0
الزوايا المقدسية كنز حضاري ومعرفي
-الزاوية الأزبكية أنموذجًا-
نشر في مجلة "مشارف مقدسية"، العدد السابع، خريف 2016، ص: 123-128
                                                         عزيز العصا
مقدمة
تميزت مدينة القدس عن باقي المدن الفلسطينية بكثافة الزوايا والتكايا والخوانق والجوامع والمدارس، كما تميزت بالوجود المكثف للباحثين، من مختلف القوميات والأديان والأجناس والأعراق، القادمين إليها من أنحاء الأرض كافة. ويعود ذلك إلى المكانة الدينية والعقائدية التي تحتلها القدس في نفوس هؤلاء جميعًا؛ ففي القدس تربض الذاكرة الإنسانية لبني البشر قاطبة، وعلى أرضها تراكمت الحضارة الإنسانية، عبر العصور، إلى أن وصلتنا كما هي عليه الآن.
أما المسلمون، فقد كان للقدس معنى خاصًا في نفس كل من ينطق بالشهادتين، ويؤمن بما أنزل على نبي الله محمد "صلى الله عليه وسلم"، ويعود ذلك إلى أنها أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين ومسرى نبيهم محمد ومعراجه صلى الله عليه وسلم. الأمر الذي جعلها محط أنظارهم ومهوى أفئدتهم، وإليها تهفو نفوسهم بالرعاية والسدانة والعبادة والتقرب إلى الله سبحانه.
من هنا، يُلاحظ أن المسلمين، من العرب وغير العرب، القادمين من خارج فلسطين، بخاصة العلماء والمختصين بالعلوم الشرعية، والباحثين عن تلك العلوم، وأصحاب الطرق... الخ، اتجهوا نحو المسجد الأقصى فعمروه بالصلاة والعبادة والتّعلّم والتّعليم، وكانت مصاطبه[1] لا تخلو من الطلبة والمدرسين على مدار الساعة. وقد ورد في الأثر أن الإمام الغزالي عندما جاء إلى المسجد الأقصى ووجد فيه "300 حلقة علم"، قال: لقد ضاع العلم في بيت المقدس[2].
من الطبيعي أن كل من يأتي إلى المسجد الأقصى من خارج فلسطين، يسعى لإيجاد مكان يؤوي له ويستقر فيه، فكان المسؤول أو الأمير يقوم بإنشاء ذلك المكان الذي يطلق عليه "الزاوية"، أو يقوم واقف بوقف مكان لهذا الغرض. على أن يكون أقرب ما يكون إلى المسجد ومصاطبه. وعند البحث في عدد تلك الزوايا نجد أن عددها يناهز الـ (35) زاوية.
نظرًا لأن اهتمامي يتركز، في الدرجة الأولى، ومنذ العدد الأول من هذه المجلة (مشارف مقدسية)، على الأماكن التي تضم المخطوطات المقدسية، فقد وجدت ضالتي في واحدة منها هي "الزاوية النقشبندية البخارية"؛ الملاصقة لباب الغوانمة (أحد أبواب المسجد الأقصى المبارك)، وهي تختلف عن الزاوية النقشبندية الأفغانية العلوية المجاورة لها.   
الزاوية النقشبندية البخارية: قصة مؤسسة مقدسية
في مقابلة من الشاب "عز الدين موسى البخاري الأزبكي"[3]؛ وهو سليل العائلة التي تحمل الزاوية اسمها، أشار إلى أن عمر الزاوية النقشبندية البخارية حوالى (400)؛ أي أنها تكون قد تأسست في القرن السابع عشر الميلادي[4]. ومؤسسها حسن بك القادم من مدينة بخارى/ أوزباكستان. ومما يعزز هذه الرواية القول الذي يشير إلى أن تأسيسها قد جاء على يد أحد أتباع ومريدي مؤسس الطريقة النقشبندية "الشيخ محمد بهاء الدين نقشبند البخاري الأصل[5].

