0
من القدس إلى تونس ... مع التحية
نشر في صحيفة القدس بتاريخ: 07/08/2016
عزيز العصا
تونس؛ هي ذلك القطر العربي الذي تم فتحه منذ عهد الخليفة الراشدي "عثمان بن عفان" رضي الله. يبلغ عدد سكانها حاليًا نحو (11) مليون نسمة، نحو (98%) منهم مسلمون، ويتحدث قاطنوه اللغة العربية التي هي لغة الدولة، ونظام الحكم فيها جمهوري. ويقع القطر التونسي في شمال أفريقيا، بمساحة (163,610) كيلو مترًا مربعًا (5% منها مياه) حيث يحدها البحر الأبيض المتوسط من الشمال والشرق، وتجاورها الجزائر من الغرب والجنوب، كما تجاورها ليبيا من الشرق والجنوب. ويربض القطر التونسي قبالة أوروبا؛ وأقرب بلد أوربي لتونس هو إيطاليا التي تبعد عنها نحو (500) كيلومترًا يفصل بينهما البحر. أي أن القطر التونسي متوسطي المناخ في الشمال؛ معتدل تقريبًا وصحراوي في الجنوب.
ولأن المجال لا يتسع لذكر التفاصيل، فإننا نشير إلى أن هذا البلد، وبسبب موقعه الجغرافي الموصوف أعلاه الذي يمنحه خصائص وسمات مناخية وجغرافية وطوبوغرافية مميزة، كان عبر التاريخ في عين العاصفة من قبل القوى العظمى، في الحقب التاريخية المختلفة، التي عادة ما تسعى بمنطق القوة والغطرسة إلى السيطرة على ثرواته، واستغلال موقعه للتجارة وعبور الجيوش إلى المناطق الأخرى، وجعله محطة للاعتداء على الجوار.
أي أن أبناء تونس حاربوا العديد من الأعداء المستعمرين الطامعين في أرضهم وثرواتهم، لا سيما وأن تونس كانت قد خضعت للاستعمار الفرنسي ذي الملامح الاستيطانية، في ثمانينيات القرن التاسع عشر، أي في وقت مبكر مقارنة مع دول المشرق العربي التي بقيت تحت ظل الدولة العثمانية حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى في العام 1917؛ وهذا ما منحهم قدرات عالية على الصبر والتحمل، وأكسبهم سمات مقاومة الظلم بأشكاله كافة، والتعاطف مع كل من يتعرض له من أبناء جلدتهم.
عندما تعرض الشعب الفلسطيني للنكبة في العام 1948، كان أبناء تونس من أوائل من وفر الرعاية والحماية والدعم والإسناد لأي فلسطيني قصد هذا القطر العربي الأصيل، رغم أنه لم يكن قد تحرر بعد من الاستعمار الفرنسي؛ وعلى هذه القاعدة تميزت العلاقات الفلسطينية التونسية، عبر الحقب الزمنية المختلفة، بروابط أخوية وعلاقات متينة تجسدت في دعم تونس للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، من خلال دعم وإسناد الثورة الفلسطينية، على المستويات المختلفة.
في العام 1982 احتضنت الدولة والشعب في تونس أبناء الشعب الفلسطيني بقيادة الرئيس ياسر عرفات -رحمه الله- بعد خروجهم من لبنان إثر الاجتياح الإسرائيلي والتحالف الشرير الذي نشأ بين بعض القوى اللبنانية والاحتلال الإسرائيلي؛ مما جعل الوجود الفلسطيني في تونس تحت نيران "إسرائيل" حيث قام الطيران "الإسرائيلي" في العام 1985 بقصف حمامات الشط فسقط عديد الشهداء التونسيين والفلسطينيين، وبعد ثلاثة أعوام تمكنت عصبة من القتلة الإسرائيليين من اغتيال الشهيد خليل الوزير "أبو جهاد"  في بيته في تونس العاصمة. احتضنت تونس كل هؤلاء الشهداء وخصصت مقبرة خاصة بهم، وكانت تونس أوائل الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية في العام 1988.
وبعد أن أُنشِئت السلطة الوطنية الفلسطينية على أرض الوطن الفلسطيني، استمرت العلاقات الفلسطينية-التونسية، بل تطورت واتخذت مستويات متقدمة في المجالات المختلفة: السياسية، والاقتصادية، والعلمية، والثقافية ... إلخ؛ وقد تعزز ذلك كله بوجود السفارة التونسية في رام الله، والسفارة الفلسطينية في تونس.
