0
الزكاة:
منّة من الأغنياء.. أم عبادة مالية؟!
نشر في مجلة الإسراء. تصدر عن دار الإفتاء الفلسطينية. العدد 130، ت. الأول وت. الثاني/ 2016، ص ص: 85-91
                                                         عزيز العصا
مقدمة
الزكاة هي الركن الثالث من ديننا الحنيف وقد وردت كلمة الزكاة في اثنتين وثلاثين آية، وجاءت مقرونة بالصلاة وبصيغ مختلفة تتراوح بين أوامر العبادة كقوله تعالى ("وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ")[1]، أو أن إيتاءها والالتزام بها هو صفة ملازمة للمؤمنين او الالتزام وعمق الايمان لدى المسلم كقوله تعالى : "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة: 277)[2]. كما اعتبر عدم إيتاء الزكاة صفة مناظرة للمشركين والكافرين، لقوله تعالى: "وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ*الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ" (فصلت: 6-7).
وتزيد الزكاة عن كونها عبادة لتكون أداة تنموية يقدمها الاقتصاد الإسلامي علاجا لما تعانيه المجتمعات الإنسانية من انعدام العدالة في التوزيع للثروة والدخل. وهي تجاوز توفير الطعام والكساء، وتتخطى ذلك لإيجاد قوة عاملة بتأمين الصنعة أو الحرفة لكل قادر عليها مانعة بذلك التكسب والتسول للارتقاء من الرعاية الاجتماعية إلى التمكين الاقتصادي. والزكاة هي الكفيل الوحيد بإلغاء ظاهرة الفقر في المجتمع المسلم، والسماح فقط بظاهرة التباين في الرزق تبعا للقدرات الإنتاجية، فبالزكاة يعرف المجتمع المسلم صفة الغنى ولا يعرف صفة الفقر.
الزكاة في اللغة: تدل على البركة، والنماء، والزيادة، والطهارة، والصلاح. والزكاة في الاصطلاح الشرعي: حق واجب مقدر في مال مخصوص، لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص. أي أنها حق واجب مقدر من قبل الشرع، في المال الذي تجب فيه الزكاة، يخرجه صاحب المال إلى مستحقّي الزكاة، في الوقت المقرر شرعًا[3].
الزكاة عبادة مالية.. تزكي الفرد وتنعش المجتمع
رغم المقاربة بين الصلاة والزكاة، إلا أن كثيرًا من العلماء يصرحون بالفروق بين هاتين العبادتين؛ فالجانب المالي في الزكاة يدفعها عن مشابهة الصلاة، لوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون[4]. أي أن الزكاة عبادة "ماليّة"، يجب على المسلم تأديتها عن طيب خاطر تقربًا إلى الله سبحانه، وأن تأديتها تعود على الفرد المسلم بالثواب من الله سبحانه وما يتبع ذلك من الجزاء بالجنة التي أعدت للمتقين المؤمنين المصلّين المزكّين الصائمين.
أما بالنسبة لأثر الزكاة ودورها في المجتمع، فقد بحث العلماء في ذلك، ليخرجوا بنتائج عظيمة وكثيرة، منها[5]:
1)    تطهر المزكّي من الشح والبخل‏، وتطهر قلب الفقير من الغل والحسد على الغني.
2)    تحقيق التضمان والتكافل الاجتماعي.
3)     صمام أمان في النظام الاقتصادي الإسلامي، لتنميته ومدعاة لاستقراره واستمراره.
4)    الدعوة إلى الله: إذ تصرف الزكاة للمؤلفة قلوبهم- وهم كفار يرجى إسلامهم، أو مسلمون يرتجى ثباتهم.
