في الذكرى -98- لوعد بلفور:
الوطن القومي مضطرب.. والشعب الفلسطيني في عين العاصفة
عزيز العصا
في مثل هذا اليوم قبل ثمانية وتسعين عامًا، أي في 02/11/1917م، وجه وزير الخارجية
البريطاني آرثر جيمس بلفور إلى المصرفي اليهودي، اللورد روتشيلد، رسالة (تصريحًا)،
نصه الحرفي: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن
قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن
يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع
بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي
الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى. وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد
الصهيوني علماً بهذا التصريح.
لم يكن ذلك الوعد ابن لحظته؛ وإنما هو نتاج إرهاصات سبقته، لا يتسع المجال لذكرها، أقلها أنه سبقه بنحو (120)، وهو متجه إلى عكا التي هزم شر هزيمة على أسوارها، بإعلانه عن نيته (إعادة!) أورشليم لليهود، وما تبع ذلك من محاولات جادة وحثيثة، على مدى القرن التاسع عشر حتى تاريخ ذلك الوعد، والتي أنجبت نحو (34) مستعمرة "يهودية" ووجود نحو (50,000) يهودي على أرض فلسطين، يمثلون نحو 7% من سكانها، يمتلكون أقل من 1% من أراضيها.
وما أن
استلمت بريطانيا زمام الأمور على أرض فلسطين وشعبها، من خلال احتلالها فور انتهاء
الحرب العالمية الأولى في العام 1918، ومن ثم انتدابها عليها في العام 1922، إلا
وبدأت تشد الأحزمة نحو تنفيذ وعد بلفور، الذي كان البريطانيون يعتبرون تنفيذه
بمثابة تحقيق الحاجة البريطانية الاستعمارية لفلسطين التي تتحكم
في قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا في آن معا، ومن يدعم مشروعها الاستعماري؛ مالياً
وإدارياً وتنظيمياً. واليهود هم الوحيدون الذين يملكون القدرة على تحقيق هذا
المشروع الاستيطاني.
فقامت بريطانيا بتوظيف الضباط العسكريين والإداريين البريطانيين الذين يؤيدون الصهيونية؛ من أجل تقديم الدعم لليهود في فلسطين. وتُوِّج ذلك بتعيين هربرت صموئيل" البريطاني الصهيوني" مندوبًا ساميًا في فلسطين، حيث قال
عند مغادرته إلى فلسطين: "أنا ذاهب لتنفيذ الأوامر المتعلقة بتحقيق مشروع دولتي؛ بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين"([2]).
من جانبٍ
آخر؛ عملت الحكومة الانتدابية، على تهويد المؤسسات الحاكمة بصورة تدريجية بتعيين عدد من اليهود الصهاينة، أو المسيحيين المتصهينين، أمثال وندم ديدز؛ الذي عينه هربرت صموئيل سكرتيراً رئيسيًا للإدارة الانتدابية، وجعله النائب الأول (فيما بعد)، ونورمان بنتويتش في منصب النائب العام، وترك له مهمة إعداد القوانين والتشريعات التي لا تُنشر إلا بموافقة حكومة لندن([3]).
وفي العام 1931 أوفدت مندوباً سامياً
زودته بتعليمات تقضي بالإسراع في إنشاء الوطن القومي اليهودي، وفي العام 1935
ألغت بريطانيا (تحت ضغط اليهود) فكرة تشكيل مجلس تشريعي في فلسطين؛ بحجة أنه
(يعيق) إنشاء وطن قومي لليهود([4]).
ومن الجدير ذكره أنه في العام 1925 حضر اللورد بلفور إلى فلسطين؛ للمشاركة
في إنشاء الجامعة العبرية، فعم الإضراب الأراضي الفلسطينية، وجوبه بغضب شعبي
فلسطيني عارم، عبّر عنه المرحوم الشاعر "محمد علي الصالح"، بقوله: "بِلْفورُ" ينهبُ أرضَنا، ومُرادُهُ أنْ يستبدَّ بحقنا الدُّخَلاءُ. كما بدأ البريطانيون
مشروعهم بتعيين اليهودي البريطاني "هربرت صموئيل" كأول مندوب سام على
فلسطين.
وعند النكبة (في العام 1948) أصبحت الصهيونية ليست تلك الجوالي والمستعمرات
المنتشرة في فلسطين فحسب، وإنما هي الشبكة العالمية، المجهزة علماً ومالاً،
المسيطرة في بلاد العالم النافذة، المسخِّرة كل قواها لتحقيق هدفها في بناء الدولة
المنشودة([5])، فقد أصبح في حيازة
اليهود 7.6%
من أراضي فلسطين، و10% يقع في تصرف الانتداب البريطاني، وخلال فترة النتداب تلك
تم إنشاء (185) مستعمرة يهودية، وكان عدد المستعمرين اليهود (650,000) نسمة، مقابل (1.4) مليون عربي (مسلم ومسيحي)، وفي القدس كان عددهم (100,000) يتقاسمون مجلسها البلدي، مناصفة، مع العرب([6]). إلا أن الاستعمار البريطاني مكن اليهود من السيطرة (التامة) على 78% من أرض فلسطين الانتدابية([7])، وزودتهم بكامل ترسانتها من الأسلحة، من مختلف
الأنواع حتى الطيران، والعتاد ومصانع الذخيرة، بالإضافة إلى التدريب الدائم
والتأهيل لمقاتلي الحركة الصهيونية في تلك الأثناء.