وفي واحدة من أوجه التعاون الثقافي بين البلدين: فلسطين وتونس، تمت دعوة فلسطين في تموز/ 2016 للمشاركة في احتفالية إطلاق "صفاقس عاصمة للثقافة العربية للعام 2016"؛ فشُكِّل وفد فلسطيني رفيع المستوى برئاسة معالي وزير الثقافة الفلسطيني د. إيهاب بسيسو، وضم عددًا من الشخصيات الثقافية ذات التخصص في الشأن الثقافي الفلسطيني.
ولضرورات التوثيق، ولأهمية الأحداث والمشاهدات التي تمكنا من مراقبتها وتلمسها وفهمها عن قرب، والتزامًا بأدب الرحلات الذي يعني تسجيل الملاحظات، ورسم الانطباعات على صفحات العقل، والحس، والوجدان، فإننا سنقوم بتوثيق شيء مما رأينا وشاهدنا ولمسنا على أرض تونس، ومن أبنائها الطيبين.
أولًا: التونسيون مرتبطون بفلسطين، ولذكرها نكهة خاصة عندهم
ما إن هبطت طائرتنا ظهر الجمعة بتاريخ 22/07/2016 حتى وجدنا أنفسنا وسط حفاوة تونسية الطابع وتونسية النكهة؛ فقد حظينا باستقبال رسمي على مستوى وزيرة الثقافة التونسية والوفد المرافق لها، وما صاحب ذلك من عبارات الترحيب الخاصة التي تنم عن شعور خاص أبداه المستقبلون للوفد الفلسطيني القادم إلى جانب الوفود العربية الأخرى.
وعند الوصول إلى الفندق، كان يبدو على العمال رفع وتيرة الاهتمام والرعاية عندما يعلمون بأن محدثهم فلسطيني، ولا يمكنني نسيان عبارة أحد العمال التونسيين الذي نقل حقيبتي، عندما سألني "من أي بلد أنا"، فقلت: من فلسطين، وما كان منه إلا وانتصب في وقفته، وكأنه يتهيّأ لأداء تحية خاصة، وقال: أقسم لك بأنني عندما أسمع بكلمة "فلسطين" أصاب بقشعريرة؛ لشدة تعلقي بها وبالمسجد الأقصى الذي أتمنى تأدية صلاة فيه ولو لمرة واحدة"، وهذا ما يكاد يتكرر مع كل تونسي عادي تقابله في حياتك اليومية هناك.
أما من الجانب الآخر، وعلى المستوى الرسمي، فقد حظي الوفد الفلسطيني بمعاملة مشبعة بالمشاعر الخاصة التي يكنها أبناء تونس اتجاه فلسطين وأهلها، وقد تجلى ذلك في المشاهد التالية:
-        كان للوفد الفلسطيني مكانة خاصة في المراحل المختلفة التي استغرقت مائة وعشرين ساعة، بدءًا من لحظة الاستقبال وحتى المغادرة، مرورًا باحتفالية إطلاق "صفاقس عاصمة للثقافة العربية للعام 2016" وما تبعها من فعاليات تمت على شرف وزير الثقافة الفلسطيني.
-        كان من أبرز الفعاليات التي حظيت باهتمام رسمي وشعبي وإعلامي، تلك المتعلقة باتفاقية التوأمة بين "القدس العاصمة الدائمة للثقافة العربية" و"صفاقس عاصمة الثقافة العربية للعام 2016" التي تم توقيعها من قبل وزيري الثقافة الفلسطيني والتونسي، وبحضور مصري ممثلًا بالسيدة ميرفت تلاوي/ رئيس المجلس القومي للمرأة في مصر. ومما لفت النظر في هذه الفعالية أنها أثارت الحمية في نفوس التونسيين اتجاه القدس وأهلها بشكل خاص واتجاه فلسطين والظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني بشكل عام.
-        عندما قمنا بزيارة منزل الشهيد ياسر عرفات، المجاور للسفارة الفلسطينية في تونس، وجدناه بأجمل حلة وقد أحيط بالرعاية والاهتمام اللائقين بمكانة ياسر عرفات الذي شكل رمزًا في الثورة على الظلم والغطرسة التي مورست بحق الشعب الفلسطيني حتى تمكن من وضع قضية شعبه "الفلسطيني" على الخريطة السياسة على مستوى العالم أجمع. شاهدنا طاولة الاجتماعات، وخزانة ملابس ياسر عرفات المتواضعة وأسرّته الأكثر تواضعا، لينتهي الأمر بطاولة صغيرة في الطابق العلوي، التي عليها  تتم مناقشة  أكثر الأفكار  تركيزًا  مع شخص  واحد فقط يكلفه أبو عمار بأمر ما لا يعلم به أحد غيرهما. تلك كانت شقة ياسر عرفات المتواضعة جدًا، التي كان يصدر عنها صخب يكاد يغطي  على  قصور العديد من حكام العالم، فرادى ومجتمعين.


