المتحف
الروسي في أريحا:
آثار
من البيزنطي حتى الإسلامي.. أمانة علمية للباحثين.. ورعاية للجمّيزة التي تدخل
ألفيتها الثالثة
نشر في صحيفة القدس، بتاريخ: 04 تشرين أول 2016
عزيز
العصا
من
المعلوم أن أريحا هي واحدة من أقدم المدن في التاريخ، أي أنها من أقدم الأماكن
التي بنيت علها الحضارة البشرية. أما على المستوى الفلسطيني، فإن أريحا تشكل عنق
الزجاجة الفلسطينية؛ فالسيطرة على أريحا معيار للنتصار والسيطرة على فلسطين. فهي التي
تتحكم في الطريق العابر إلى الأردن، ومنها إلى بقية أنحاء الوطن العربي. وبالتالي،
فإنه على أرض أريحا وفي باطنها قصة الإنسانية بأعرق وأقدم أشكالها، وأكثرها نضجًا
وتراكمًا عبر العصور. وعلى أرض أريحا أثر لجميع الديانات التي انتشرت على أرض
فلسطين.
من
أكثر الأنبياء علاقة بأريحا، وفق معلوماتنا، هو السيد المسيح عيسى بن مريم عليه
السلام. ومن أكثر القصص التي وصلتنا حول هذه العلاقة، تلك القصة المتعلقة بشجرة
الجميز التي شهدت حوارًا بين المسيح عليه السلام و"زكّا العشار". وقد
كان "زكّا العشّار" من جلاوزة عصره، حيث كان يشغل منصب جابي الضرائب عند
الرومان، فكان ظالمًا للناس ويثقل عليهم، لأن له نصيب مما يجني منهم لصالح الدولة
الرومانية. ويشير ملخص القصة أن المسيح عليه السلام، تمكن من إقناع ذلك الجبّار
الظالم بأن يعود عن ظلمه، فأصبح مؤمنًا ورعًا تقيًا؛ وأعاد لكل من ظلمه أربعة
أضعاف ما جنى منه.
لذلك،
أصبح المسيحيون يرون في تلك الجميزة الرابضة وسط أريحا، علامة فارقة بل معلمًا
مهمًا من معالم أريحا؛ ينظرون إليها، ويتعاملون معها، بالكثير من التقديس والمهابة
والاحترام والنظرة المغايرة لها عن باقي الأشجار الباسقة الضخمة الأخرى التي تنتشر
على أرض أريحا.
أما
الروس فلهم باع ليست قصيرة في شراء الأراضي واستملاكها في فلسطين، لا سيما في القرن
التاسع عشر في العهد العثماني، بخاصة بعد حرب القرم بينهما التي توقفت في العام
1856م، بعد ثلاث سنوات من القتال الشرس، فأتبعت تلك الحرب بأن حصل الروس من
السلطان العثماني على ما مساحته (32) دونمًا من الأرض في موقع المسكوبية الحالي في
القدس، كانت هِبَة من السلطان العثماني للقيصر الروسي، فأنشأ الروس عليها مجموعة
مبانٍ فخمة ومتعددة الأغراض، وبإدارة روسية، شكلت ما كان يوصف "دولة داخل
دولة"[1].
أما
من الناحية الدينية، فقد تعاظم الدور الروسي في فلسطين، في النصف الثاني من القرن
التاسع عشر، حيث برزت الامبراطورية القيصرية كحامية للأرثوذكس من رعايا الدولة
العثمانية[2]. كما تشير المعلومات
إلى أن الأرشمندريت أنطونين ترأس البعثة (الروحية) الروسية من سنة 1865م إلى سنة
1894م[3]. وعلى
هذه القاعدة تم شراء قطعة أرض في أريحا في العام 1883م بمساحة (11) دونمًا تضم
الجمّيزة المذكورة أعلاه، ذات البعد العقائدي المسيحي، والتي يقدر عمرها بحوالى
(2200) عام، كما أن تلك القطعة تضم رفات عدد من الراهبات اللواتي كنّ يقمن على تلك
القطعة بجوار الجمّيزة. وفي العام 2010 شرع الروس ببناء متحف على هذه القطعة، يأخذ
شكله الهندسي شكل الكاتدرائية، أسموه "المتحف الروسي".