أما الهدف من تأسيسها فكان تعليم الطريقة الصوفية النقشبندية في بيت المقدس, وكانت المركز الداعم للحجاج القادمين من أوزباكستان وجميع تركستان والهند والباكستان. وفي العهد التركي كان مخصصا لهذه الزاوية رطل من اللحم ورطلان من الخبز يوميًا، ثم استبدلت بمبلغ من المال يُدفع للقيم على خزانة الوقف[6].
كانت الزاوية تقوم على خدمة القادمين من تلك المناطق؛ كتوفير المأكل والملبس والمأوى, وكانت بمساحة كبيرة, يتم فيها حلقة ذكر كل يوم خميس، على الطريقة النقشبندية، ويطعمون سكان الحي البيلاف؛ وهو الأرز البخاري المطبوخ بطريقة تشبه "المقلوبة" الفلسطينية ولكن يوضع مع الأرز الجزر المبشور بدل الباذنجان.
في ستينيات القرن العشرين توفي الشيخ موسى البخاري, وكان نجله "عبد العزيز" خارج القدس. عاد "عبد العزيز" في العام 2000 إلى القدس، وعمل فيها على صيانة الزاوية ومتابعة أمورها واحتياجاتها، إلى أن توفي رحمه الله في العام (2010)، عن عمر يناهز (59) عامًا.
من تراث الزاوية النقشبندية البخارية: مخطوطات بلا مكان
لا يكاد الشاب "عز الدين" المذكور أعلاه يجد ريقًا يبلعه وهو يتحدث عن تلك التركة-الأمانة التي سلمه إياها والده المتوفى في العام 2010، ألا وهي تلك المكتبة القيّمة التي تتكون من: (177) مخطوطة، وحوالى (400) كتاب مطبوع تعود إلى القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين. والمخطوطات، كما هو معلوم، هي مؤلفات العلماء ومصنفاتهم، المكتوبة بخط اليد[7].




صورة للمصحف المذهّب
عندما طلبت من "عز الدين" مشاهدة هذه المكتبة وجدتها وقد تم تكديسها في مجموعة "كراتين" كبيرة، وهي معرضة للظروف والتقلبات الجوية التي تنعكس عليها بشكل سلبي وخطير، فاستعنت بالسيدة "الشيماء البديري"؛ الخبيرة المقدسية في مجال تصوير المخطوطات وحفظها والتعامل معها، فقامت بالتعامل مع بعض تلك المخطوطات، لتشير إلى أنها جميعًا تحمل علامة "الشيخ عبد العزيز موسى البخاري"، وأن هناك مصاحف أوزبكية الورق وبنسخ أزبكي؛ أي أنه أزبكي الصنع، علمًا بأن الورق الأزبكي متين لأنه مصنوع من ألياف الشجر.
رغم الظروف الموصوفة أعلاه، إلا أن رئيس الجالية الأزبكية في القدس/ المرحوم عبد العزيز بن موسى البخاري، عهد في العام 2003 إلى السيد بشير بركات القيام بمهمة فهرسة تلك المخطوطات، كخطوة أولى على طريق حفظها وصيانتها وأرشفتها وتصويرها.
أما عند التصنيف بحسب عنوان المخطوط، فقد وجد أن مكتبة الزاوية الأزبكية  تضم (179) عنوانًا، بالإضافة إلى ثمانية من المصاحف الشريفة، تتوزع حسب المواضيع، كما هو مبين في الجدول رقم -1-.



الجدول رقم -1-
توزيع مخطوطات المكتبة الأزبكية بحسب الموضوعات
الموضوع
العدد
الموضوع
العدد
المصاحف
8
السيرة النبوية
3
علوم القرآن الكريم
7
الآداب الشرعية والتصوف
17
الحديث الشريف وملحقاته
7
التراجم
2
الفقه وملحقاته
51 (منها اثنان مكرر)
الشعر
7
العقيدة
10 (منها واحد مكرر)
الإجازات
3
اللغة العربية وملحقاتها
33 (منها خمسة مكررة)
متفرقات إسلامية
6
الفلسفة والمنطق
7 (منها واحد مكرر)
مخطوطات غير عربية
21
التفسير
5


المجموع: 179 عنوانًا وثمانية مصاحف شريفة
يتضح من هذا الجدول (رقم -1-) أن أكثر المخطوطات في المكتبة الأزبكية ذات صلة بالفقه، والآداب الشرعية والأدب العربي، يليه العقيدة... وهكذا. وفي ذلك انسجام، إلى حد كبير، مع توزيع العناوين في المكتبة البديرية، التي تزيد عنه في المواضيع العلمية كالرياضيات والفلك وغيرها[8]. ولا بد من الإشارة إلى أن هذه المجموعة من المخطوطات تضم بعض العناوين النادرة أو الفريدة، مثل: "إرشاد الطالبين لتحقيق بعض شروط الواقفين" لمؤلفها "محمد طاهر الحسيني"، و"رسالة في علم التوحيد" لمؤلفها إبراهيم النبهاني.