في منزل الشهيد ياسر عرفات بتونس

في تلك اللحظات الرهيبة أمام هذا القائد التاريخي، لا بد لنا من أن نستذكر أنه حافظ على مركب شعبه فوق الأمواج العاتية؛ فكلما اشتد هديرها ازداد علوه وسموه ومحافظته على تماسك شعبه، وتوحده خلف قراره الوطني المستقل في الحرية والاستقلال والدولة.
في منزل الشهيد ياسر عرفات بتونس، ويظهر في الصورة الفنان التونسي لطفي بوشناق

-      هناك شاهد آخر يؤكد على صدق التونسيين ووفائهم اتجاه الفلسطينيين، الأحياء منهم والشهداء، وهو تلك الرعاية والاهتمام التي يحظى بها رفات شهداء الشعب الفلسطيني الذين سقطوا على أرض تونس على يد العدوان الإسرائيلي الذي استباح أرض تونس وأجواءها قبل أن يتمكن من أبطال فلسطين من الفدائيين الرابضين هناك، إلى جانب قائدهم وحادي مسيرتهم ياسر عرفات رحمه الله؛ وهذا ما لمسناه في زيارتنا لمقبرة الشهداء الفلسطينيين التي تحاط بسور من الجهات الأربعة، وتتمتع بالحماية الدائمة والمستمرة.

وفي مقبرة الشهداء تعاين قائمة بأسماء الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا على أرض تونس. كما شاهدنا النصب التذكاري لشهداء غزة 1985



لقد كان لتلك اللحظات وقع رهيب على كل منا، ونحن نتجول وسط صور العدوان الشرس الذي تعرض له الشعب الفلسطيني، لا لأي سبب غير مطالبته بحقوقه المشروعة على أرضه أرض الآباء والأجداد؛ فَطُورد أبناؤه الرافضين للظلم في أصقاع المعمورة كافة، ودون هوادة باستخدام أكثر الأسلحة فتكًا. وأما في منزل ياسر عرفات، فقد قرأنا على تلك الجدران سيرة شعبنا ومسيرته ليس فيما مضى وحسب، وإنما قرأنا القادم الذي أسس له هذا القائد برمزيته التي شكلها للأجيال عبر العقود الثمانية من عمره التي عاشها وهو يهتف لفلسطين وللقدس.
في تلك الأجواء استذكرنا، جميعًا، قصيدة الراحل "محمود درويش" في قصيدته "كيف نشفى من حب تونس"
كيف نشفى من حب تونس الذي يجري فينا مجرى النفس
لقد رأينا في تونس من الأَلَفة والحنان والسَّند السمح ما لم نر في أي مكان آخر
ولذلك نخرج منها كما لم نخرج من أي مكان آخر
نقفز من حضنها إلى موطئ القدم الأول
في ساحة الوطن الخلفية
بعدما تجلت لنا فيها
في البشر والشجر والحجر
صور أرواحنا المحلقة كعاملات النحل على أزهار السياج البعيد
في هذا الوداع نحبكِ يا تونس أكثرَ مما كنا نعرف
نردد في صمت الوداع الحزين شفافيةً تجرح
ونُصفِّي كثافة مركزة إلى حد العتمة التي تحل بالعشاق
ما أجمل الأسرار الكامنة وراء الباب الموارب، وراء بابك
وهو المساحة المثالية لتعامل الشاعر الحاذق مع العناصر التبادلية للقصيدة.
فهل نقول لك شكرًا؟!
لم أسمع عاشقيْن يقولان شكرًا ...
لم أسمع أبدًا عاشقين يقولان شكرًا .. ولكن شكرًا لك لأنك أنتِ من أنت.
حافظي على نفسك يا تونس
سنلتقي غدًا على أرض أختك فلسطين
هل نسينا شيئًا وراءنا؟
نعم، نسينا تلفت القلب، وتركنا فيك خير ما فينا
تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيرًا
نوصيك بهم خيراً 
حينها تبادلنا دموع الأسى والحزن والغضب على شهدائنا الذي جددنا لأهلنا في تونس الحبيبة قول محمود درويش: تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيرًا .. فقد تركنا فيها أمير الشهداء "أبو جهاد" الذي ارتقى شهيدًا وهو يمسك بمسدسه يقاوم الغزاة الذين عبروا البحر حتى غرفة نومه، وفق خطة شريرة قادها إيهود باراك الذي أصبح رئيس وزراء إسرائيل فيما بعد؛ مما يشير إلى طبيعة الصراع الذي نخوضه على أرضنا ونحن نحتضن هويتنا؛ لذا ذهبنا آلاف الكيلومترات إلى تونس وصفاقس لنقول للعالم أجمع: نحن أصحاب الأرض، وأصحاب الهوية، وسنعض عليها بالنواجذ ونحميها أمانة ننقلها إلى الأجيال القادمة؛ وهذا ما أشار له معالي وزير الثقافة عندما قدم للتونسيين قطعة التطريز الفلسطيني، وبجوارها مفتاح البيت الفلسطيني بشكله التقليدي الذي كان يستخدم حتى النكبة.
ثانيًا: الفنان التونسي "لطفي بوشناق".. فلسطيني الهوى.. يتمنى أن يدفن في فلسطين