حينئذ؛ قام الصهاينة بتدمير مئات
من القرى والمدن الفلسطينية، وتم إزالة أغلب التراث المعماري العربي: الإسلامي
والمسيحي عن وجه الأرض، ضمن سياسة تهويد الجغرافيا والسكان والتاريخ، وفق موازين
قوى الغاب وشهوة المستكبرين للسيطرة على موارد وثروات ومقدرات الآخرين واستعبادهم
وتدمير تراثهم([8]).
بذلك انتقل الصهاينة من
(امتلاك!) الأراضي والعقارات وغيرها عن طريق التحايل فقط، إلى استخدام القوة
(المفرطة) في السيطرة على كل ممتلكات الفلسطينيين على أرضهم، وكذلك الأوقاف التي
كانت تشكل ما نسبته بين 10% و20%من الدولة-الجنين، تشمل: أراضي، ومساجد، ومدافن
وغيرها من الأملاك([9]).
لم يأت هذا الاستعراض
التاريخي، لمجرد اجترار التاريخ، أو من أجل الدعوة إلى إقامة حفلات
"اللطم" والبكاء والعويل، وإنما لكي نلفت نظر الأجيال الفلسطينية إلى أن
بريطانيا، التي انتدبت على فلسطين ووزير خارجيتها "بلفور" صاحب الوعد
المشئوم، هم من اختلس أرضهم، وأخرجهم من ديارهم بغير حق، وشردهم في أصقاع المعمورة.
كما أنه جاء للتذكير بأن ما
يجري على أرض فلسطين هذه الأيام، ليس سوى استمرار لما تم إبّان النكبة من قتل
وتشريد وملاحقة. وأن عقلية أيام النكبة هي التي تدير أوار المعركة على أرض فلسطين
التي يشنها الاحتلال، والتي تستهدف الأطفال؛ بإعدامهم بدون وجه حق، سوى ادعاءات
"كاذبة" ما أنزل الله بها من سلطان، وضعت أبناء فلسطين في عين العاصفة،
بنيّة إضعاف إرادتهم وثنْيهم عن المطالبة بحقوقهم المشروعة في العيش الكريم على
أرضهم.
كما أردنا التذكير بأن
"فرحة" بريطانيا لم تتم في إنشاء "إسرائيل" كرأس حربة
لمشروعها الاستعماري؛ إذ أن جيشها وشعبها غير مطمئنين ولا هانئين، ففي حدود فلسطين
التاريخية يقطن ما يزيد عن ستة ملايين فلسطيني هم، جميعًا، عرب أقحاح عينهم على
وطنهم الذي سُلب منهم. أما في حدود الـ (78%) المحتلة في العام 1948، فإن 74% من
قاطنيها هم من اليهود، وهم بعدد نحو ستة ملايين كذلك. أي أنه بعد نحو سبعة عقود من
الزمن على إنشائها، فإنها لا تزال في حالة من القلق وعدم الاستقرار والخوف الدائم
على مستقبلها، وأن الوطن القومي الذي وعدهم به بلفور مضطرب، ولن يهدأ له بال يومًا.
فلسطين،
بيت لحم، العبيدية، 31 تشرين الأول، 2015م
[1] منصور، جوني (ب) (2004). "مشروع لم يكتمل تاريخيًا/ الدولة اليهودية من
الارجنتين إلى فلسطين". مجلة قضايا إسرائيلية، المركز الفلسطيني للدراسات
الإسرائيلية. العدد (14). ص: 73-84.
[2] الفرا، عبد الناصر. البُعد
السياسي لفلسطين من
عام 1914-1948. جامعة
القدس المفتوحة – غزة – فلسطين انظر:
[3] مقدادي، إسلام (2009). العلاقات الصهيونية البريطانية في فلسطين، 1936-1948. رسالة ماجستير، غير منشورة. الجامعة الإسلامية. غزة، فلسطين. ص: 6.
[4] الخالدي، وليد (1987). قبل الشتات: التاريخ المصور للشعب الفلسطيني (1876-1948). مؤسسة الدراسات الفلسطينية. بيروت، لبنان. ط4 (رام الله، 2009). ص: 86-87.
[5] زريق، قسطنطين (2009). نكبة 1948 -أسبابها وسبل علاجها-
ستون عاما على النكبة. مؤسسة الدراسات الفلسطينية. بيروت، لبنان. ط1. ص: 6-7.
[6] عرامين، محمد، والرفاعي، ناصر (2011). المغاربة وحائط البراق الشريف: حقائق وأباطيل. منشورات الأرشيف
الوطني الفلسطيني. رام الله، فلسطين. ص: 39.
[7] في العام 1948 وقع 80% من
مساحة مدينة القدس في أيدي الاحتلال، وجرى طرد 60,000 من العرب، وخلال الفترة 1948-1967 ارتفع عدد اليهود من 100,000 إلى 190,000، أما العرب فلم يتجاوز عددهم الـ 75,000 نسمة. (انظر: عرامين
والرفاعي
(2011)، ص: 39).
[9] دمبر، مايكل (1992). سياسة إسرائيل تجاه
الأوقاف الإسلامية في فلسطين 1948-1988. مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
بيروت، لبنان. طبعة (2). ص: 64-72.
إرسال تعليق Blogger Facebook