هاروكي موراكامي في الكتاب الأول من روايته "1Q84":
المرأة
والأطفال مستباحون في عوالم غامضة.. وعسر القراءة لا يعيق الإبداع الأدبي
نشر في صحيفة القدس، بتاريخ: 08/10/2016، ص: 16
عزيز العصا
هاروكي موراكامي؛ روائي
ياباني في أواخر العقد السابع من العمر (مولود في 12/01/1949)؛ له العديد من
الروايات. وأما الرواية التي نحن بصددها لـ "موراكامي" فهي
روايته "1Q84 (الكتاب الأول: أبريل-يونيو)"، الصادرة في العام 2009، وأما النسخة التي تم مطالعتها فهي: الطبعة العربية
الأولى في العام (2016) الصادرة المركز الثقافي العربي/ الدار البيضاء-المغرب،
ترجمة "أنور الشامي". تتألف النسخة قيد النقاش من (557) صفحة من القطع
المتوسط، يتوزع عليه (24) فصلًا.
تتألف الرواية، بأكملها، من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول، يجري بين أبريل
ويونيو (نيسان-حزيران)، والجزء الثاني يجري بين يوليو وسبتمبر (تموز-أيلول)، ويجري
الجزء الثالث بين أكتوبر وديسمبر (تشرين أول-كانون أول). أما النقاش، في هذه
العجالة، فيدور حول الجزء الأول من هذه الرواية، الذي وجدته وقد تُرجم بلغة عربية
سليمة وواضحة.
بقراءة متأنّية ومعمقة وجدتُني أقف أمام نص روائي ثري يتكئ على مجموعة
عناصر شكلت الهيكل أو البنية الأساسية للرواية، وهي: الحدث، والشخصيات، والزمان
والمكان. فالأحداث، إلى جانب الوصف والاكتشاف، في كل فصل من فصول الرواية شكلت، في
مجموعها، عناصر مهمة في الرواية كانت تتفاعل وتنمو وتحقق وظائفها من خلال شخصيات
الروائية. وتمتع الروائي بالقدرة العالية على تصوير الشخصيات وتحديد وظائفها داخل
النص، كما قام بتركيب وتنظيم العلاقات بين تلك الشخصيات، بما مكنها من تحقيق
نجاحات أوصلتها إلى غاياتها، أو إخفاقاتها في السعي نحو تحقيق أهدافها.
تمتع النص الروائي بشموله على تصويرات بصرية دقيقة، كادت أن تجعل منه
فيلمًا سينمائيًا مكتوبًا على الورق. ومما لفت النظر في هذا الشأن تحديد الروائي
بدقة عالية للأوزان والأطوال والمساحات وأزمان حركات الشخصيات؛ مما يجعل القارئ
جزءًا من المشهد الذي يجذبه حتى النهاية. ومن الأمثلة على ذلك: "طولها يبلغ
خمسة أقدام وست بوصات" (ص:
21)، "وهذه الصورة الحية ذات العشر ثوانٍ تأتيه دون سابق إنذار" (ص: 27)، "ثم ظلت
صامتة لخمس عشرة ثانية" (ص:
89)، علمًا بأن هناك استخدامًا بدا مفرطًا للأرقام والأعداد في بعض الأحيان،
حينما يقول: "حيث ابتاع العديد من الكتب، وراح يقرأها وهو يحتسي بعض البيرة
في حانة قريبة" (ص:
318، 80). ومن الصور الجميلة قوله "لم تحر فوكا-إري جوابًا، كل ما
فعلته أنها ضمت ياقة كنزتها من عند الرقبة" (ص: 221)، وقوله "أخذت الأرملة الثرية نفسًا
بطيئًا وأخرجت صوتًا خافتًا من آخر حلقها" (ص: 404).
إن "القضية" الروائية
الرئيسية، لرواية "1Q84"، كما رأيتها، تقوم على الصراع المتعدد الأبعاد والاتجاهات
داخل عالم جديد غير العالم الذي نعرفه؛ فهناك صراع تقوده مجموعة من النسوة ضد
الرجال المتسلطين على النساء بذكورتهم الوحشية، وكذلك الصراع داخل المجتمع
بمحركاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسلطوية والقطاع الخاص... الخ، الذي
يصل لحد الفوضى عندما تُستهدَف قوى الأمن في البلد، وينتهي الأمر بتشكّل قوى
عقائدية تفرط في الظلم والجوْر بحق الشرائح المجتمعية المختلفة كجماعة الشهود
وجماعة "ساكي جاكِه" التي تحولت من كومونة زراعية عادية إلى "تنظيم
ديني منغلق على نحو رهيب" (ص: 271) (ص:
441)، ويحصلون على التبرعات من أتباعهم عبر الابتزاز (ص: 493)، فينشأ داخل
التنظيم هناك تراتبية صارمة، ينقسم فيها الأعضاء بين: "مؤمنون يمكنهم رؤية
الزعيم"، وآخرون أشبه بقطيع خراف" (ص: 525-526). وتشير الرواية إلى أثر تلك المعتقدات
"الشاذة" على الأطفال (ص: 278-282)، وما يجري من اغتصاب بحق الإناث من هؤلاء الأطفال (ص: 526-527).
