البلدة القديمة في الخليل:
من كسر القَيْد.. وأعاد للمكان حيويته
وجماله؟!
نشر في صحيفة
القدس المقدسية، بتاريخ: 24/08/2017، ص: 13
عزيز
العصا
المقدمة والتقديم
منذ اللحظة الأولى لدخول الاحتلال الإسرائيلي
إلى الخليل، وبسط سيطرته عليها، شرع في محاولاته لتهويد المدينة، بل اعتبارها
مدينة يهودية، ليس للآخرين فيها أي حقوق تُذكر. وصبّ جام نيرانه التهويدية على
البلدة القديمة من الخليل. والبلدة القديمة، يتوسطها الحرم الإبراهيمي، وتبلغ
مساحتها نحو كيلو متر مربّع واحد، تضم العديد من الحارات، بالإضافة إلى
شارعيّ الشلالة والشهداء (يمتد من باب الزاوية حتى الحرم الإبراهيمي، ويقع على هذا
الشارع: العين الجديدة، سوق الذهب، خان شاهين، حوش الكيال و سوق الخضار المركزي).
تبلغ مساحة الحرم الإبراهيمي (2040)
مترًا مربعًا،
و يُحاط من الخارج بسور عظيم يسمى الحير أو السور السليماني، وقد بني من دون سقف
ويبلغ ارتفاعه عشرة أمتار من الأرضية الداخلية، ويعود إلى عهد هيرودوس الكبير
(37-4 ق. م.)، ويتشكل السور من كتل حجرية ضخمة يزيد طول بعضها على سبعة أمتار
مصقولة على شكل مداميك[1].
وفي مقال سبق أن شاركت فيه مع الزميل
وليد أبو سرحان، نشِر في صحيفة القدس (12/06/2008، ص: 20) اعتبرنا الخليل شاباً،
والبلدة القديمة هي الأم التي كان لِلَبَنِها الدور في أن ينمو الطفل، ويشتد عوده
ليصبح شاباً قوياً صلباً يواجه المِحَن.
وفق هذا المفهوم، وما يحمله من دلالات
الأحقية في الملكية، والكرامة الوطنية، والعلاقة الوجدانية والعاطفية، المشبعة
بالحميمية، تصبح مغادرة "الخليلي" لـ "بلدته القديمة" أو
إخراجه منها عنوة، و بقوة السلاح، ليست أقل ألمًا ووجعًا من انتزاع النخاع من
العظم، والظفر من الجلد، والبؤبؤ من العين. وهذا ما يجعلنا نتمركز في هذا المكان،
ونكرر السؤال عنه وعن حاله وأحواله، ونتساءل عن مصير أبناء البلدة القديمة، وعن
أوضاع مساكنهم التي هجّروا منها، أو هجروها خوفًا على حياتهم، أو أولئك الذين بقوا
في بؤرة الحدث؛ حيث التهديد اليومي على حياتهم، فرادى وجماعات.
عندما فتشنا عن ملاذ للوصول إلى هذا
المكان المقدس –دينيًا ووطنيًا-، وتتبّع أخباره، وجدنا "لجنة إعمار
الخليل"، التي تتولى أمور البلدة القديمة من النواحي كافة، فحظيت بلقاء
"معمّق" مع مديرها العام أ. عماد حمدان "أبو ضياء"، بتاريخ:
10/08/2017، ففتح الملفات التي تشير إلى حجم العمل الضخم الذي أنجزته اللجنة عبر
ما يزيد عن عشرين عامًا من الزمن، مما مكننا من الاطلاع على معلومات مهمة للغاية،
نضعها أمام القارئ، على شكل عناوين منفصلة، لكي نتوصل، معًا، إلى نتيجة مفادها أن
على هذه الأرض وفي هذا الشعب من هو أمينٌ على المصلحة العامة وحريص عليها حرصه على
نفسه وولده وماله:
البلدة القديمة في الخليل: بين وجع
الاستيطان.. ورعب القنّاصين
عندما طبقت اتفاقية أوسلو انسحب
الجيش الاحتلالي إلى خارج المدن الفلسطينية، ما عدا القدس والخليل الخليل، كما تتشابه
الخليل مع القدس من حيث الهجمة الاستيطانية؛ فإذا كانت المدن الأخرى محاطة
بالمستوطنات من الخارج، فإن الخليل (كما القدس) تعاني من استيطان داخلي، يمزق
أحشاءها: خمس مستوطنات متقاربة وقريبة من الحرم الإبراهيمي. وهذه المستوطنات هي: 1) تل الرميدة، 2) الدبوية، 3) مدرسة
أسامة بن منقذ، 4) سوق الخضار (الحسبة)، 5) جوتنك سنتر، يوجد بينها اتصال وتواصل تشكل
جيبًا استيطانيًا يهوديًا داخل البلدة القديمة، بحيث يشمل الحرم، ثم تلتحق جميعها
بالمستوطنة السادسة الأكثر شراسة المسماة "كريات أربع" التي بدأت نواة
صغيرة ثم تمددت حتى أصبحت قريبة جدا من الحرم الإبراهيمي.
