روز شوملي تعيد قراءة جبرا إبراهيم جبرا.. وتتبنى
"جدلية الذات والمحيط"
نشر في صحيفة القدس،
بتاريخ: 01/10/2016، ص: 17
عزيز العصا
روز شوملي؛ كاتبة
فلسطينية، قبضت على وطنها منذ طفولتها، وحملت همومه وطافت به الدنيا، دون أن تنتقص
من حقوقه عليها. فكتبت الشعر والنثر والأدب، بأجناسه المختلفة، وتربعت على سدة
قيادة العمل النسوي، فدافعت عن بنات جنسها وحققت، إلى جانب رفيقات دربها من رائدات
العمل النسوي، حقوقًا كدن يفقدنها في غفلة من الجهل واختلال التوازن المجتمعي
الذكوري بطبعه.
أما الجنس الأدبي الذي نحن بصدده للكاتبة "روز" فهو كتابها "جبرا
إبراهيم جبرا: جدلية الذات والمحيط"
الذي يشكل الإصدار الثالث لمشروع الكتاب الشعبي بدعم من مؤسسة فلسطين الغد. ويبدأ
الكتاب بغلاف يحمل إشارة سيميائية تتمثل بملامح وجه "جبرا" يطل على الوطن
العربي، وتظهر فيها فلسطين بوضوح. تلك السيميائية التي تختزل الكثير من المضامين
الثانوية في الحكاية التي تقبع بين غلافي الكتاب، وهي ذات صلة بجبرا. فجاء الكتاب
كقراءة تحليلية لكتابات "جبرا إبراهيم جبرا"
في المجالات التي كتب فيها على مدى العقود الثمانية التي عاشها في القرن العشرين
(1920-1994).
قبل الخوض في كتاب "روز شوملي"
هذا لا بد من الإشارة إلى أن "جبرا إبراهيم
جبرا" من أكثر الشخصيات الأدبية والفكرية التي نالت العديد من
القراءات والتحليلات، كما تم تسليط الضوء عليه وعلى نتاجاته الفكرية من قبل العديد
من النقاد والمفكرين، وبالمستويات البحثية المختلفة، حتى أن هناك رسائل الماجستير
والدكتوراة التي تمت ونال أصحابها درجات علمية عليا، لأنهم قرأوا جبرا وأعادوا
قراءته من زوايا فكرية ونقدية مختلفة.
بالتالي، فإن "روز شوملي"
بولوجها هذا الموضوع تكون قد وقفت أمام تحدٍ جدي، بضرورة أن تتميز عمن كتب قبلها،
لتضيف ما هو جديد إلى المكتبة العربية بشكل عام والمكتبة الفلسطينية بشكل خاص،
بخصوص "جبرا إبراهيم جبرا"،
الذي يحظى ذكره على احترام منقطع النظير بين الكتاب والروائيين والشعراء
والفنانين؛ لإسهاماته المهمة في تلك الميادين.
لعل أحد أوجه التحدي تلك أن تتمكن "روز شوملي" الإحاطة بـ "جبرا إبراهيم جبرا" إحاطة شاملة، دون أن
تترك شيئًا من المركبات الشخصية التي شكلت، بمجموعها، السمة الموسوعية التي تمتع
بها هذا الفلسطيني الهوى والهوية، والتلحمي المولد والطفولة، والمقدسي النشأة، والبريطاني
العلم والتعليم، والعراقي الإقامة حتى الوفاة. وأخال أن "روز شوملي" ما اختارت هذا العنوان لكتابها
"جدلية الذات والمحيط"، إلا استجابة، أو تفسيرًا، لتلك المكونات
والمركبات التي صنعت "جبرا إبراهيم جبرا"
وكونت شخصيته التي لا يختلف معها إلا من أراد تطويعها لأهدافه الخاصة؛ حزبيًا و/أو
فكريًا أو عائليًا...
الخ.
يتألف الكتاب قيد
النقاش من تقديم وتمهيد (مطوّل) وخمسة فصول. ولم تنسَ "روز شوملي" إلحاق الجوائز الفلسطينية
والعربية والدولية التي حاز عليها "جبرا
إبراهيم جبرا" قبل وفاته، والتي جاءت عرفانًا لهذا الكاتب
وتقديرًا لدوره الفكري والأدبي على المستويات الوطنية (الفلسطينية) والعربية
والدولية ولموسوعيته التي فرضت نفسها فنال تلك الجوائز بجدارة فكره وأدائه وحضوره
الطاغي. كما تقفل "روز شوملي"
كتابها هذا بحسن الختام والخاتمة، بذكر مؤلفات "جبرا
إبراهيم جبرا" التي تتوزع على (31) كتابًا وضعها "جبرا"، و(18) كتابًا ترجمها في مجالات
أدبية وفكرية مختلفة، إضافة إلى (7) مسرحيات لوليم شكسبير ترجمها مع مقدمات
ودراسات، كما ترجم (40) سونيتة من سونيتات شكسبير.
