في الذكرى السابعة والعشرين لإعلانها:
الدولة الفلسطينية.. من الذي يمنع إقامتها؟!
نشر في القدس، بتاريخ:
15/11/2015، ص: 16
عزيز العصا
في مثل هذا اليوم قبل سبع وعشرين سنة، أي في 15/11/1988م، وبينما الانتفاضة
(الأولى) في ذروتها، وبعد قتال ضارٍ
خاضه الشعب الفلسطيني، بشكل متواصل، على مدى
يزيد عن عشرين عامًا، على جبهتين: فأما الجبهة الأولى؛ فهي الإسرائيلية التي تحتل
أرض فلسطين ومن معها من أصحاب المشروع الاستعماري في المنطقة. وأما الجبهة
الثانية؛ فهي الرجعية والتخلف والخيانة والتبعية التي قادتها أنظمة
"قعدت" على صدور شعوبها لتكون جزءًا من مؤامرة تستهدف وحدة الأمة
وكبريائها وحرية شعوبها.
لا شك في أن هذه
الذكرى تجعل كلًا منا يعيد قراءة الملفات وتقليب صفحاتها، ويقارن محتوياتها مع ما
يجري هذه الأيام على أرض فلسطين التاريخية. وإذا تجاوزنا الحديث عن الحاضر؛
باعتبار أنه يمكننا الحديث عنه في سياق حياتنا اليومية، ونحن نحيا لحظات الإعدامات
واقتحامات المستشفيات؛ لاعتقال المرضى من قبل قوات الاحتلال وإعدام مرافقيهم! ولأن
المجال لا يتسع لشرح ذلك، في هذه العجالة، فإنه من الضروري نفض الغبار عن الذاكرة،
واستذكار تلك الأيام التي تتراوح بين المرة والأكثر مرارة.
طرح "أحمد عبد
الرحمن" في كتابه "عشت في زمن عرفات"، في فصل كامل، السؤال
الاستراتيجي: هل أضاع عرفات فرصة السلام؟ والذي ناقش فيه تفاصيل الحوارات التي
قادها المرحوم "ياسر عرفات" من أجل إقامة الدولة المنشودة. وقد تبين لنا
أن التنازلات التي قُدّمت للحكومات الإسرائيلية المتتابعة
لم تجعلهم يزيحون "قيد شعرة" عن نواياهم في ابتلاع فلسطين التاريخية،
بالتمام والكمال، وأن حدود "إسرائيل"، هي كما عرّفها دايان: مع مصر هي قناة
السويس، ومع الأردن حدودها نهر الأردن.
إنه السؤال الذي
تعودنا أن نسمع إجابته بـ "نعم"؛ أي أن "عرفات أضاع فرصة
السلام"، وذلك عبر الآلة الإعلامية الضخمة التي يمتلكها الاحتلال والداعمون
له من الدول العظمى، ومساندوه من الغرب والشرق، ومريدوه والمصفقون له من فتات
الأمم والشعوب والمؤسسات والأفراد.
إلا أنه مؤخرًا،
وبالتحديد في 4/11/2015م، نشر موقع "المصدر" ما أظهره الصحفي
"الإسرائيلي" رافيف دروكر في برنامج "أسرار محادثات السلام"
في القناة العاشرة، للتحقيق فيما أسموه "الأسرار الأكثر ظلمة" في
مفاوضات كامب ديفيد في تموز من العام 2000، التي قادها المرحوم "ياسر
عرفات" في مواجهة رئيس وزراء الاحتلال في حينه "يهود باراك" في
ضيافة الرئيس الأمريكي كلينتون، قبيل انطلاق الانتفاضة الثانية. تلك المحادثات
التي جاءت بعد مرور سبع سنوات على اتفاقية أوسلو الشهيرة التي كان جل ما نُفِّذ
منها لصالح إسرائيل؛ أمنيًا واقتصاديًا وسياسيا.
لقد سعى دروكر، الذي
أمضى عام ونصف العام، في مقابلات مع مسؤولين من جميع الأطراف المشاركة في تلك
المحادثات، إلى
إظهار الحقائق المتعلقة بها، التي كان الهدف المعلن منها التوصل إلى "اتفاق
دائم" بين الفلسطينيين و"إسرائيل" وإنهاء الصراع(!) أما مواضيع
البحث التي كانت على أجندة تلك المحادثات، فهي كبيرة وذات صبغة استراتيجية:
الأراضي، اللاجئين، الترتيبات الأمنية والأهم من كل شيء هو مستقبل القدس. وأما أبرز الحقائق التي قال بها "دروكر" في ذلك التحقيق
الاستقصائي، فهي:
أولًا: كان الموقف الإسرائيلي يقضي بأن يتحقق لإسرائيل: 1) ضم 13% من الضفة
الغربية. 2) وجود عسكري دائم في غور الأردن مع استخدام حر للمجال الجوي الفلسطيني.
3) تبقى القدس موحدة مع وصول للأقصى على شكل جسر. 4) لن يعود أي لاجئ فلسطيني إلى
أرضه.