لقد أدى تمسك الاحتلال بوجود هذه
المستوطنات إلى تأخير الاتفاق على إدارة مدينة الخليل لنحو ثلاث سنوات عن المدن
الأخرى، حتى انتهى الأمر باتفاقية مؤقتة يتم تقسيم المدينة بموجبها إلى (H1 وH2)؛ بحيث أن
(H1) تحت السيطرة الفلسطينية الكاملة، و(H2)
تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية. وجزء من البلدة القديمة يقع في (H2).
من الآثار المباشرة لتلك
المستوطنات، أنه تم إغلاق نحو (1600) محل تجاري من اصل (1829) محل؛ (512) محل منها
أغلقت بأمر عسكري، والباقي مغلقة لانعدام الحركة التجارية، مثل: سوق الذهب الذي
كان يعج بالحركة الدائمة.وكانت هذه المحلات مصدر رزق لآلاف المواطنين.وعندما تمكنت
إحدى اللجان، من خلال الوحدة القانونية، من دخول أحد المحلات المغلقة من أجل تفقده
بوجود صاحبه، وجدوها مستخدمة من قبل المستوطنين للسكن، كما تم تخريبها.
كان هناك (18) مدخلًا تقليديًا،
عبر تاريخ المدينة، توصل إلى البلدة القديمة والحرم الإبراهيمي، تم إغلاقها و/أو
التحكم فيها ببوابات الكترونية أو إسمنتية، تمنع دخول الفلسطينيين بسياراتهم، ويتم
التحكم فيها بما يسهل حركة الإسرائيليين وسيارات المنظمات الدولية والصليب الأحمر.
وعليه، فإن المواطن القاطن في البلدة القديمة، عليه حمل أغراضه، مهما ثقلت ومهما
كان حجمها، ومهما كان نوعها؛ أسطوانات غاز، أو أثاث أو غير ذلك.
كما أنه على العجزة والمرضى
والحوامل والمقعدين، حتى أن هناك حالات ولادة كثير تمت في الشارع. من جانب آخر، وفي
ظل الرعب والخوف الدائمين من أي حركة من قبل المستوطنين، وما تعنيه من خطر الموت المحقق
على يد قناص يترصد أو مستوطن يحمل حجرًا يلقيه على رأسه فجأة، فإنه على المواطن
الخليلي في البلدة القديمة قطع مسافات طويلة جدًا للانتقال بين أي نقطيتين في
بلدته؛ بسبب المنع الدائم من المرور في العديد من الشوارع والدخلات والأزقة.فهناك
نقطتان على شارع الشهداء يحتاج المرء لقطع المسافة بينهما إلى ثلاث دقائق، أصبح
الزمن الآن طويلًا جدا؛ بسبب تضاعف المسافة التي على المواطن الاستدارة بها كي يصل
هدفه.
ومن المثير للحنق والاشمئزاز أن
يضطر هؤلاء، من جميع الأعمار، لاستخدام سلالم مركبة على الشبابيك، أو التنقل من
سطح إلى سطح حتى يتمكن من مغادرة البلدة والعودة إليها، في أوضاع غير مقبولة
ومهينة للنفس البشرية. كما أـن الأجهزة الأمنية والعسكرية الاحتلالية التي يقدر
عدد أفرادها بما يزيد عن (1500) فرد يفردون عضلاتهم، ويصبون جام حقدهم على الأطفال
الذين يتم اعتقالهم و/أو مطارتهم وملاحقتهم بشكل دائم، وما يعنيه ذلك من حالة
اضطراب وقلق دائمين تعيشهما الأسر.
أضف إلى ذلك اعتداءات المستوطنين
الذين يقطنون الطوابق العلوية لتلك المباني والقناطر التي في معظمها تعود إلى
العصور الأيوبية والمملوكية والعثمانية، برمي الحجارة والقاذورات والأوساخ، مما
اضطر المسؤولين إلى وضع الشبك فوق الشوارع والطرقات التي يمر منها المواطنين حماية
لهم من الأذى الذي يتعرضون له.
ونتيجة لتلك الظروف اللاإنسانية،
وغيرها من الأسباب الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، غادرت العديد من العائلات
مساكنها، وأصبحت البلدة القديمة شبه مهجورة.