أما عند توزيع تلك المخطوطات بحسب القرن الذي كتبت فيه، فإنه يظهر كما في الجدول رقم -2-.
القرن (هجري)
عدد المخطوطات
الثامن
1
التاسع
11
العاشر
22
الحادي عشر
32
الثاني عشر
56
الثالث عشر
62
الرابع عشر
3
المجموع
187
ويتضح من الجدول رقم -2- أن مخطوطات الزاوية النقشبندية البخارية (الأزبكية) تتوزع على الفترة الواقعة بين القرنين الثامن الهجري والرابع عشر الهجري، علمًا بأن عدد المخطوطات في القرن الثمن الهجري هو مخطوطة واحدة فقط. ولا نرى في ذلك تميزًا لهذه المخطوطات عن غيرها، إذ أن مخطوطات المكتبتين البديرية وإسعاف النشاشيبي تذهب في عمق التاريخ إلى القرن السادس الهجري. ولا بد من الإشارة إلى هذه المخطوطات تعود، في معظمها، إلى "محمد طاهر الحسيني" وقد قسمت بين "مكتبة إسعاف النشاشيبي" والمكتبة البخارية التي نحن بصددها.
الزاوية النقشبندية البخارية: خطة طموحة للأرشفة والحفظ وتعميم الفائدة
لاحقًا لمشهد المخطوطات والكتب المطبوعة الذي سبب لي صداعًا شرعت بطرح الأسئلة، تبعًا، على القيم على المكتبة، وهو السيد "عز الدين"، فأجاب على عدد من الأسئلة، واستنبطت أن عددا من الإجابات من خلال متابعتي لما كتبه المُفهرس "بشير بركات". فوجدت أن هناك مجموعة مخاطر حقيقية تتهدد تلك المخطوطات، منها:
    بعض الحبر الذي كتبت به المخطوطات مضروب بالحديد؛ مما يسبب في أكسدة الصفحات التي تحمل هذا الحبر.
    هناك رطوبة ظاهرة على معظم أوراق المخطوطات. وفي مخطوطة "رسالة الصرف" التي رقمها (143/70-ج) نلاحظ أن الرطوبة أدت إلى تحلل الحبر في بعض الأوراق.
    يوجد ثقوب من الأرضة في أوراق غالبية المخطوطات، أو في جهة الكعبية لعدد منها؛ ولا تكاد مخطوطة تخلو من هذه الثقوب. حتى أن هناك مخطوطات بحالة سيئة أتت عليها الأرضة.
    هناك مخطوطات مكتوبة تتكون من ورق رقيق.
    هناك عدد من المخطوطات بحالة سيئة لما وقع علها من رطوبة وتعفن كما في المخطوطة رقم 190/73.
رغم هذا كله، نجد أن هناك مخطوطات بوضع جيد وأخرى بوضع متوسط، وأن القليل منها من هو بوضع سئ، مما يعني أن هناك فرصة كبير لجعل هذه المخطوطات في خدمة الباحثين الفلسطينيين والعرب والأجانب، لا سيما وأنها تتوزع على مدى واسع من المباحث والمواضيع. وعندما استوضحت من القيّم على المكتبة عن توجهاته لتحقيق الفائدة المرجوة من هذه المخطوطات، كانت إجابته مشبعة بالتفاؤل والأمل، عندما أكد أن يعمل، وبشكل جاد، من أجل تحقيق النتائج التالية:
1)    معالجة كل مخطوط على حدة, مما يتطلب القيام بعمليات: الترميم، والأرشفة، والتصوير والحفظ في خزائن خاصة.
2)    إنشاء مكتبة مرخصة مخصصة للكتب الصوفية.
3)    تنفيذ برنامج فعاليات حول تاريخ الصوفية وأوزبكستان (بخاري), كفعاليات سياحية تاريخية, تركز على تاريخ الزاوية النقشبندية البخارية في القدس.
الزاوية النقشبندية البخارية: الاحتياجات الملحة
يعكف "عز الدين"، في الوقت الحالي، على إنشاء قسم مخصص للمكتبة للعمل على حفظ الكتب وإعادة تصويرها وفهرستها وترميمها وحفظها, إلى جانب مشروع تصوير المخطوطات وترميمها وحفظها. وللتخلص من المعضلات المذكورة أعلاه، لا بد من تزويد هذه المكتبة، وبشكل طارئ ومستعجل، بما يلي:
1)      المعدات والمواد والأدوات الأساسية الخاصة بترميم المخطوطات وإمكانية حفظها في حاويات (كراتين) خاصة، وخزانات خاصة لحفظها في بيئة صحية تحميها وتمنعها من التلف.
2)      ضرورة توفير الأجهزة الخاصة بالحفاظ على درجتي حرارة ورطوبة ملائمتين، ونظام ضد الحريق.
3)      ونظرًا لعجز القيّم على هذه المكتبة عن توفير أي من المطلوب أعلاه، فإن هناك ضرورة لمد يد العون والمساندة من الجهات ذات الصلة، لتخفيف هذا العبء الثقيل على كاهله.
الاستنتاجات والتوصيات
نستنتج مما سبق أن الزوايا المقدسية تشكل كنوزًا حضارية وفكرية ومعرفية، وأما بشأن الزاوية قيد النقاش، فإننا نجد أنفسنا أمام مجموعة تراثية مهمة جدا من المخطوطات التي توثق لبضع مئات من السنين للعلماء المسلمين، العرب وغير العرب، وباللغات العربية وغير العربية، وهي مخطوطات تتمتع بسمات من العمق الفكري، وجمالية الخطوط بأحبار مختلفة وبألوان جميلة، وأنواع الورق المختلف الأنواع والألوان. كما أننا أمام مكتبة "نوعيّة" متخصصة في المجال الصوفي الذي يثير شهية الباحثين للبحث حوله وفي شأنه.
لذلك؛ لا بد من النظر بجدية إلى هذا النوع من المكتبات، ليس على مستوى المخطوطات وحسب، وإنما على مستوى الكتب المطبوعة التي قلما تتكرر في المكتبات الأخرى: العامة والخاصة والأهلية الأخرى. وضرورة توفير السبل الكفيلة بجعلها مكتبة، بالمعنى الحقيقي، تضم المخطوطات والكتب المطبوعة، وهي بأحسن حال ممكن، وقابلة للاستخدام بسهولة ويسر، وفي مكان كافٍ لاستيعاب الباحثين وفي أجواء مريحة، تشجعهم على المزيد من الدراسة والبحث.
كما أنني أرى من واجب المعنيين بالشأن المقدسي، والذين يحملون أمانة متابعة شئون القدس وأهلها، الالتفات إلى أن الصراع الهوياتي القائم على أرض القدس يتطلب منا الحرص "الشديد" على كل حرف سطّره الآباء والأجداد عبر القرون الماضية، لما لذلك من دور في فضح المخططات التهويدية التي تسعى إلى إنكار المشهد الثقافي المقدسي بملامحه العربية، بالبعدين الإسلامي والمسيحي، واستبداله بمشهد "تهويدي" ينكر العمق الحضاري الإسلامي، بطابعه العالمي القادم من خلف البحار.  
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 27/04/2016م         