ثانيًا: الاعتراف
الأمريكي الصريح، بأن الرئيس الأمريكي كلينتون لم يكن محايدًا في تلك المحادثات، عندما
ألقى باللائمة على الفلسطينيين في فشلها، بعد أن دفع بالفلسطينيين إلى زاوية
مستحيلة. فعندما أجرى "باراك" تعديلات طفيفة،
تكتيكية وليست جوهرية، على تلك البنود المذكورة في الموقف الاسرائيلي الذي رفضه
الوفد الفلسطيني برئاسة عرفات، سارع "كلينتون" إلى وصف باراك بأنه
"زعيم شجاع" وأنّه "إذا لم يقبل عرفات بما يعرضه باراك، فإنه بحاجة
إلى طبيب نفسي". كما أقروا بأن كلينتون أراد الدفاع عن باراك، واعتقد أنّ
الطريقة الأمثل للدفاع عنه هي إلقاء كل شيء على عرفات.
ثالثًا: اعترف كل من كان حاضرا في المؤتمر، تقريبًا، بعد سنوات من ذلك أنّه قد سادت
فعلا في المؤتمر، الذي استمر لأسبوعين أجواء صعبة من عدم الثقة بين المسؤولين
الذين كان يفترض بهم أن يتّخذوا القرار. كان أساس الكراهية والعداء، بين باراك
وعرفات[1].
رابعًا: تفرّق مؤتمر كامب ديفيد دون التوصل إلى
اتفاق. بعد أشهر من ذلك اندلعت الانتفاضة الثانية، وانهار معسكر السلام الأكبر
والأقوى في إسرائيل وتفكّك، ولم يتعافَ حتى الآن من الصدمة. وقد تحطمت الثقة الهشة
بين الجانبين. وتوقفت عملية أوسلو. ولا تزال شظاياها متناثرة حتى اليوم على السطح.
إن ما قاله
"دروكر" أعلاه، وما كشفه من حقيقة الموقف الأمريكي المنحاز إلى
"إسرائيل" على الدوام، لم يكن من منطلق صحوة الضمير، وإنما يأتي ضمن
سياق فنون الصحافة الاستقصائية، الهادفة إلى تحقيق حالة من السبق الصحفي المشبع
بالإثارة، وهل من إثارة أكبر من أن يقول رئيس دولة عظمى لضيفه: "إذا
لم تقبل بالتنازل عن حق شعبك في حياة حرة كريمة، فإنك بحاجة إلى طبيب نفسي"!
الآن؛ وبعد عقد ونصف
العقد من الزمن، نجد أن "كلينتون" لم يعد يذكره أحد، أما "ياسر
عرفات" فإنه لم يذهب إلى مصحة نفسية، ولم ينتهِ شريدًا ولا طريدًا، وإنما قضى
نَحْبَه كما أرادها هو "شهيدًا.. شهيدًا.. شهيدًا"، واستقر به المقام
رمزًا للأجيال، التي تتوارث سيرته كقائد شجاع واجه الضغوط الأمريكية، التي لم تكن
سوى الرقص على اللحن الاحتلالي الساعي نحو ابتلاع المزيد من الأراضي، وبناء المزيد
من المستوطنات، وكل من يرفع رأسه من الفلسطينيين، فإما القتل أو السجن.
إنها أمريكا التي
أعاقت إقامة دولتنا، بل حاربته بك السبل والأساليب حتى على مستوى عضو مراقب في الأمم
المتحدة. وأوصلت الوضع إلى أن ملامح الدولة وتفاصيلها لم تعد قائمة، بل اندثرت بين
براثن الهجمة الاستيطانية المجنونة التي التهمت الأراضي والمياه والثروات الطبيعية
والتنوع الحيوي. وتتوج أمريكا ذلك بأنها تمد "إسرائيل-اليمينية"؛ النقيض
الطبيعي لتلك الدولة، بأحدث أنواع الأسلحة والذخائر، وتوفير جميع سبل الحماية لها
في المؤسسات الدولية، لكي تبقى الضامن لنجاح وتفوق المشروع الاستعماري
الأمريكي-الأوروبي في المنطقة.
وهنا؛ نضع جميع صانعي
القرار، وعلى المستويات كافة، بضرورة الالتفاف حول ثوابتنا الوطنية، وتوحيد
الصفوف، وإنهاء حالة الانقسام الذي أصبح استمراره يشكل خطرًا حقيقيًا على تلك
الثوابت التي قضى الشهداء دفاعًا عنها، ويرزح الأسرى خلف القضبان وهم يعضون عليها
بالنواجذ.
فلسطين،
بيت لحم، العبيدية، 12 تشرين الثاني، 2015م
[1] اعترف مسؤولون في فريق إيهود باراك بالفم الملآن أنّ باراك كان
ينفر من عرفات . ويتذكر صائب عريقات، وهو عضو
دائم في فريق المفاوضات الفلسطيني، حادثة مخجلة ظهر فيها إيهود باراك وهو خارج من
مكان إقامته مع إسرائيليَّيْن ويمر أمامه رئيس السلطة الفلسطينية، ياسر عرفات، دون
أن يسلّم عليه. "كان ذلك أمرا لا يُصدّق، ركضتُ خلف باراك وقلت له. أنت تعيش
في الشرق الأوسط. عملك هذا ليس مقبولا. لا يمكنك تجاهل عرفات هكذا دون التسليم
عليه ومصافحته"، كما قال عريقات. فقط بعد أن تدخّل عريقات، عاد باراك ليصافح
الرئيس عرفات.
إرسال تعليق Blogger Facebook