لجنة إعمار الخليل: التأسيس والمهمات
نظرا لضرورات الصمود، وعدم إخلاء
المكان للمستوطنين ولمؤسسات دولة الاحتلال، فإنه كان لا بد من تشكيل مؤسسة تتمكن
من إنقاذ الموقف والعمل على تمكين المواطنين من الاستمرار في العيش في مساكن
الآباء والأجداد.
في العام 1996، أصدر رئيس دولة فلسطين المرحوم ياسر عرفات قرارًا بتشكيل
"لجنة إعمار الخليل"، بهدف الحفاظ على
التراث الثقافي و إعادة إحياء البلدة القديمة؛ عبر ترميم مبانيها وإعادة استخدام
المهجور منها وتأهيل بنيتها التحتية، والحفاظ على التراث الثقافي وعناصر الوحدة
التكوينية والنسيج العمراني. كما تهدف إلى تحسين الظروف المعيشية للسكان من خلال
ترميم البيوت السكنية، وربط البلدة القديمة بالجديدة، وتقديم الخدمات المختلفة
التي تساهم في تنمية شروط السكن والعمل.وبالنتيجة، يتم تنشيط الحركة التجارية
والاقتصادية فيها، وزيادة الحركة السياحية المحلية والوافدة، وتوفير مشاريع حيوية
لتشغيل السكان للأيدي العاملة من أجل مكافحة البطالة والفقر. وفي العام 2009، أصدر رئيس دولة فلسطين محمود عباس مرسوماً رئاسياً بشأن
إعادة تشكيل هذه اللجنة. .
ووفق ما هو مذكور أعلاه، يمكن
النظر إلى لجنة الإعمار على أنها تقوم بدور حكومة مصغرة في إدارتها للبلدة القديمة
من الخليل. وأما حجم الصعوبات التي تواجهها فإنها تكون بقدر حجم العقبات
والتعقيدات التي تعترضها، يوميًا، في صراعها المباشر مع الدولة العبرية، بما
تمتلكه من قوة وقدرة على الفعل على الأرض.
لجنة إعمار الخليل: الإنجازات وإعادة إحياء
المكان
بحسب السيد حمدان فإنه عندما
استلمت اللجنة مهامها كان عليها مواجهة البلدة القديمة كمبانٍ خالية ومتصدعة
ومهدومة، فقامت بوضع خطة عمل مُحكمة ودقيقة انتهت بترميم (1300) شقة سكنية خلال
عشرين عامًا (1996-2016). وكانت الخطة تقتضي استئجار البيت من مالكيه، وفي
غالبيتهم ورثة بأعداد كبيرة لنفس المنزل تصل إلى الجيل الثالث أو الربع الذي يضم
حوالى (30-40) وريثًا يتوزعون بين من توفي ومن سافر أو غير ذلك، مما سبب العمل
المضني والبحث الدقيق والشامل للتوصل إلى اتفاقيات قانونية دون المساس بحقوق
الورثة.
بعد أن يقع الاختيار على المبنى/
العقار، يتم استدعاء أصحاب الصلة فيه؛ للتفاوض معهم على السناريوهات المختلفة: كأن
يسكنوه هم أنفسهم بعد الترميم مقابل تغطية تكلفة الترميم وفق تعهدات يتم الاتفاق
عليها، أو ان يتم تأجيره لآخرين بالمجان،
كما يتم تغطية مصروفات الكهرباء والماء والتأمين الصحي المجاني والإعفاءات
الضريبية؛ وذلك كله لتشجيع المواطنين على العودة إلى البلدة القديمة وإعادة
إشغالها. ومن الجدير الإشارة إليه أنه تم تأهيل الشوارع والطرقات والأزقة، وفق
المواصفات العالمية بأرقى أشكالها وصورها، كما تم ترميم وتأهيل المعاصر التاريخية
والحمامات العامة التاريخية أيضًا، وحدائق للأطفال وغيرها.
لقد أدى ذلك إلى عودة العائلات
بالفعل، كما شجع الآخرين على تقديم الطلبات للجنة للحصول على مساكن لهم في البلدة
القديمة، إذ أن هناك المئات من الطلبات ينتظر أصحابها رد اللجنة لتوفير مساكن لهم.
ويشير السيد حمدان إلى أن اللجنة كانت تبحث عمن يسكن في البيوت المرممة، لدرجة
أنهم كانوا يتبادلون التهاني عندما يتم اسكان أي أسرة في البلدة القديمة. أما
الآن، فقد ارتفع عدد القاطنين فيها من (400) نسمة إلى (7500) نسمة (يشكلون 3% من
سكان مدينة الخليل البالغ عدد سكانها 250 ألف مواطن).
