المعمر أبو نهاد جاد الله
نُشِر في صحيفة القدس بتاريخ 06 آب 2017 ص16
خلاصة القول،
المُعمّر المقدسي محمد جاد الله
"الصورباهري":
رافق عبد القادر الحسيني.. ويتمتع بحفظ
التاريخ وبسرده
عزيز العصا
المقدمة والتقديم
محمد محمود جاد الله "أبو نهاد جاد الله"؛ مواطن مقدسي، صرخ صرخته الأولى على صور باهر (من قرى القدس)، بجوار المسجد الأقصى المبارك قبل ست وتسعين
سنة من الآن. زاره العديد من الصحفيين وكتبوا عنه ووثقوا له؛ بالصوت
والصورة والكلمة المكتوبة. ورغم ذلك، أشار عليّ صديقي "حامد أبو طير"
مدير مكتبة المسجد الأقصى المبارك، بضرورة مقابلة هذا الرجل، لقناعته بضرورة أن
يوثّق لهذا الفلسطيني-المقدسيّ المعمّر؛ لما يمتلك من دقة المعلومات واتساعها
وشموليتها.
تواصلت مع "أبو
نهاد جاد الله"، فوجدته وقد تقدم ليس على أحفاده بل على أحفاد أحفاده
في استخدام التكنولوجيا؛ بأنه يواكب روح العصر باستخدامه لمنظومة التواصل
الاجتماعي "الفيسبوك" بنجاعة وبكفاءة عالية، دون الاتكاء على أحد. ولعل
في ذلك الرسالة الأولى من الرسائل التي يحرص "أبو
نهاد جاد الله" على توجيهها للأجيال التالية؛ بأن العلم والمعرفة
والسعي إليهما لا يتوقف عند عمر أو زمن محددين، بل هي كنهر الماء الجاري المتدفق
الذي لا تتوقف مياهه عن الجريان، طالما في المنبع ماء يشق الصخر ويتدفق بإرادة
الله وتوفيقه.
خطّطتُ للّقاء، بإحكام، شاركني فيه الشاب الكريم المضياف
الصورباهري "نادر نمر". لم أفاجأ بما وجدت عليه "أبو نهاد جاد الله" من همة ونشاط؛ فقد سمعت
عنه الكثير مما يشير إلى أن هذا المسنّ لم يعد يلتفت إلى ساعة العمر؛ فالأعمار بيد
الله. ويتعامل مع الماضي ليس مجرد ذكريات جامدة، وإنما يبث فيها الحيوية التي تجعل
منها إضاءات جادة وفاعلة لمن يرغب بتوظيف التاريخ والتجارب الماضية في التخطيط
للمستقبل، وأعني بذلك القادم من الأيام بشأن الصراع على هذه الأرض.
بدأ "أبو نهاد جاد الله" حديثه بعبارة "أنا أتمتع بحفظ التاريخ"، فأيقظ في داخلي عوامل الشوق البحثي، وجعلني
متلهفًا للاستماع والتوثيق، ليس على مستوى مقال يجتزئ رحلة العمر لهذا المعمر،
وإنما التخطيط الجاد لإصدار كتاب وفق منهجية بحثية رصينة، تجمع أعمال الرجل
وأقواله وتجاربه، وتبقيه على رفوف المكتبات الفلسطينية والعربية، لكي ينهل منها
الباحثون. وأما هذا المقال فقد أردت منه الإشارة، باختصار، إلى
مفاتيح صناديق هذا المعمر دون "حرق" كل ما فيها من معلومات، حتى تودَع
في مرجع علمي رصين.
الطفولة والنشأة والتعليم:
يروي "أبو
نهاد جاد الله" عن طفولته قبل نحو قرن من الزمن، أنه تعلم في مسقط
رأسه "صور باهر" في صفوف المرحلة الابتدائية على أيدي المشايخ: خليل
حمادة وسالم أبو كف حتى العام 1934، حيث حضر من طولكرم المعلم "عبد الرحيم"
وأصبح مديرًا للمدرسة التي يدرس فيها. وحيث كان لوالده علاقة بالحاج أمين الحسيني
مفتي القدس وبرئيس الهيئة العربية العليا والحزب العربي الفلسطيني -رئيسه عبد الحق
الأتاسي- أرسله والده إلى المدرسة الإبراهيمية بالقدس، فبدأ من الصف الرابع، ومن
المعلمين الذين علّموه: نهاد أبو غربية, وبهجت أبو غربية، وأحمد على العيساوي (التربية
الرياضية), والشيخ فارس إدريس (الدين والقرآن)، وبقي في تلك المدرسة حتى المترك.