صرف الزكاة: نظام ربّاني علينا تنفيذه
أما بشأن الأوجه التي يتم فيها صرف الزكاة، فقد قال تعالى: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (التوبة: 60). يتبين من هذه الآية الكريمة أن هناك ثمانية مصارف رئيسية يجب التحري من أجل صرف الزكاة فيها، وهي: الفقراء، المساكين، العاملين على الزكاة،المؤلفة قلوبهم،الرقاب[6]،الغارمين[7]، في سبيل الله وابن السبيل. وهناك، من العلماء، من يرى أن الأصناف الثمانية ذكرت لبيان الاستحقاق والجواز، لا على سبيل الفرض، وهو رأي الجمهور[8].     
منذ فجر الإسلام كان للزكاة الدور الأكبر والرئيسي في تسيير اقتصاديات الأمة، وهي التي يعتمد عليها في التخطيط الاستراتيجي للدولة الإسلامية. ونظرًا لأن للزكاة شروطها الدقيقة، التي لا يجوز خدشها أو التهاون فيها، فإنه لا بد من وضع النظم الخاصة بها، مثل: القاموس الزكوي، وفقه موارد الزكاة، وفقه مصارف الزكاة، ومحاسبة الزكاة[9]. وهذا ما دأبت عليه الدول العربية والإسلامية؛ بإنشاء مؤسسات خاصة للزكاة.
فلسطين: أزمات عاصفة.. انعكست على الزكاة
أنعم الله على فلسطين بنعمتي الإسراء والمعراج، والفتح العمري؛ مما عزز مكانتها الدينية وجعلها في بؤرة الحضارة الإسلامية، ومحط اهتمام كبير من قبل الخلفاء والقادة المسلمين على مرّ العصور. ففي فترة الحروب الصليبية، وما بعدها حتى مئات السنين، اهتم العرب والمسلمون بفلسطين اهتماماً كبيراً، اتخذ أشكالًا مختلفة، منها([10]): المنافسة بين السلاطين والحكام والأمراء المسلمين وكبار القوم الأثرياء، في بناء المؤسسات العامة، كالمدارس والرُبُط والزوايا والأنزال والسبل والمستشفيات والحمامات، وأوقفوها جميعاً، وخصصوا للإنفاق عليها من عوائد المزارع والمتاجر الأموال الوفيرة.
وقد أدى هذا الاهتمام إلى انتشار الأوقاف على أرضها، بشكل مكثف، حتى أضحى 16-17% من مساحتها الكلية وقفا خيريا؛ لدرجة أن هناك قرى بكاملها هي وقف خيري، ومن أشهر الأوقاف في فلسطين: وقف بيت المقدس، ووقف تميم الداري، ووقف خليل الرحمن، ووقف أحمد باشا الجزار ووقف النبي روبين[11].
وعند النكبة (في العام 1948)، كانت نسبة الأوقاف الإسلامية من الدولة-الجنين حوالى 20%، تشمل: أراضي، ومساجد، ومدافن وغيرها من الأملاك، فقامت بمجموعة من الإجراءات لضمان السيطرة التامة عليها([12]). بأن تعاملوا "بشراسة" مع الأوقاف الإسلامية، دون غيرها من أوقاف الديانات الأخرى، بما يضمن عدم قدرة المسلمين على تحقيق أي حالة (حراك) مناوئ للاحتلال([13]).
هكذا، تشتت الوطن الفلسطيني، وتمزقت أواصر القوانين والممارسات الزكوية والوقفية التي كانت تحكمه، فتفرقت بين المناطق المحتلة في العام 1948 وما واجهته من ويلات، وبين فلسطين الوسطى التي أطلق عليها "الضفة الغربية" التي أتبعت للملكة الأردنية الهاشمية، وقطاع غزة الذي أُتبع للإدارة المصرية.
ثم كانت النكسة في العام 1967 و التي اضطر معها العاملون في مجال الزكاة العمل في أكثر الظروف خطورة، حتى مجيء السلطة الوطنية الفلسطينية، ثم تتدرج  الأحداث حتى انتفاضة الأقصى، وما بعدها، التي أفرزت واقعًا مجتمعيًا واقتصاديًا جعل صانعي القرار يتوجهون نحو الإبداع في استثمار الزكاة من أجل تأكيد السيادة على الأرض الفلسطينية، وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الذي يسعى إلى اقتلاعه من أرضه بالسبل كافة.