ولأجل ذلك، قام "موراكامي" بتشكيل البنية المكانية لروايته من عدد من
المدن اليابانية، وإن لم نلحظ أوصاف الملامح الحضارية المبهرة التي تتمتع بها تلك
المدن. أما البنية الزمانية، فكانت محصورة بين شهري نيسان وحزيران، وما تتميز به
تلك الفترة الزمنية بأجواء تشكل خليطًا من الشتوية والربيعية والصيفية، وقد وظّف
تلك الأجواء في النص بشكل جميل (ص: 161).
بالعودة إلى شخصيات الرواية، نجد أن هناك بطليْن يتناوبان في النص، هما: "أوْمَامِه"
المولودة في شهر نيسان من العام 1954، و"تنغو"، وقد شكّلا الشخصيتين
الرئيسيتين للرواية (في الكتاب الأول)، وما يتحرك معهما من شخصيات ثانوية تتراوح
في تأثيرها بين الشخصيات الهشة التي تدخل في النص وتخرج منه بسرعة؛ بالموت أو
بغيره، وشخصيات صلبة تكاد تأخذ الأدوار الرئيسية في السرد، لولا أن "موراكامي" يعيدها
إلى الأدوار الثانوية.
وأما السرد فقد كان مزيجًا من الحقيقة والإيهام بها؛ فقد وظّف معلومات
دقيقة وأحداث حصلت على الأرض، موثقة في الصحف التي استعرضتها البطلة
"أوْمَامِه"، مع الفنتازيا أو ما يجري في عالم الميتافيزيقا.
يقول
"موراكامي"
في روايته هذه على لسان تشيخوف: الروائي ليس ذلك الشخص الذي يجيب عن
التساؤلات، وإنما الذي يطرحها (ص:
477). إلا
أن هذه الرواية، وما يدور فيه من أحداث، وفي ثنايا السرد ترفع المستوى الثقافي
والمعرفي لدى قارئها، كما تبث فيه الحكم والأمثال التي تترك فيه أثرًا
جميلًا، منها:
1) القراءة هي العادة اليومية لأبطال الرواية، وهي مصدر
المعرفة المتراكمة والمتطورة، ومصدر رئيسي في التثقيف اليومي (ص: 101).
2) الرياضيات تشبه الماء؛ منطقها الأساسي بالغ البساطة،
وتتدفق باتجاه واحد، وما عليك سوى أن تراقبها عن كثب خلال الطريق حتى تكشف عن
نفسها (ص: 86). وقد افتتن "تنغو" بوضوح عالم
الرياضيات وحريته المطلقة، وهما شيئان كان بحاجة لهما لكي يبقى على قيد الحياة،
وبقيت الرياضيات مصدر بهجة عظيمة له بعد بلوغه (ص: 324-325).
3) عندما اتجه "تنغو" إلى القصة قادمًا من
الرياضيات، بدأت غابة القصة تضيق الخناق على قلبه، فكاتب القصة يستعين بالكلمات
لتحويل المشهد المحيط إلى شئ أكثر طبيعية (ص: 87)، والقصة تحول مشكلة واحدة إلى شكل آخر،
وبحسب طبيعة المشكلة ووجهتها يمكن اقتراح الحل في الرواية. وكلما كبر في السن أصبح
أكثر ميلًا إلى الحل الروائي (ص: 325).
4) الدوافع النبيلة لا تفضي دومًا إلى نتائج نبيلة، وليست
كل الجراح تنزف دمًا (ص:
438).
5) الحياة الروحية (الغريبة) تستقطب الشباب من جميع أنحاء
العالم: بذلك، نجد أن "موراكامي"
في روايته هذه يضع العالم أمام تحدٍ حقيقي بضرورة توفير مقومات العيش الكريم
الذي يسد الفراغ الروحي لدى جيل الشباب؛ لكي لا ينزلقوا في متاهات التيارات
الروحية التي تشكلها جماعات متشددة ومتماسكة تعيش في أجواء "هوس السرية"
(ص: 425)، تشكل
خطرًا ليس على المجتمع وحسب، وإنما على أعضائها أنفسهم أيضًا (ص: 427).
6) عسر القراءة؛ إحدى صعوبات التعلم، وتعني أن يجد المرء
صعوبة في قراءة الحروف التي أمامه (ص: 178). وقد وجدنا في هذه الرواية أن عسر القراءة وصعوبة الكتابة
الذي تعاني منه "فوكا-إري" لم يكن لتخلف عقلي كما يعتقدون في المدرسة؛
بل إنها حادة الذكاء ولديها حكمة بالغة (ص: 222)، كما أن عسر القراءة هذا لم يمنعها من أن
تحصل على جائزة أفضل رواية؛ فقد ابتدعت طريقة بأن أملت القصة على صديقتها
"أزامي" التي كتبتها لها (ص: 180-181). وتجدر الإشارة إلى أن "فوكا-إري" هي ابنة
"تاموتسو فوكادا" الرجل الحاد الذكاء؛ مؤسس جماعة "ساكي
جاكِه" الموصوفة أعلاه (ص:
225-235).