في
فندق الملك داود: شاهد على عملية التفجير
بعد تخرجه من المترك عمل في فندق الملك داود، ويصف "أبو نهاد
جاد الله" عملية تفجير ذلك الفندق، التي تمت في 22/07/1946، كشاهد
عيان على تلك اللحظ، مشيرًا إلى ما عرفه حول كيفية إدخال المتفجرات إلى الفندق
وتفاصيل ما جرى في حينه: تم إدخال المتفجرات في أباريق حليب كبيرة، أُدخِلَت من الباب
الفرعي الخاص باستقبال بأغراض المطبخ. وقبيل الانفجار انبرى بعض الأشخاص لطردنا
حتى وصلوا قاعة الريجنسي؛ وهو نادٍ ليلي داخل الفندق مخصص للاحتفالات. ويبدوا أنهم
وضعوا الألغام في النادي؛ إذ أن الانفجار قص الفندق عند تلك النقطة؛ فهُدم قسم
السكرتاريا التابع لبريطانيا وبقي الأوتيل. حتى مكان الكوي والغسيل الذي كان
قريبًا من الريجنسي، فانهدم واستشهد فيه اثنان من الفلسطينيين: واحد من صور باهر
(محمد عبد القادر مشايخ) وآخر من حلحول.
رحلة
العسكرة: البدايات
يروي "أبو
نهاد جاد الله" أنه بعد انفجار فندق الملك داود، تم في العام 1947
تشكيل مجموعة كبيرة من شباب القدس والقرى المجاورة (منها صور باهر), وتوجيههم للتدريب
في سوريا؛ من اجل العودة لتدريب الشباب في فلسطين، وذلك لعلم الهيئة العربية
العليا بنية الإنجليز مغادرة فلسطين, مما دفع القيادة العربية إلى التخطيط للإعداد
والاستعداد لمرحلة ما بعد انتهاء "الانتداب".
تلقت مجموعة "أبو
نهاد جاد الله" تدريبًا جادًا وفاعلًا على مدى ستة أشهر، وخرّجهم المرحوم
عبد القادر الحسيني الذي كان قد اجتمع بوفد من جامعة الدول العربية في دمشق؛ بهدف
جلب السلاح للفلسطينيين، فكانت وعودات الجامعة بلا وفاء!
البريطانيون
تركوا كل المعدات لليهود.. واليهود يبدأون المناوشات مبكرًا
يشير "أبو نهاد جاد
الله" إلى أنه كان يعمل في معسكر صرفند؛ وهو أكبر معسكرٍ بريطاني
في فلسطين في ذلك الحين، وكان مشرفًا على الأكل في نادي الضباط. ويشهد بأنه عندما
انسحب البريطانيون من المعسكر، تركوا كل شئ من معدات ثقيلة كالدبابات والمصفحات،
ومن أسلحة خفيفة وذخائر، وحتى الملابس. وقد استلم اليهود ذلك المعسكر من
البريطانيين كما هو، دون أي نقص. ما يعني أن البريطانيين غادروا المعسكرات الأخرى
"بجلدهم" وتركوا كل شئ لليهود الذين كانوا يعدوا العدة لإنشاء دولتهم
على أرض فلسطين.
وأما بالنسبة لبدء المعارك، فبعد عودة المجموعة المتدربة
من سوريا, في أواخر 1947، وقبل رحيل بريطانيا، بدأ اليهود مناوشات مع العرب في عدة
أماكن، وحصل في صور باهر أن قام اليهود بنسف مطحنة "محمد فيضي النابلسي"
وهدموا بيتًا قريبًا منها لصاحبه عبد القادر بكيرات. وتم ذلك في اللحظة التي لم
نكن مستعدين للقتال ولا متيقظين ما يكفي لنوايا اليهود، حتى أن العرب كانوا يستخدمون
باص إيجيد للوصول إلى القدس؛ فتمت عملية النسف بالراحة وأدت النتائج التي أرادها
اليهود.
رجع عبد القادر الحسيني إلى القدس, فتم تشكيل الجهاد
المقدسي في فلسطين، وفي صور باهر تم تشكيل رقم السرية الرابعة التابعة للفوج
الثالث للجهاد المقدسي.. وحصل نفس التسلسل
في القدس والقرى المجاورة. ويفيد "أبو نهاد
جاد الله" أنه بدأ في السرية، وعدد أفرادها (105) أفراد، برتبة ملازم
أول، وقائد السرية هو "جاد الله الخطيب".
يؤكد "أبو نهاد جاد الله" أن الجيش المصري كان
متدربًا ومؤهلًا والفلسطينيين لا يعرفون السلاح ولا يتقنون استخدامه، الأمر الذي
جعله هو وابن عمه "علي محمود الخطيب" الذي تدرب معه في سوريا، على تواصل
دائم مع القائد المصري-الإخواني محمود عبده ومع الضباط المصريين الآخرين. وتم
إنشاء خندق في صور باهر، فرح به المصريون فأنشأوا عليه الدشم (الاستحكامات)
الكافية لتعزيز هذا الخندق، وتم توظيفه في المعارك القادمة، لا سيما وأن الخندق
المحفور في صور باهر كان في مواجهة خمس مستعمرات يهودية، هي: المستعمرة الزراعية (في
المكبر)، مستعمرة الخربة للجنود المسرحين، مستعمرة تلبيوت، مستعمرة أرنونة ومستعمرة
رمات رحيل.