الزكاة في فلسطين: من النظرية إلى التطبيق
لقد أدى الواقع الفلسطيني الموصوف أعلاه  إلى فكرة إنشاء صندوق للزكاة في العام 2007 يتبع وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ويرتبط به لجان خاصة للزكاة في المحافظات الشمالية. وتمكن الصندوق، من خلال اللجان، من الوصول إلى التجمعات السكانية في مختلف مواقع الجغرافيا التي يغطيها الصندوق، وذلك بهدف التعرف على الأسر التي تنطبق عليها معايير الصندوق. ومن الناحية التطبيقة-العملية، تقوم اللجان بالإعمال التالية[14]:
أولًا: جمع الزكاة والصدقات والتبرعات.
ثانيًا: البحث الاجتماعي.
ثالثُا: كفالة الأيتام.
رابعًا: تقديم المساعدة المالية: وتكون بناء على المسح الاجتماعي ويتم ذلك بتقديم العون المادي للعائلات المحتاجة والفقيرة:
خامسًا: المساعدات المالية التعليمية.
سادسًا: المساعدات الصحية.
سابعًا: المشاريع التأهيلية لمساعدة العائلات الفقيرة لإخراج المحتاجين من طور الرعاية الاجتماعية إلى طور التنمية الاجتماعية.
ثامنًا: مشاريع الصدقة الجارية والتي توقف وقفا خيريا مثل عمارة  الزكاة والنور في نابلس وعمارة الجمل في طولكرم.
تاسعًا: إقامة مصانع تأهيلية يعود ريعها للفقراء.
وفي العام 2010 أصدرت دار الإفتاء مائة وثلاث فتاوى تتعلق بالزكاة، وهي: 1) موارد الزكاة: المال الذي تجب فيه الزكاة، وزكاة الدّيْن، وزكاة مال التجارة والصناعة، وزكاة المحاصيل الزراعية، وزكاة الحلي. 2) مصارف الزكاة. 3) أوقات الزكاة. 4) صدقة الفطر. 5) متفرقات: وهي عشر فتاوى تتعلق بمتفرقات، مثل: الجمع بين زكاة المال والصدقة الجارية، وإخراج الزكاة خارج بلد المزكّي، والتحايل لأخذ الزكاة. (عن: فريق عمل (2010). فتاوى الزكاة (كتيّب). دار الإفتاء الفلسطينية)[15].
الخاتمة والتعليق
نستنتج مما سبق أن الزكاة، وفق المفهوم الشرعي، هي جزء من عقيدة المسلم، والتي عليه أن يؤديها عن طيب نفس، بلا منّة ولا عبوس؛ لأنها عبادة كباقي العبادات، وهي تأخذ طابع العبادة المالية التي تُدفع لمستحقيها، في وقتها، وبالمقدار الذي فرضه الخالق سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز، وما اشتق منه من صيغ اجتهد بها علماء الأمة عبر العصور.
كما نستنج، أيضًا، أن الزكاة على المستوى الفلسطيني تحتل مكانة خاصة تُشتق من خصوصية الحالة الفلسطيني، حيث الصراع على هذه الأرض يأخذ شكل صراع الوجود والهوية، الأمر الذي يعني أنه على المُزكّين، من أبناء الشعب الفلسطيني أولًا ومن أبناء الأمة الإسلامية ثانيًا، المسارعة إلى توجيه عبادتهم المالية هذه نحو فلسطين، بالقدر الذي تمثله قضية شعبها من أثر في كرامة الأمة وكبريائها وحضورها بين الأمم.
  





[1]ورد ذلك في السور التالية: البقرة: 43، البقرة: 83، البقرة: 110، النساء: 77، الحج: 78، النور: 56، المجادلة: 13، المزمل: 20،
[2]وردت بنفس المعنى في السور التالية: النساء: 162، المائدة: 55، التوبة: 18، التوبة: 71، الحج: 41، النور: 37، النمل: 3، لقمان:4، البيّنة: 5.
