على أرض فلسطين التي انتُدِب عليها، فكانت النكبة في العام 1948م، التي عانت منها قرية بتّير من انشطار أرضها ومساكنها، وعزل السكان عن أراضيهم، وتشتيتهم بين من هو خلف خط الهدنة تحت حكم اليهود، ومن هو تحت الحكم الأردني الذي انتهى في العام 1967م.
وشهدت قرية بتّير، كباقي قرى الوطن الفلسطيني ومدنه، العذابات والآلام التي تركها الاحتلال من تشريد للسكان واستباحة للأراضي، كما شهدت تطورًا شمل الحياة التعليمية والاجتماعية والاقتصادية والعمرانية، وربطت بشبكتي الكهرباء والماء. وقد ظهر من بين أبنائها "حسن مصطفى"؛ رجل قيادي منتم لبلده فلسطين ولقريته بتّير، فأسهم في إعمارها وتطويرها ووضعها على سلم الحضارة والتقدم. ويقودها حاليًا مجلس قروي يتألف من تسعة أفراد، ويبلغ عدد سكانها زهاء (6,000) نسمة.
لقد كان من نتائج اتفاقية أوسلو على بتّير أن قسمتها إلى منطقتين: (ب)، و (ج). وعندما جارَ عليها الجدار بتمزيق أراضيها، تحرك أبناء القرية للدفاع عن أراضيهم وحماية للتراث الإنساني المودع في أراضيها، فأزيح الجدار عنها ليلتهم من أراضي القرى المجاورة. كما نشط أهالي بتّير، وبدعم مطلق من السلطة الوطنية الفلسطينية، نحو إدراج قريتهم كمشهد ثقافي على قائمة اليونسكو للتراث العالمي المهدد بالخطر، فاستجاب اليونسكو إلى ذلك الطلب في العام (2014م).     
نظرة نقدية
لا بد من التنبيه إلى أن هناك ما قد تم ملاحظته على هذا النص، والذي لا بد من الالتفات إليه في الطبعات القادمة لهذا الكتاب أو لغيره من الكتب الشبيهة، ومنه:
1)      تم الاقتباس مما كتبه الرحّالة والباحثين، دون التوقف عندها بما يكفي من التمحيص والتدقيق في الأرقام والأعداد والمساحات والنصوص المهمة، كما أن هناك شيئًا من التكرار في مشاهدات الرحالة، علمًا بأن "شوكة" لم يبين الحقبة الزمنية التي غطّاها كل من الرحّالة على حدة. كما أنه لم يرجّح أي من النصوص على الأخرى، بخاصة الأمر المتعلق بتسمية القرية وملكيتها التاريخية. أضف إلى ذلك أن هناك أرقامًا مختلفة باختلاف المصادر والوثائق حول مساحات الأراضي، التي كان لا بد من تدقيقها وتنقيحها.
2)      لم تذكر الحقبة الكنعانية إلا فيما يتعلق بأصول الفلاحين الفلسطينيين، حيث بدأ الباحث في وصفه لحال فلسطين وأحوالها من الحقبة الرومانية. ونجد في القفز إلى الحقبتين الرومانية والبيزنطية، اختصار آلاف السنين من التاريخ، وما تحمله من قضايا هامة.
3)      كما أن القفز من الفتح الإسلامي إلى الصليبيين يعني تجاوز نحو أربعة قرون من الزمن، تشمل الخلافتين الأموية والعباسية اللتين كان لهما أثر بارز في التطور الحضاري لفلسطين بشكل عام، والقدس بشكل خاص. في حين أن حقبة العثمانيين أخذت النصيب الأكبر في الكتاب، على حساب حقب الانتداب والحكم الأردني والاحتلال الإسرائيلي.
4)      من جانبٍ آخر؛ كان لا بد من توسيع منهجية البحث، للخروج من إطار الكتب والمصادر المكتوبة، إلى الاستفادة من التأريخ الشفوي، بخاصة كبار السن من أهالي بتّير والجوار؛ لتسجيل عدد من الوقائع التاريخية والتوثيقية، في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تعزز هذه الجولة. كما كان لا بد من تبادل المشورة والمعرفة مع المثقفين والباحثين ورجال الفكر من أبناء القرية، من أجل الخروج بوثيقة أكثر تكاملية، ولكي تنال أكبر إجماع ممكن على صدق محتواها العلمي. كما أنه كان لا بد من التطرق إلى الجوانب الأخرى، ذات الصلة، كالشهداء والعلماء من أبناء القرية (من هم بدرجة الأستاذية)، ورجال الفكر وغيرهم.    
  كلمة أخيرة،
 لا شك في أن هذا الكتاب من الكتب المطلوب العمل عليها وإنجازها لكل قرية ومدينة من قرى فلسطين ومدنها، وإنني أسجل بالغ التقدير للجهد الذي بَذَلَه الباحث في إعداده وإنجازه، وما يحتويه النص من بيانات وبيّنات قيّمة، أسهمت في رفع مستوى ثقافتنا ومعرفتنا بخصوص الجوانب التاريخية بشكل عام، وقرية بتّير بشكل خاص.
تبين من القراءة الدقيقة أن الباحث قام بجهد كبير في التنقيب بين صفحات التاريخ والوثائق المختلفة، من أجل توظيفها في خدمة البحث الذي يستهدف قرية بتّير. ولعل ذلك يفسر إحجامه عن إدخال الحقبة الكنعانية؛ لعدم توفر المراجع والمصادر التي تذكر القدس بشكل عام و/أو بتّير بشكل خاص، كما يفسر توسعه في الحقبة العثمانية؛ بسبب توفر المراجع والوثائق والسجلات الكافية للتبحر في هذه الحقبة.
بقي القول، أن المآخذ المسجلة على هذه الدراسة هي بمستوى عال من الجدية، الأمر الذي يقودنا إلى وضعها أمام الباحث، إذا رغب بإصدار طبعة ثانية، وأمام الباحثين الآخرين المتجهين نحو التوثيق للقرى والمدن الفلسطينية، وما يحتاجه ذلك من التأني والقراءة الهادئة لما بين السطور، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالمؤرخين الأجانب، دون أن ننسى أن فلسطين قد ابتليت منذ أواسط القرن التاسع عشر بما أطلق عليه "صندوق اكتشاف فلسطين" الذي استخدمته بريطانيا للبحث الدقيق في تفاصيل الجغرافيا الفلسطينية، بما يخدم الأهداف الاستعمارية الأوروبية، والأهداف الخاصة بتبريرات وادعاءات دينية لإقامة "إسرائيل" على أرض فلسطين التاريخية. 
بيت لحم، العبيدية، 28 تشرين الأول، 2015

 الخبر كما ورد في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 8/11/2015، ص: 13






إرسال تعليق Blogger

 
Top