لقد
قمت بتاريخ 29/09/2016م بالتوجه، برفقة الباحثة د. رحاب العيساوي، إلى المتحف
الروسي في مدينة أريحا، فكان في استقبالنا السيد "حسن أبو سمرة" الذي شرح
وأجاد الشرح والوصف حول محتويات المتحف، والتي تركزت على ملامح رئيسية، أهمها:
فأما الأول، فهو مجموعة من
الصور التي توثق للعلاقة الروسية الفلسطينية في القرن التاسع عشر، لوفود روسية، كانت
قد زارت القدس والخليل ونابلس والناصرة والجليل وغيرها. وتُظهر الصور التي
شاهدناها أن تلك الوفود هي جحافل من الحجاج الروس للأماكن المقدسة في فلسطين، مثل:
جبل القفزة في الناصرة؛ وهو الجبل الذي خطط الحكام الرومان للإلقاء بالسيد المسيح
عن قمته للتخلص منه.
ويظهر من بين تلك
الصور، صورة تعود إلى أوائل القرن العشرين، لوضع حجر الأساس لكنيسة بئر يعقوب
الشهيرة في مدخل مدينة نابلس.
كما يظهر في تلك الصور
مدى الاهتمام الذي كانت توليه الدولة العثمانية لأمن الحجاج الروس وراحتهم، فقد
ظهر في الصور رجال أمن عرب فلسطينيين، ورجال أمن منطقة القوقاز كالشيشان (وذلك
لإتقانهم اللغة الروسية).
الحجاج الروس في زيارة إلى قبة
الصخرة المشرفة، ويظهر حارس فلسطيني-عثماني في الصورة الأولى وحارس شيشاني-عثماني
في الصورة الثانية
وأما الثاني، فهو تلك الآثار
والدلائل والمؤشرات على حضارة عظيمة وحلّة جميلة مرت بها هذه المدينة التاريخية
العريقة؛ وتتمثل في قطع من الفسيفساء، والقناة والبئر القديمين، والعملات القديمة
التي تعود لعمق تاريخي يزيد عن الألفي عام ونيّف، ولعل ما يستحق الوقوف عنده تلك
المصافي الحجرية التي تتخلل القناة؛ بهدف تنقية المياه وتصفيتها لتكون قابلة للشرب
كمياه صحية خالية من الملوثات، كما أنه كان يمكن لعمال الصيانة فتح القناة
وتنظيفها من الأوساخ، رغم أنها تمر من تحت الفسيفساء الجميلة التي كانت تغطي ذلك
المكان الفاخر الذي يزهو بقاطنيه من عِلية القوم.
صورة قناة مياه قديمة والمصفاة
التي تتخللها في قطعة الأرض الخاصة بالمتحف الروسي، وتعود إلى العصر البيزطي
كما تشير الحفريات
التي أجراها الخبراء الروس ودائرة الآثار والتراث الثقافي لوزارة السياحة
الفلسطينية، إلى القيمة التاريخية العظيمة لقطعة الأرض هذه، والدور الحضاري
للمسيحيين الذين بنوا عليها مجمعًا زراعيًا وكنيسيًا، والذي استمر خلال العهد
الإسلامي؛ حيث أدخل الخلفاء الأمويين والعباسيين ومن جاء بعدهم ملامح الحضارة
الإسلامية على جميع مناحي الحياة في هذه المنطقة.
وأما الثالث، فهو ما تتمتع به شجرة الجمّيز،
التي يطلقون عليها شجرة السيكومورا (شجرة النبي زكريا)، ذات السمات التاريخية
الموصوفة أعلاه، والتي تربض آمنة مستقرة في الزاوية الشمالية الغربية لحديقة
جميلة، تزخر بالأشجار والشجيرات والنباتات المختلفة الأنواع والألوان، ذات الأرضية
الإنجيلية الخضراء، بل اليانعة الاخضرار.
وقد استوقني عند تلك
الشجرة أنها بدت تزهو بأوراقها الخضراء النضرة، وثمارها الناضجة وغير الناضجة التي
تنتظر من يستخدمها ويحسن استخدامها لمعالجة العديد من الأمراض الجلدية، كالبهاق
وغيره من الأمراض، لا سيما وأنها تتمتع بهالة من القدسية والطمأنينة لأوراقها
وثمارها؛ كونها الشاهد على وجود المسيح عليه السلام، وصلاح أمر "زكّا
العشار".