عندما دخلنا السفارة الفلسطينية في تونس وجدنا الفنان والعازف التونسي الشهير لطفي بوشناق الذي استقبلنا  بالأحضان، فردا فردًا, وكأنه يعرفنا ونعرفه منذ زمن. فشعر كل منا بحنو هذا التونسي ورقة مشاعره، وما إن انتهى السلام حتى انطلق بعباراته الرقيقة المشبعة بحب فلسطين وتقدير أهلها، مبتدئًا بعبارة: "كم أتمنى أن أموت وأدفن في فلسطين".
لا شك في أن لطفي بوشناق يحب الحياة ولا يتمنى الموت، ولكن إذا كان الدفن  في فلسطين فإنه يستعجله؛ لأنه يعتبر ذلك جائرة أبدية يسعى إليها بشغف المحب العاشق؛ وفي ذلك نجد الأنموذج التونسي القابض على فلسطين رغم البعد ورغم ضعف الأمة وهوانها.
ولم يتوقف الفنان بوشناق عند هذا الحد، وإنما تقدم بمقترح لمعالي وزير الثقافة الفلسطينيى يتلخص بضرورة  إنشاء فضائية فلسطينية متخصصة في الشأن الثقافي بأبعاده المختلفة؛ لكي تبقي على فلسطين حاضرة في وعي الأمة، وتعيد القضية الفلسطينية إلى الصدارة في عقول شعوب العالم المختلفة، لا سيما وأنه طالب بضرورة توفير الترجمة لعدة لغات للفعاليات الثقافية التي يتم بثها، من أغانٍ وأشعار وقصائد وسرديات وحكايات وحقائق تاريخية وغير ذلك. وأكد بوشناق أن فضائية بتلك الخصائص تسهم في الإبقاء على حضور القضية الفلسطينية في الوعي العربي والإنساني من التآكل والنسيان والاندثار.
أمام هذا المشهد الوجداني الملتهب بالعواطف الجياشة اتجاه فلسطين من فنان عالمي وسفير النوايا الحسنة للأمم المتحدة، شكر وزير الثقافة الفلسطيني تونس وأهلها الكرام، مؤكدًا أن الفنان بوشناق بأحاديثه تلك يعبر عن نبض التونسيين من مختلف الفئات والشرائح السياسية والاجتماعية والفنية .. إلخ. ثم قام بمنح الفنان بوشناق جائزة القدس للإبداع والمذيلة بتوقيع المرحوم عثمان أبو غربية الذي لم يمهله القدر فرصة التكريم بنفسه.  