[1] المصطبة: هي مساحة حجرية مسطحة ترتفع عن سطح الأرض حوالى المتر وتتصل بدرجات، ويضم معظمها محرابًا صغيرًا أو حنية تؤشر باتجاه القبلة. ويوجد في المسجد الأقصى ست وعشرون مصطبة، مخصصة للصاة والوعظ والتدريس لأتباع المذاهب الفقهية الأربعة: المالكي والشافعي والحنبلي والحنفي. (انظر: دليل المسجد الأقصى المبارك (الحرم الشريف) (2013). الجمعية الفلسطينية الأكاديمية الدولية-القدس).
[2] هو "محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي". اسم العائلة: الغزالي. ومشهورٌ بـ: الغزالي. مولده: بالطابران من قرى طوس بإقليم خراسان عام  1048م، ووفاته: أيضاً بالطابران: طوس بالقرب من مدينة مشهد في شمال إيران 1111م. انظر الموقع الالكتروني (أمكن الوصول إليه بتاريخ: 29/03/2016م): http://www.ghazali.org/site-ar/gz-default-ar.htm
[3] تمت المقابلة في بيته الملاصق للزاوية النقشبندية البخارية، بتاريخ: 31/01/2016م.
[4] تشير المراجع إلى أن "عثمان بك البخاري" قام ببناء جزء منها على أرض اشتراها في نفس المكان عام 1616م.
[5] أسسها في القرن الرابع عشر. انظر: بركات، بشير (2003). فهرس مخطوطات الزاوية الأزبكية في القدس. وزارة الثقافة –الهيئة العامة للكتاب. رام الله. فلسطين. ص: 1.
[6] العصا، عزيز (2016).
[7] العصا، عزيز (2015). مخطوطات المسجد الأقصى المبارك: رحلة ترميم.. تجمع بين الألم والأمل. مجلة "مشارف مقدسية"، العدد الثالث، خريف 2015، ص: 65-72. انظر الرابط: http://alquds.pna.ps/masharef3.pdf
[8] العصا، عزيز (2016). المقدسيون يحتضنون التاريخ -المكتبة البديرية نموذجًا. مجلة "مشارف مقدسية"، العدد الرابع. ص: 26-38. انظر الرابط: http://alquds.pna.ps/masharef4/#/40

إرسال تعليق Blogger

 
Top