الهجرة النبوية الشريفة:
إعداد واستعداد.. وعودة إلى الوطن
نشر في صحيفة
القدس، بتاريخ: 22/09/2017، ص: 15
عزيز
العصا
كل حدث جرى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، مهما صغر أو كبر، وكل
قول أو فعل قام به صلى الله عليه وسلّم شكّل السّنّة النبوية الشريفة التي تعدّ،
بعد القرآن الكريم، قاعدة عقائدية وفكرية ومنهجية لأبناء الأمة. وإذا ما علمنا بأن
الهجرة النبوية الشريفة هي الحدث الأكبر والأهم الذي أرّخ لولادة الأمة. وها نحن
نحتفل ببدء العام الهجري (1439)؛ الذي يعني أن هذه الأعوام "القمريّة"
قد مرّت على ذلك الحدث الذي غيّر التركيبة الديمغرافية والاجتماعية والسياسية والعمرانية
للعالم أجمع. وتأتي
هذه المقالة، وهي مقتطعة من مقالتي في مجلة الإسراء (العدد 136)، للبحث في
مفهوم الهجرة والجلاء عن الأوطان، وكيفية المعالجة وفق المدرسة المحمّدية.
لم تكن الهجرة النبوية لمجرد البحث عن ملاذ آمن، أو للبحث عن مكان يضمن
للمهاجرين العيش الرغيد والاستمتاع بعيدًا عن الوطن –مكة- التي قال فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم عند هجرته: "والله
إنك لخير أرض الله وأحب أرضٍ إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك". ويدلل هذا الحديث الشريف على أن خطة رسول الله صلى
الله عليه ويسلم هي العودة إلى "أحب أرض الله إليه" والتي لا يوجد على
وجه كوكب الأرض ما يشكل لها بديلًا.
كما
أن هناك العديد من الآيات القرآنية التي ربطت بين الهجرة وكل من الإيمان والجهاد
في سبيل الله، كما أن للمهاجرين مآثر وكرامات وسمات خاصة جدا، إذ أكرمهم الله
سبحانه وتعالى بأن بالمغفرة والرزق الكريم، وأن من أوذي منهم وقُتِل فهو شهيد عند
ربّه له جنات النعيم. كما كان هناك فئة أخرى لا تقل عن المهاجرين أهمية في حمل
الرسالة والمحافظة على ديمومتها، وهم الأنصار الذين هم من آوى وواسى بالسكن
وبالمال والتأييد وتوفير أجواء الطمأنينة والاستقرار، وتوفير الأجواء الكافية لأن
يتمكن المهاجرون من إعادة تنظيم أنفسهم وترتيب خططهم وخطواتهم القادمة في مواجهة
الأعداء والتخلص منهم، للإفساح لنشر الدعوة، ليس في جغرافيا الهجرة والمهاجرين
وحسب، وإنما لإعلاء كلمة الله على مستوى البشرية جمعاء، مصداقًا لقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ
بَشِيرًا وَنَذِيرًا" (سبأ: 28).
في السنة الأولى للهجرة انشغل المسلمون
بتنظيم أحوالهم الدينية والدنيوية كبنائهم المسجد النبوي، وأمور معايشهم، وتنظيم
أحوالهم السياسية: كعقد التآخي بينهم، وموادعته اليهود المساكنين لهم في المدينة؛
كي يأمنوا شرورهم. كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإجراء تعداد سكاني في السنة
الأولى من الهجرة للمجتمع الإسلامي المكون من المهاجرين والأنصار، فبلغ عدد
المحاربين منهم (1500) رجل، فأطمأن المسلمون بعددهم هذا، لأنهم كانوا قبل لا
ينامون إلا ومعهم السلاح خوفًا على أنفسهم. أضف إلى ذلك قيام الدولة الإسلامية
الفتية بعقد عدد من المعاهدات مع القبائل المجاورة.
بهذا، يكون الصف المؤمن قد التأم وتكامل
واجتمعت عصبة عصية على الانكسار، أيًا كان مستوى قوة الأعداء واقتدراهم. فكان لا
بد من فكّ هذا الحصار وتهشيمه، بل واختراقه، حتى عمق الأعداء وصولًا إلى العودة
إلى الوطن الأم، والاستمرار، قُدُمًا، في نشر الرسالة وفق التكليف الإلهي المنزل
في كتاب مبين.
وبعد
كقوله تعالى: "أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا
وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ" (الحج: 39) شرع محمد صلى
الله عليه وسلّم بالتخطيط للقتال، من أجل توطيد مكانة الدولة، فاتجه نشاطه صلى
الله عليه وسلّم نحو إرسال السرايا، والخروج في الغزوات وصولًا إلى غزوة بدر
الكبرى، التي اعتمد فيها صلى الله عليه وسلّم على نفسه ضمن الإمكانات المحدودة
المتوفرة لديه وقتئذ؛ فلم يتوجه إلى الفرس ولا إلى الروم ليطلب المساعدة، ولم يكن
–عليه الصلاة والسلام- تابعاً لأي من الدولتين، ولم ينسق معهما، ولم يتذلل لهما،
ولم يتنازل عن أي حق من حقوقه المشروعة.
كان من نتائج غزوة
(معركة) بدرٍ اشتداد ساعد المسلمين وقوتهم، ودخول عدد كبير من مشركي قريش في
الإسلام. كما كسب المسلمون مهارات عسكرية، وأساليب جديدة في الحرب والقتال، وانتعش
حالهم المادي والاقتصادي بما أفاء الله عليهم من غنائم، بعد بؤس وفقر شديدين داما
تسعة عشر شهرًا، فأصبحوا قوة يُحسب حسابها في بلاد العرب. ولم يتوقف الأمر عند هذا
النصر المؤزر؛ وإنما استمرت السرايا والغزوات والمعارك حتى فتح مكة في السنة الثامنة
للهجرة.
خلاصة القول،
عاد الرسول صلى الله
عليه وسلّم إلى "أحب بلاد الله إليه"، وأعاد التمركز والتموضع من جديد،
لا لترف العيش ورغده، وإنما للاستمرار في نشر رسالة الإسلام؛ فأُتبع فتح مكة بكل
من: غزوة حنين والطائف في السنة الثامنة للهجرة، وغزوة تبوك (في السنة التاسعة
للهجرة). وفي السنة العاشرة للهجرة حجّ صلى الله عليه وسلّم حجة الوداع، وفي السنة الحادية عشرة للهجرة انتقل رسول الله صلى الله عليه
وسلّم إلى بارئه عز وجل، وقد ترك الأمة على المِحجّة البيضاء؛ ليلها كنهارها لا
يزيغ عنها بعده إلا هالك –والعياذ بالله-. فانطلق الصحابة والخلفاء، رضوان الله
عليهم، من بعده لنشر الدعوة حتى أضحت دولة الإسلام لا تغيب عنها الشمس؛ من الاتساع
وترامي الأطراف.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 20/09/2017م
إرسال تعليق Blogger Facebook