ثالثًا: المتاحف التونسية: تحتضن التاريخ .. وتشهد على العصور  
لأن تونس دولة عريقة في التاريخ، فإنها تستقبل زوارها بتلك المتاحف المنتشرة على طول البلاد وعرضها؛ وقد حظينا بجولة في متحفين يتمتعان بمحتويات ذات سمات تضرب في عمق التاريخ، وهما: متحف باردو، ومتحف قرطاج.
متحف باردو: يعج بالفسيفساء التي يندر وجودها في غيره
أقيم المتحف الوطني بباردو في العام 1888 بعد الغزو الفرنسي لتونس، في بيت عثماني الطراز، كان المقر السابق لبايات تونس، وكان تحت اسم "المتحف العلوي". وفي العام 1956 أطلق عليه "متحف باردو". وخلال الفترة بين عامي 2009-2012 أجري فيه أشغال تجديد وتوسعة، انتهى أمرها إلى إضافة مساحة للمتحف تناهز الـ (9,000م2)، حتى أضحى المتحف مصدرًا للإشارة إلى ثراء التراث التونسي وتنوعه منذ ما قبل التاريخ حتى تاريخه، مرورًا بالحقبة الرومانية والعصر الإسلامي.
تميز هذا المتحف، وفق مشاهدتنا، باحتوائه على العديد من القطع الفسيفسائية، والتي تقدرها المرشدة السياحية "عزيزة مريحي" بحوالى (5000) قطعة تعود إلى العصرين الروماني والبيزنطي. وقد شاهدنا أكبر تلك القطع، وهي بطول (13) مترًا، استغرق العمل على تثبيتها لوحةً جداريةً أربع سنوات.
وتؤكد مريحي أن الفسيفساء عراقي الأصل، وكان يؤدي أدوارًا مختلفة، هي: السير عليه، وللتزيين وللتثقيف؛ حيث يستخدم لتوثيق ما يجري في الحياة اليومية؛ وقد شاهدنا رزنامة من الفسيفساء التي تعبر عن أشهر السنة الإثني عشر.


وقد شاهدنا مدخلًا لكنيس يهودي يحتوي ثلاثة مشاهد: يهودية ومسيحية وإسلامية.


















كما أنه يوجد في القصر الذي يشكل مقرًا للمتحف تأثيرات مختلفة: أندلسية وعثمانية وأسقف إيطالية، وقد تم تقسيمه إلى قاعات للاحتفالات والموسيقى وقاعة للحريم.
ومن المشاهد التي لا بد من التوقف عندها "آلهة البربر" وهم سبعة ذكور قد تم عرضهم في هذا المتحف.










ولأن الإرهاب سيف مسلط على رقبة الحضارة، فقد تعرض هذا المتحف لعملية إرهابية شنيعة في العام 2015، راح ضحيتها (22) شخصًا من التونسيين والأجانب، وعلى رأسهم رجل أمن تونسي. وكم آلمنا وجود تلك القائمة الطويلة من القتلى الذين قضوا برصاص طائش، بل برصاص أطلقه من يعبث بحياة بني البشر قاطبة، فقمت بالتقاط صورة تذكارية لتلك اللوحة التي تخلد لذكرى تلك الضحايا.



قبل مغادرة هذا المتحف الذي يعج بالشواهد الحضارية التي يصعب الخوض في تفاصيلها، اتفقت مع السيد "المنصف بن موسى" محافظ المتحف، على التواصل وتنسيق علاقة جادة وفاعلة بين المتاحف الفلسطينية وهذا المتحف العريق؛ وعليه أرى ضرورة تنظيم رحلات وزيارات علمية للعلماء والباحثين الفلسطينيين المعنيين بشأن الفسيفساء للاطلاع على التجربة التونسية في حفظ الفسيفساء والمحافظة عليها، لا سيما وأن كل ما يجري في هذا المتحف هو برعاية اليونسكو واطلاعها ومتابعتها، حتى أنه طُلب منا لبس نايلون فوق أحذيتنا، بأمر من العلماء، عند مرورنا فوق الفسيفساء المرصعة على مدخل المتحف، ومن ثم تجوالنا داخل المتحف.
متحف قرطاج: قصة صمود في وجه الغزوات
حيث إن التونسيين استقبلونا بمتحف باردو، فإنهم ودّعونا بمتحف قرطاج. تقع قرطاج على تلة ترتفع عن سطح البحر نحو (60) مترًا، وتبلغ مساحتها نحو (6400) دونمًا، أكثر من 60% من مساحتها مناطق أثرية، وقد صُنِّفت ضمن قائمة التراث العالمي التي وضعتها اليونسكو.
خاضت معارك عنيفة، عبر التاريخ، مع الغزاة من رومانيين وغيرهم؛ الأمر الذي يجعل الدليل السياحي المتحدث عنها يعرج على تلك الحروب ويزهو بالانتصارات التي حققها القرطاجيون في محطات معينة، لصلابتهم وقدرتهم على استخدام جغرافية منطقتهم بما يوجع الأعداء المهاجمين من جهات مختلفة.