معارك
طاحنة.. يشارك فيها الإخوان من مصر والأردن
كانت قيادة الجهاد، ومعهم الإخوان المسلمون المصريون، في
مدرسة ذكور صور باهر. فتم تزويد الدّشم الموصوفة أعلاه بهاتف مربوط مع القيادة في
المدرسة، ولكل دشمة إسم. وبعد صلاة المغرب من كل ليلة، كان يتم توزيع الجنود على
الدّشم، بواقع ثلاثة جنود لكل دشمة: اثنان من الجهاد المقدس والثالث من الإخوان
المصريين المتطوعين، مهمتهم مراقبة ما يجري في المستعمرات اليهودية، وحراسة المكان
من الغرباء، وكان القائد الإخواني "محمود عبدة" يزود جنود كل دشمة بكلمة
سر، ويحرص أن تشمل كلمة السر الحرف (ح)، ويروي "أبو
نهاد جاد الله" بأنه عندما
سأل محمود عبده عن السر في ذلك، أفاد عبده بأنه يستحيل على يهودي لفظ هذا الحرف؛
مما يعني انكشاف أمره كعدو في المنطقة حتى لو لفظ كلمة السر.
يؤكد "أبو نهاد جاد الله" أن المصريين كانوا يمدون
الجهاد المقدس بما يلزم من عتاد وسلاح، ويقول: بعد نسف الطاحونة الموصوف أعلاه
شرعنا بمهاجمة المستعمرات وتبادل القصف معهم (الرماية). وفي
تلك الأثناء حضر (17) متطوعًا من "إخوان الأردن" بقيادة (عبد اللطيف أبو
قورة).
كان هناك معارك كر وفرّ مختلفة بين الطرفين يتم فيها
احتلال المستعمرة ثم استعادتها من قبل اليهود فاستشهد عدد من أبناء صور باهر، وسقط
شهيد من المصريين كان مهندساً وهو من اخوان سوريا إسمه (ضيف الله مراد).
مرافق
لـ "عبد القادر الحسيني" وشاهد عيان على استشهاده
أكد "أبو نهاد جاد
الله" على أنه كان من ضمن المجموعات المقاتلة إلى جانب المرحوم عبد
القادر الحسيني ليلة استشهاده، وكان معهم كامل عريقات. حيث بدأت المعركة حامية
الوطيس بعد صلاة المغرب، وسيطروا على المنطقة عندما حرقوا مصنع "أليسار"
للكاوتشوك، فساد الظلام الدامس على المكان، إلا أن العدو كان يمتلك أسلحة حديثة
ودقيقة الإصابة عند استخدامها بكفاءة، فداهمتهم قذيفة مورتر من العدو أصابت
الحسيني إصابة مباشرة، فقضى شهيدًا رحمه الله. ويسرد "أبو نهاد" شهادته
على تلك المعركة، بشهادة محفوظة بخط يده، وفق تسلسل مشبع بالوجع ومرارة خسارة رفاق
الدرب.
من
ضابط مقاتل إلى مناضل نقابي
وهو يتحسر على تلك الأيام، يشير "أبو نهاد جاد الله" إلى صورة له مع ممثل
مصر في الاتحاد الدولي. ففي العام 1964، أجريت
انتخابات في اتحاد النقابات الأردنية، فحصل"أبو
نهاد جاد الله" على أعلى الأصوات، وانتخب رئيسًا للاتحاد، إلا أنه
اعتذر بسبب التزامه بالعمل في فندق الأمبسادور،
وتنازل عن المنصب لزميله الذي حصل على المرتبة الثانية في عدد أصوات، فكان المرحوم
(محمد جوهر) من السواحرة الغربية.
خلاصة القول،
ونحن نغادر ذاكرة "أبو
نهاد جاد الله" وذكرياته لا بد من الإشارة إلى أنني وجدت أثناء
لقاءاتي معه، أننا أمام ذاكرة حية تزخر بالبيانات والبيّنات والمعلومات الصحيحة
والدقيقة، التي تجد نفسك تنهلها من مصدرها الأصلي، وليس "نقلًا عن"؛ ما
يعني أن الاستمرار في التقصير معه وترك ذاكرته وذكرياته مشتتة على قصاصات ورق
موزعة في أكثر من حقيبة، هو إضافة، كمية ونوعية، لقصورنا البحثي و/أو التوثيقي الذي
عانينا منه نحن كجيل، ويبدو أننا مصرون على نقل تلك المعاناة إلى الأجيال اللاحقة
لنا.
وإذا سألتني عن وجه التقصير، أقول: لا بد من جمع كل ما
لدى هذا المعمِّر من أوراق ووثائق، وتسجيل ما أمكننا من ذكريات وتفاصيل، نحن الآن
بحاجة لها، وستتأجج الحاجة لها كلما مرّ الزمن وابتعدنا عن الأحداث التي عاشها
وعايشها هذا المعمِّر اليقظ الذي لم يتمكن منه الزمن والحمد لله. على أن يتم صياغة
كتاب كامل يوثق لما يقوله "أبو نهاد جاد الله"
من ألف القول إلى يائه، مدعمًا بالوثائق والصور الفوتوغرافية وغيرها من وسائل
التوثيق وأدواته.
فلسطين،
بيت لحم، العبيدية، 03/08/2017م
إرسال تعليق Blogger Facebook