[3] زيدان، عبد الكريم (2004). الزكاة وأحكامها في الإسلام. مؤسسة الرسالة للنشر والتوزيع. بيروت. لبنان. الطبعة الأولى. ص: 9.
[4]المشرفي، خالد بن سعيد (2012). القراءة التعبدية في الخطاب الفقهي –دراسة في فقه الزكاة-. الانتشار العربي. بيروت. لبنان. الطبعة الأولى. ص: 68.
[5]الغفيلي، عبد الله (2008). نوازل الزكاة. بنك البلاد ودار الميمان للنشر والتوزيع. الرياض. المملكة العربية السعودية. ص: 48-56.
[6] نظرًا إلى أن مصرف ‏(‏الرقاب‏)‏ ليس موجودًا في الوقت الحاضر فإنه ينقل سهمهم إلى بقية مصارف الزكاة حسب رأي جمهور الفقهاء ويرى البعض أنه ما زال قائم بالنسبة لأسرى الجنود المسلمين (عن: موقع الإسلام الدعوي والإرشادي).
[7] أ - المدينون لمصلحة شخصية لا يستغنى عنها. ب) المدينون لمصلحة اجتماعية‏, ‏ وهم من استدان لإصلاح ذات البين‏, ‏ بتحمّله الديات أو قيم المتلفات الواجبة على الغير للإصلاح بينه وبين مستحقيها‏, ‏ ويعطى هؤلاء من الزكاة ولو كانوا أغنياء قادرين على السداد‏. ج) المدينون بسبب ضمانهم لديون غيرهم‏, ‏ مع إعسار الضامن والمضمون عنه‏. د- يعان من الزكاة المدين بدية قتل خطأ إذا ثبت عجز العاقلة عن تحملها وعدم قدرة بيت المال على تحملها (عن: موقع الإسلام الدعوي والإرشادي).
[8]المشرفي، خالد بن سعيد (2012). القراءة التعبدية في الخطاب الفقهي –دراسة في فقه الزكاة-. الانتشار العربي. بيروت. لبنان. الطبعة الأولى. ص: 146.
[9]انظر: "موقع الإسلام الدعوي والإرشادي"/ وزارة الشؤون الإسلامية والوقف والإرشاد (آخر مشاهدة 06/04/2016م):
[10]الخالدي، وليد (1987). قبل الشتات: التاريخ المصور للشعب الفلسطيني (1876-1948). مؤسسة الدراسات الفلسطينية. بيروت، لبنان. ص: 30.
[11]صلاحات، سامي (2011). الأوقاف الإسلامية في فلسطين ودورها في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي. مركز الزيتونة للدراسات والنشر. بيروت، لبنان. ص: 34-37.
[12]دمبر، مايكل (1992). سياسة إسرائيل تجاه الأوقاف الاإسلامية في فلسطين 1948-1988. مؤسسة الدراسات الفلسطينية. بيروت، لبنان. طبعة (2). ص:64-72.
[13]المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني (2006). مركز الدراسات المعاصرة. ص: 173-174.
[14] طهبوب، حسان، والعصا، عزيز (2016). صندوق الزكاة الفلسطيني: من النظرية إلى التطبيق. في الزكاة عبادة وعدالة تنموية: وقائع مؤتمر بيت المقدس الإسلامي الدولي السابع (10-11/5/2016). تحرير: محمود سعيد الأشقر وخالد علي الزواوي. وزارة الأوقاف والشؤون الدينية. دولة فلسطين. ص: 306-319.

[15] فتاوى الزكاة (2010)، صادر عن دار الإفتاء الفلسطينية. السلطة الوطنية الفلسطينية. كما يمكن مطالعته على الرابط: http://www.darifta.org/press/zakah/zaka.pdf

إرسال تعليق Blogger

 
Top