يقول القائمون على هذا المتحف، الذي تم تسجيله على قائمة التراث العالمي من قبل اليونسكو، بأنهم قد جمعوا التحف الأثرية من الخرائب، في محاولة جادة منهم لتصوير الحياة اليومية للقرطاجيين عبر العصور المختلفة؛ منذ تأسيسها حوالى 800 قبل الميلاد وحتى القرن العشرين حين شيّد الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة قصرًا له في هذه المنطقة. ومما استعرضه الدليل السياحي ما قام به "حنا بعل" من انتصارات على الرومانيين قبل الميلاد، الذين ردوا على تلك الانتصارات الموجعة لهم بحرق قرطاج خلال واحد وعشرين يومًا.

حي حنا بعل في قرطاج
كما تجدر الإشارة إلى أنَّ متحف قرطاج هذا يوجد داخل كنيسة التي بنيت على شرف لويس التاسع الذي هزمه صلاح الدين الأيوبي، ووقع أسيرًا في مصر. وفي عصر الحبيب بورقيبة تم تحويل الكنيسة إلى متحف قرطاج.
تلك هي آثار تونس وتراثياتها التي تشير إلى عظمة من استقروا على أديم هذه الأرض، وما تمتعوا به من صلابة وقدرة عالية على الصبر والصمود. وإذا كان متحف باردو يشير إلى عظمة الحضارة التي بنيت في تلك الجغرافيا، فإن متحف قرطاج يكمل الصورة من خلال الوصف الدقيق للأعمال البطولية التي حققها التونسيون الأجداد، وليس أدل على ذلك من "حنا بعل" القائد الداهية الذي مرغ أنف الرومانيين على مدى سنوات طويلة بالتراب، رغم فارق القوة الذي تميز به الرومانيون، ولكن كانت النتيجة أنه قد جرى تدمير قرطاج بالكامل باستخدام القوة المفرطة في حينه. الأمر الذي يجعلنا نتوقف أمام ما جرى في عصرنا الحالي لنقول: إن التاريخ يكاد يعيد نفسه بصور طبق الأصل.
رابعًا: تونس دولة مدنية .. والتونسيون حضاريون بكل المقاييس   
لا يمكن للمراقب إلا أن يلاحظ أن الحياة المدنية هي السائدة في الدولة التونسية، كما أن تونس هي دولة معاصرة، بكل المعايير؛ فهي ليست دولة الحزب الشمولي أو القائد الشمولي، وإنما تتسارع وتيرة الحياة السياسية فيها نحو الحالة الديمقراطية الكاملة، التي تضيق فيها العشائرية والحزبية لصالح الحياة المدنية التي تكفل حرية الرأي والتعبير والتي يسيرها القانون الذي يطبق على الجميع.
ومما لفت نظرنا أننا لم نسمع "تزميرًا" ولا "تطبيلًا" للحاكم؛ أي رئيس الدولة، كما لم نلحظ صوره تفرض نفسها على شوارع تونس وأزقتها. وهناك من يقول بأن الرئيس المنصف المرزوقي هو من سنّ هذه السنة الحسنة حين منع وضع صور الرئيس في الأماكن العامة وفي مرافق الدولة. كما لفت نظرنا أيضًا أن الخطابات الرسمية تكاد تخلو من افتعال "حشر" اسم الرئيس أو رئيس الوزراء في كلمات المتحدثين فلم أسمع، شخصيًا، شكرًا لرئيس الدولة إلا في كلمة الافتتاح لاحتفالية "صفاقس عاصمة الثقافة العربية" بتاريخ 23/07/2016.
وكأننا بالشعب التونسي في طريقه إلى القضاء على عوامل بروز الدكتاتورية وفرص ظهورها التي تتشكل حاضنتها من المبالغة في النفاق إلى الحاكم والتقرب منه على حساب الكرامة الوطنية؛ علمًا بأن التونسيين يحتفظون في ذاكرتهم بالاحترام والتقدير للرئيس الحبيب بورقيبة الذي قاد الثورة ضد الفرنسيين، ووضع تونس على الخارطة الجيوسياسية في العالم، وجعلها تشكل الرقم الصعب في المنطقة رغم صغر مساحتها مقارنة مع دول الجوار؛ فانتهى الأمر بأن نصب له أبناء شعبه تمثالًا وهو على فرسه يعلو ساحة واسعة في مركز العاصمة تونس.