7) القراءة وراثة؛ فقد وجدنا أن "تنغو" الشغوف
بالقراءة والعبقري في الحساب، يشكك في أبوّة والده الذي عرفه بلا كتب ولا صحف في
البيت والذي لا يبدي اهتمامًا بالموسيقى أو السينما، وأصبح مقتنعًا بأن والده
الحقيقي في مكان آخر (ص:
321-322).
8) هناك تعزيز للوجبات الغذائية المدرسية؛ لدورها في إمداد
التلميذ بما يحتاجه من عنصر غذائية لنموه. ودعوة إلى عدم الإسراف في الشرب؛ بهدف
حماية الكبد وضبط معدل السكر في الدم (ص: 233).
لم يترك "موراكامي"
تسمية روايته وعنوانها بلا تفسير، وإنما قام في منتصفها، وعلى لسان البطلة
"أوْمَامِه"، إلى أن "1Q84" هو العالم الجديد، وأن Q تشير إلى "علامة
الاستفهام"؛ أي عالم يحمل سؤالًا. الأمر الذي جعلها تطلق على السنة 1Q84، وليس سنة 1984 التي لم يعد لها وجود؛ فقد تغير الهواء وتغير المشهد (ص: 205). وفي هذا العالم.
كما ورد في النص ذكر رواية جورج أورويل (1984) في العام 1949؛ عندما كان عام
(1984) لا يزال زمنًا بعيدًا في رحم المستقبل، صوّر فيه مجتمع المستقبل بأنه ظلامي
تهيمن عليه سلطة استبدادية (ص:
464).
بالبحث والمتابعة تبين أن هناك أغلفة مختلفة لهذه
الرواية انتشرت في العالم، وهي تختلف باختلاف الطبعة، وباختلاف اللغة التي تُرجمت
إليها الرواية. ولعل تفسير ذلك يعود، بالدرجة الأولى، إلى نظرة الفنان (الرسام)
للإشارة السيميائية التي استنبطها من النص الروائي.
وفي صورة الغلاف يتآزر اللون مع الكلمة في تشكيل الرسالة
التي يُعنى المبدع بنقلها، حيث يكثّف الفنان بذائقته ورؤيته كثيرًا من مضامين
الحكاية في خطوط وألوان؛ يقوم برسمها بعناية فائقة، لتكون الموافقة من الكاتب
بمثابة إقرار منه بأن تلك الصورة تعكس مضمون المتن الروائي ككل، باعتبار أن
"التصوير هو شعر أبكم والشعر هو تصوير ناطق[1].
خلاصة القول
قبل أن
نغادر، لا بد من الإشارة إلى أننا أمام رواية عالمية بامتياز، اتجه فيها "هاروكي موراكامي" إلى بناء شخصيتين
متوازيتين تتبادلان الأدوار في العالم الجديد الذي يحمل سؤالًا، رسمت البطلة
"أوْمامِه" ملامحه بشكل أوضح وفق توجهاتها نحو امتهان القتل، المخطط له
مسبقًا، حيث وظفت الطب الرياضي لهذا الغرض، والاهتمام بالمسدسات وأنواعها وأشكالها
ومدى الدقة في الإطلاق، والجنس بأشكاله المختلفة. في حين أن "تنغو" يوظف
"الرياضيات" في تطوير نظرته نحو العالم، وتطوير قدراته الكتابية في
الأجناس الأدبية المختلفة.
إن
القراءة المتأنية تجعل القارئ أمام تشابك في الخيوط التي تتجمع لرصد الأثر الضار،
بل القاتل للمجتمع، الذي يكمن خلف التجمعات المدعية التدين، ذات الأعماق السوداوية
التي "تمتهن" القتل والاغتصاب بأبشع صورهما، كما تُخضِع الشرائح
المجتمعية المختلفة للاستغلال البشع، والعمل لديهم رغمًا عنهم بلا أي حقوق.
هذا ما
وجدناه في الكتاب الأول من رواية 1Q84، فلنتابع للتعرف على الكتابين: الثاني والثالث، لعلنا نستشف
السمات والخصائص الأخرى للعالم (Q) الذي أدخلتنا فيه "أوْمامِه" بطلة الرواية.
فلسطين، بيت لحم،
العبيدية، 07/09/2016م
[1] القاضي، عبد المنعم (2016). هندسة الرواية: دراسة
في بنية السرد الموازي عند محمد قطب. عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية.
ط1. ص: 264-265.
إرسال تعليق Blogger Facebook