وبقراءة متمعنة لهذا الكتاب، وبمطالعة عامة لعدد من القراءات النقدية
الأخرى حول "جبرا إبراهيم جبرا"،
وجدتُني أمام عدد من المحاور التي ارتكزت عليها قراءتي هذه:
أولًا: "روز شوملي"
تعيد لجبرا هويته الوطنية والدينية التي كادت تتيه
بين النقاد:
ففي حين أن هناك من سعى إلى تنسيب جبرا إلى العراق؛ البلد الذي أكل فيه
وشرب وأحب وتزوج وأنجب وزرع وبنى له بيتًا شارك في تصميمه، نجد أن "روز شوملي" الفلسطينية التلحمية في كتابها
هذا تؤكد، للقاصي والداني، أن "جبرا إبراهيم
جبرا" يقاسمها المكان؛ بيت لحم، ويقاسمها الدير والكنيسة والحقول
والجبال والمغر (ص: 5).
ولم تخرج "روز" من
هذا المحور قبل أن تؤكد على أن بيت "جبرا"
وبئره الأولى وحاضنة طفولته الصاخبة التي تجمع بين المتعة بأقصى درجاتها، والعذاب
والقسوة بأشرس مستوياتها، هو في بيت لحم، وأن هذا البيت يخضع للرعاية والحماية،
وسط حالة من الهالة والتبجيل من قبل الأجيال التلحمية المتلاحقة، التي تعيد التمعن
في كل كلمة كتبها؛ لتحيلها إلى الذاكرة الوطنية، وتجعل من بعضها لحنًا.
تستشهد "روز" بأعمال
جبرا الأدبية لتؤكد أن "جبرا إبراهيم جبرا"
لم يكن يومًا إلا فلسطينياً عربياً. فهو يورد
الكثير من الحكايات والأحداث التي عايشها في بيت لحم، حيث الطفولة والنشأة
المبكرة، والقدس حيث مرحلة الصبا والشباب. كما تشير إلى أن "جبرا" كان يتابع الهم الفلسطيني وأخبار
وطنه على المستويين العربي والدولي، وتوجز بقول جبرا نفسه أنه عندما كان يدرس في
انجلترا لم تغب فلسطين عن باله لحظة واحدة (ص: 12). وفي روايته "البحث عن وليد
مسعود" استخدم "جبرا" مخزون ذاكرته عن فلسطين وأهلها؛ بطبيعتها
وأغانيها وعاداتها المختلفة (ص:
73).
كما أن هناك سؤالًا افتراضيًا "مستترًا"، لم تشأ "روز" طرحه والجدال حوله، وإنما استعاضت عن
ذلك، بالإشارة إلى الرابط الذي يربطها بـ "جبرا"؛
فهي مثله، عاشت تراتيل الكنيسة وموسيقاها، وما فيها من خشوع يجعل المرء يتوحد مع
الطبيعة، بل مع الكون، خاصة في ترتيلة "يا حمل الله الحامل الخطايا العالم،
ارحمنا (ص: 5).
ثانيًا: جبرا يتربع على عرش
الأجناس الأدبية المختلفة:
أشارت
"روز شوملي" من خلال تحليلها
لأعمال "جبرا إبراهيم جبرا"
أن هذا الأديب تربع على أكثر من عرش للأجناس الأدبية في آنٍ معا. فبعمر ثمانية عشر
عامًا كتب القصة القصيرة، وأتبعها بقصص أخرى. ويقول الشاعر توفيق الصايغ في مقدمته
"عبر الأرض البوار" التي استهلت مجموعة جبرا القصصية "عرق وبدايات
من حرف الياء" بأنها قصيدة (ص: 15، وهذا يأخذنا إلى "جبرا-الشاعر"،
الذي كتب قصائده الأولى باللغة الإنجليزية في أربعينيات القرن العشرين (ص: 19). وقد أمضى جبرا نحو
ثلاثين عامًا من القراءة والتجريب من أجل أن يحسم أشكال إبداعه الشعري، ليسميه
شعرًا حرًا" (ص: 17).
كما تربع "جبرا إبراهيم جبرا"
على عرش الرواية لدرجة أن عبد الرحمن منيف اعتبر أن التركيز على الأعمال الروائية
غيّب جوانب معينة في شخصية جبرا المبدع المتعدد (ص: 20).
ثالثًا: جبرا الموسوعي:
لقد كان
"جبرا" فنانًا تشكيليًا، إذ
يذكر في "شارع الأميرات" أنه في العام 1951 شارك في معرض فني في بغداد
بـ "ست لوحات زيتية" كان قد رسمها في فلسطين وأحضرها إلى بغداد. م يبحر
"جبرا" في مجال الفن، للحد
الذي جعل دراساته عن الفن العراقي والفنانين العراقيين (في حينه) من أهم الدراسات
الفنية العربية وأكثرها عمقًا وجدية (ص: 22). كما كان "جبرا"
صاحب حس موسيقي، وأنه انفتح على أغاني الأعراس وأغاني المواسم والصدّافين وغيرهم،
ووظّف كل ذلك في قصصه القصيرة (ص:
36)، وجعلها جزءًا عضويًا في رواياته (ص: 73). وفي بغداد أسس جبرا جمعية للموسيقى
الكلاسيكية، وأصبحت الموسيقى لديه نمط حياة (ص: 72).