في هذه الأجواء، يمكننا القول بأن التونسيين طلقاء في بلدهم أحرار في التفكير والإبداع؛ فلا خوف من تسلط الحاكم ولا أجهزته "القمعية" ولا أفراد عائلته من استباحة خصوصيات الناس، والانقضاض على إنجازاتهم بغير وجه حق، وأن القانون فوق الجميع. كما يمكننا القول بأن الحاكم، المنتخب من أبناء شعبه، يجلس على الكرسي آمنًا مطمئنًا، وهو يسارع الزمن لا للانقضاض على المعارضين والقضاء عليهم، وإنما للابداع في تحقيق الإنجازات والمزيد منها وفق برنامجه الانتخابي الذي أوصله إلى كرسي الحكم.  
الخاتمة   
كانت تلك بعض من ملامح زيارة إلى الدولة التونسية قام بها وفد فلسطيني، ثقافية القلب والقالب، برئاسة وزير الثقافة الفلسطيني د. إيهاب بسيسو. لم تكن زيارة مجاملة سياسية، كما لم تكن رحلة للترف والمتعة، وإنما كنا نسابق الزمن، دقيقة بدقيقة، لكي ننهل من تلك الفعاليات التي تتم في صفاقس عاصمة الثقافة العربية، على أمل أن "نقتبس" منها أو نستنسخها أو نتعلم من نقاط قوتها و/أو ضعفها. كما تم عقد اتفاقية التوأمة الموصوفة أعلاه بين القدس وصفاقس، التي أُتبعت بتبادل الآراء والأفكار لتدعيم التبادل الثقافي بين المدينتين، بل بين البلدين الشقيقين. وفي هذا الجانب سيتم إعداد مقال شامل حول التجربة "الصفاقسية" كما شاهدناها في رحلتنا هذه، خلال سبعين ساعة أمضيناها هناك وسط حفاوة وتقدير واستضافة عربية أصيلة نعتز بها.
أما خلاصة المشاهد التي يمكن معاينتها بوضوح فهي أننا أمام بلد عربي يتحرك بخطى واثقة نحو الاستقرار التام في حدود دولة مدنية، تصان فيها حقوق الفرد، ويطلق له العنان في حرية الفكر والتفكير؛ وهذا ما سينعكس على المستوى الثقافي الذي يعنينا، خاصة تجربة عاصمة الثقافة العربية التي نتجه نحوها في بيت لحم في العام 2020 بعون الله. وعلى هذه القاعدة سيتم العمل، هنا في فلسطين، على دراسة التجربة التونسية في مجال المتاحف وفي مجال الفعاليات الثقافية المختلفة.
أخيرًا، لا يمكننا المغادرة قبل أن نقول لتونس وأهلها، وبروح ما قاله الراحل "محمود درويش": تركنا فيك يا تونس شهداءنا الذين نوصيك بهم خيرًا .. تركنا فيك رمز نضالنا الوطني "منزل ياسر عرفات" الذي أشغل العالم وهو يدافع عن كرامة شعبه وحقه في الحياة الحرة الكريمة على أرضه .. تركنا فيك دماء الشهيد "أبو جهاد" الذي قاد ثورة شعبنا المعاصرة بصدق وأمانة جعلت العدو يستهدفه وفق خطة شيطانية انتهت باستشهاده على أرضك الأبية .. كما تركنا فيك اتفاقية توأمة مع القدس التي تنتظر التنفيذ والتطبيق، بما يخفف من آلام الاحتلال وأوجاعه الذي يثخن جراحها يومًا بعد يوم.
وإلى تونس من القدس بالغ التحية ..

فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 01/08/2016م

إرسال تعليق Blogger

 
Top