اما الآن، فإن لجنة الإعمار تركز
جزءًا كبيرًا من جهدها في صيانة المساكن المأهولة وتوفير الخدمات المختلفة
للساكنين. كما أصبحت تتابع توفير الخدمات الصحية؛ كعيادات الأسنان والعيادات
الطبية المختلفة، وتزويد الأسر بمستلزمات الإسعاف الأولي، وطفايات الحريق،
والخدمات التربوية؛ وتزويد المدارس العادية، بغرف صفية مؤهلة وفق المواصفات
العالمية ومزودة بالمختبرات ومستلزمات التدبير المنزلي (لمدارس الفتيات)، كما تم
إنشاء مدرسة تدريب مهني في البلدة القديمة، ورياض الأطفال، والحضانات.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد،
وإنما تقوم لجنة الإعمار بمتابعة احتياجات الفرد والجماعة والمجتمع في البلدة
القديمة؛ فتعقد لهم دورات تدريبية وتأهيلية في مجالات مختلفة؛ مثل: بناء القدرات،
وطرح البرامج التوعوية الخاصة بالعلاقات الاجتماعية لمجتمع البلدة القديمة، التي
لم يعد سكانها موزعين على أحواش، ولكل حوش جذر واحد لقاطنيه، وإنما أصبحت الأحواش
تضم أسرًا من عائلات مختلفة ومن خلفيات اجتماعية واقتصادية متنوعة؛ ما يعني ضرورة
خلق حالة من الانسجام والتواصل الاجتماعي، وحسن الجوار بينهم.
لضرورات المحافظة على المواطنين،
وفي محاولات جادة لكبح جماح المستوطنين والسلطة المحتلة التي تحميهم بكل السبل،
وبواقع ثلاثة رجال أمن لكل مستوطن، فإن اللجنة أخذت على عاتقها رصد ومتابعة
الاعتداءات التعديات والممارسات العدوانية اليومي الناجمة عن هذا الواقع المؤلم،
وأن الدائرة القانونية في اللجنة تتابع رفع القضايا القانونية أمام المحاكم
المختلفة.
بعد هذا الإنجاز الحضاري المتمثل
في إعادة ترميم وتأهيل المكان والمساكن والسكان، فإنه ليس من الترف الانتقال إلى
التطوير والتنمية السياحية، فتم إنشاء مسار سياحي ينطلق من الحرم الإبراهيمي،
ويشمل المعاصر (الزيتون والسمسم) والزوايا والتكايا، وتوفير ما يتطلبه الأمر من
مواقف للسيارات ويافطات وإعلانات، بالإضافة إلى إنشاء فندق تم تضمينه لجمعية مسار
إبراهيم، كي يقف على رجليه كمشروع سياحي. والمحطة الأخرى، الأكثر تحديًا أمام
اللجنة، هي دورها مع بلدية الخليل في إعداد ملف "ترشيح البلدة القديمة من
الخليل" لليونسكو، حتى احتلت مكانها على قائمة التراث العالمي، والتي سوف
نتطرق إليها في مقال قادم، يضاف إلى ما نُشِرَ على صفحات هذه الصحيفة الغراء حول
تربع البلدة القديمة على لائحة التراث العالمي.
ختامًا،
لا يمكن المغادرة قبل
الإشارة إلى أن المراقب والمتابع لما يجري في البلدة القديمة من الخليل، ومن يتجول
بين أزقتها وحاراتها، ينتابه مشاعر متناقضة؛ فمن جانب الاحتلال هناك محاولات جادة
وحثيثة، لا تتوقف أبدًا، بهدف الاستيلاء على المكان ومحو هويته الأصيلة والأصلية
العربية والإسلامية. ومن الجانب الآخر تجد لجنة الإعمار والمؤسسات الأخرى –الرسمية
والشعبية- المساندة لها والداعمة والتي تشكل معها علاقات تكاملية، كل بحسب
اختصاصه، يقومون بأداء واجباتهم الوطنية اتجاه البلدة القديمة وأهلها وقاطنيها.
أقول الوطنية، بهدف الإشارة إلى أنني لم أجد مجرد موظفين ينظرون إلى الساعة وهم
يتثاءبون بانتظار العودة إلى البيت، وإنما لمست –وبشك واضح- من مختلف المستويات
الوظيفية شعورًا عاليًا بالمسؤولية العالية، وما يتطلبه الأمر من العمل الدؤوب
والمتواصل من أجل إنقاذ هذا المكان من براثن التهويد، واستعادة ما ضاع منه،
باعتباره أمانة للأجيال القادمة، وليست ملكًا خاصًا يمكن التنازل عنه أو التهاون
فيه.
عزيز العصا
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 16/08/2017م
[1] ثابت، جاد
(2017). مدينة الخليل القديمة: أبجدية الاحتلال والتراث المقاوِم. مجلة الدراسات
الفلسطينية. بيروت. لبنان. العدد (111). ص: 51-59.
إرسال تعليق Blogger Facebook