ولا
يمكن للزائر الحذق، القارئ لما بين السطر، مغادرة المكان قبل التوقف
"معمقًا" عند تلك الجهود التي بذلها الخبراء الروس بشأن هذه الجمّيزة؛
تلك الشجرة العجوز المعمّرة التي تدخل ألفيتها الثالثة، عندما قاموا بحفر عدد من
الآبار التي تجمع المياه وتجعلها قريبة من جذورها؛ لكي توفر لها الرطوبة الكافية
لتجديد خضرتها ونضارتها واكتمال نضج ثمارها. ولم يتوقف أمر رعاية تلك الجمّيزة عند
ذلك الحد وإنما يلاحق العلماء أي ثغرة تنشأ في الساق بسبب عوامل الزمن؛ بإغلاقها
وتعقيمها ومنع أي إمكانية للحشرات والطفيليات الدخول إليها، حتى أغصانها الممتدة
إلى مسافات بعيدة عنها، لم يتركوها لكي تعبث بها الرياح التي يمكن أن تكسرها
وتفصلها عن جسم الشجرة الأم، وإنما قاموا بوضع روافع لها تمكنها من الصمود والبقاء
لتأخذ دورها في حمل الأوراق وتغذية باقي أجزاء الشجرة بسهولة ويسر. و
الصورة اليمنى: تجويف ناشئ في ساق
الجميزة، وقد تم طليه بدهان خاص وتعقيمه لحماية مكونات الساق من أي عدو خارجي.
الصورة اليسرى: جذع الجميزة يستند
على عمود لحمايته من الانكسار
دروس
وعبر،
لا يمكنني مغادرة هذا
المكان قبل الإشارة إلى أنني قرأت فيه، أننا أمام مجموعة من الخبراء والباحثين
الذين يسعون إلى تزويدنا بالمعلومات الصحيحة والدقيقة، بمنتهى الأمانة العلمية،
والاعتراف التام بالإبداعات الحضارية لكل من مر، أو استقر، في ذلك المكان. وبين
الصور والآثار، وبين الأشجار والشجيرات عددًا من الرسائل ذات الأبعاد التاريخية
والوطنية والدينية والجمالية. كما أنني قرأت أم الرسائل؛ وهي تلك المتعلقة بكيفية
انتصار الأمم والشعوب لتاريخها وحضاراتها، وقطع المسافات الطويلة، وبذل الجهود
المضنية من أجل البحث عن الهوية الوطنية والقومية والمحافظة عليها، وجعلها بارزة
وواضحة بين أمم الأرض.
هذا ما فعله الروس،
من خلال المتحف الموصوف أعلاه؛ فقد جاؤوا من خلف البحار منذ نحو مائتي عام،
والدولة العثمانية في حالة تراجع وضعف، من أجل الحصول على موطئ قدم على هذه الأرض،
تحت عناوين مختلفة، حتى أنه لا تكاد مدينة فلسطينية تخلو من آثارهم. وها هي فلسطين
الآن تشهد حركة نشطة لهم، ببناء وتشييد المعالم الحضارية الروسية المختلفة، بنكهة
معاصرة، والتي يرعاها ويحتضنها الرئيس الروسي نفسه، وليس أقل من ذلك المستوى.
أما على المستوى
الوطني، فإن هناك دروسًا عديدة من هذا المتحف، لا بد من اقتباسها والتوقف عندها،
بالدراسة والتحليل، ليس على مستوى إنشاء المتاحف والمحافظة على الآثار الحضارية
والعمرانية وحسب، وإنما ما يتعلق بالأشجار المعمّرة التي تنتشر على طول الوطن
وعرضه، والتي أعرف منها: شجرة البدوي في الولجة التي قدر العلماء اليابانيون عمرها
نحو (5,000) عام، وخروبة العشرة في العيسوية التي يُعتقد أن السيد المسيح عليه
السلام قد اجتمع تحت ظلها مع تلامذته العشرة.
إذا كانت الزيتونة محاطة
برعاية رجل فاضل من أبناء الولجة هو "صلاح أبو علي"، فإن خروبة العشرة تعاني
من الإهمال الشديد، بل محاولات العبث بها من قبل الاحتلال بشكل خاص، وأن العناية
بها لا تتجاوز أن تقوم النسوة بربط "حجاب" تتمنى في أمنية ما عن طريق
تلك الشجرة المباركة! ويبقى السؤال أمام صانعي القرار على المستويات المختلفة
كالسياحية والثقافية والزراعية: أليس من الواجب علينا بذل المزيد من الجهد للحفاظ
على هويتنا الوطنية على أرضنها، كما يفعل الروس وغيرهم من أمم الأرض
وشعوبها؟! لا سيما وأن هناك هوية أخرى،
تتمثل بالاحتلال "الاسرائيلي" تشكل تهديدًا حقيقيًا لهويتنا، بل لوجودنا
بأكمله على هذه الأرض.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية 02/10/2016م
إرسال تعليق Blogger Facebook