وإذا ما
أضفنا إلى إبداعات "جبرا"
الأدبية والفنية أنه كان مترجمًا محترفًا في عدة مجالات، فإننا نكون قد أغلقنا
حلقة الموسوعية التي نطلقها عليه، والتي نودعها في ملف هذا المبدع الذي يبقى ملكًا
للأجيال القادمة من الباحثين.
ثالثًا: جبرا مدرسة في السيرة:
يمكنني
القول، ومن خلال المنهجية التي اتبعتها "روز
شوملي" في كتابها هذا، بأنها أنصفت الرجل ككاتب سيرة مميّز، قادر
على أن يحقق لنفسه الحضور الأبدي في نفوس الأجيال المتلاحقة من الشعب الفلسطيني
بشكل عام، وبيت لحم بشكل خاص. وأن هذا الحضور ليس افتراضيًا أو عاطفيًا أو
وجدانيًا، وإنما جاء من خلال ما تقوله "روز" من أن "جبرا" في
سيرته المحكية في "البئر الأولى" لم يكتف بالحديث عن الذات، بل يتحدث عن
المحيط الذي أثّر في هذه الذات وساهم في تشكيلها (ص: 28)، ثم تورد الأمثلة تباعًا على ذلك من خلال
استعراضها لسيرتيّ جبرا: البئر الأولى وشارع الأميرات، حيث تضع الكاتبة النقاط على
الحروف ذات الصلة بطفولة جبرا ونشأته الأولى في بيت لحم والقدس، التي تشكل النواة
الصلبة لشخصية جبرا.
وكأنّي بـ "روز
شوملي" تريد القول بأن طفولة جبرا النابعة من محيطه والمستقاة من
تجاربه الحياتية المباشرة مع ذلك المحيط، هي التي صاغت جبرا المُلهَم والملهِم،
وجبرا الموسوعي الذي حيّر النقاد وصعّب الأسئلة عليهم وهم يبحثون في ثنايا شخصيته
المتعددة الأبعاد.
كلمة أخيرة،
قبل أن
نغادر، لا بد من القول بأن هذا الكتاب يعتبر دراسة قيّمة غاصت فيها "روز شوملي" في دهاليز "جبرا إبراهيم جبرا" وتفاصيله ذات الأبعاد
الهويّاتية والوطنية التي شكّلت شخصيته الموسوعية السمات والخصائص. وقد رسمت
للقارئ هذا المسار منذ البدايات الأولى لكتابها، بأنها ذاهبة مع "جبرا-الفلسطيني-
التلحمي" و"جبرا السرياني"، ومن هذين المكونيْن الرئيسيين تشكل
"جبرا" القصصي والروائي والشاعر والموسيقي والفنان التشكيلي.
لقد
انطلقت "روز شوملي" في
كتابها هذا وانتهت منه دون الإشارة إلى الخلافات والاختلافات حول جبرا ونتاجاته
الأدبية. يذكر القاص الفلسطيني "مصطفى الولي"[1] أنه نشأ بين النقاد سجالات، وتباينت رؤاهم وتقييماتهم
لروايات جبرا، المثقلة بأعباء "الأيديولوجيا" كقاعدة للنقد الأدبي، خاصة
الأيديولوجيات "الثورية. وقد ذهب البعض للنيل من انتماء جبرا لقضية بلده
فلسطين، واعتبروه قد ابتعد عن قضايا "الشعب الكادح"
وهموم"الأمة".
بعد هذه القراءة لكتاب "روز
شوملي" هذا، ولأن محيط "جبرا" هو فلسطين وأهلها، ولأن ذات جبرا
فلسطينية أولًا وأخيرًا وحتى الرمق الأخير من حياته، فإنني أقترح جعل هذا الكتاب
على رفوف مكتبات مدارسنا، وتوفيره لطلبتنا لكي ينهلوا منه المعرفة التي تربض بين
غلافيه، ولكي يكون حاديهم ودليلهم في كتابة السيرة ودقة الملاحظة، فكم نحن بحاجة
إلى كتابة سيرة كل منا، لكي تشكل سيرنا، بمجموعها، سيرة شعب وقصة تاريخ وحضارة على
أرضنا التي تجتاحها نيران المحو وإلغاء الهوية بالقوة بل بالقوة المفرطة.
الآن، ونحن نتجه نحو بيت لحم
عاصمة للثقافة العربية في العام 2020، سنكون بأمسّ الحاجة إلى صياغة مواطن يمتلك
مستوى متقدمًا من الثقافة حول قادة الفكر على المستويات الوطنية والعربية والدولية
الذين انطلقوا من بيت لحم، والذين كان لمواقفهم الريادية دور في أن تكون بيت لحم
عاصمة الثقافة العربية.
فلسطين، بيت لحم،
العبيدية، 13/08/2016م
[1] مصطفى الولي. نقّاد جبرا إبراهيم جبرا بين الأدب والأيديولوجيا. مجلة شؤون فلسطينية. العدد 259، ص: 247-255.
إرسال تعليق Blogger Facebook