1
نزهة الرملاوي في مجموعتها القصصية "عشاق المدينة":
تتماهى مع الرواية والشعر.. وتحفظ للمكان مهابته
نشر في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 29/09/2017، ص: 16
                                                         عزيز العصا
نزهة الرملاوي؛ تربوية وكاتبة ومثقفة مقدسية، متخصصة في اللغة العربية، وتحمل الماجستير في التاريخ، معروف عنها تفاعلها الدائم مع الأحداث التي تجري في القدس، وتتابع الشأن الثقافي من ندوات وأنشطة فكرية، بخاصة ندوة اليوم السابع المقدسية.
وأما العمل الأدبي الذي نحن بصدده لـ "نزهة رملاوي"؛ فهو مجموعتها القصصية "عشّاق المدينة" في طبعتها الأولى، الصادرة عن "مؤسسة الناشر للدعاية والإعلان"، في العام 2017. تبدأ بغلاف يحمل ملامح القدس العتيقة، بقباب مساجدها وكنائسها وبيوتها المتزاحمة لحد الالتصاق. ويربض بين الغلافين (155) صفحة من القطع المتوسط، يتوزع عليها خمس وعشرون قصة، تتقارب غالبيتها في حجمها (بين أربع إلى ثماني صفحات)، كما أن إسنادها الزمني يعود إلى حقبة ستينيات القرن الماضي، التي شهدت نكسة فلسطين، واستكمال احتلالها من قبل "إسرائيل" التي باشرت بمحاولات جادة لتهويد القدس، ودفع أهلها الأصليين إلى مغادرتها.
المشترك بين تلك القصص جميعًا أنها تحمل عنوانًا رئيسيًا هو "عشّاق المدينة"، ثم تنفرد بعنوان فرعي يحقق ثيمة محددة أرادت الكاتبة إيصالها للقارئ. وفي ذلك إشارة من الكاتبة إلى أن جميع أبطال القصص هم "عشّاق المدينة"، ولكل منهم دوره اتجاه مدينته –القدس- ومجتمعه.  
لأن كاتبتنا مولودة في القدس، ولم تبرحها، فقد سكنتها القدس كما تسكنها هي، وهذا ما يفسر قدرتها العالية على الوصف الدقيق للأماكن، والإمساك بيد القارئ لتتجول به من زقاق إلى آخر، ومن حارة إلى أخرى، في أجواء من الهالة والقدسية والمهابة التي تسكن في نفس الكاتبة. وبقراءة متمعنة لتلك القصص تجد نفسك غير متحيّز لأيٍ منها على حساب الأخريات؛ وذلك لأن الكاتبة وزعت تفاصيل المشهد المقدسي على قصصها تلك، بكثير من العدالة والإنصاف. إذ لو قمنا بإعادة تركيب المشاهد في تلك القصص لوجدنا أننا أمام اللوحة المقدسية الجميلة المشبعة بالحب، والصدق، والتفاني في خدمة الغير، والتعاون المبني على التسابق في فعل الخير.
لقد جاءت دقة الوصف والتفاصيل، وعلاقة الإنسان بالمكان، ودور المكان –القدس بحاراتها وأزقتها وشوارعها- في إدارة الأحداث، كما يختار الرّسّام ألوانه وريشته والأرضيّة الملائمة الّتي يخطّ عليها لوحته الفنّيّة، مما يكشف العوالم النفسيّة للشّخصيّات المختلفة في كل قصة على حدة، وما يشوبها من فرح وسرور أو غيظ وقهر. ومكونات الحياة الاجتماعية والسياسية، والمناسبات الدينية المختلفة.
صحيح أن المجموعة القصصية تكاد تخلو من الرمزية، سوى ما جاء من تقديم الكاتبة للقصص من عبارات وظّفت فيها الخيال عند الحديث عن الذاكرة، وشمس المدينة وقمرها ونهارها وليلها وشتائها وصيفها... الخ، إلا أن في هذه المجموعة ملامح عميقة من السرد الروائي؛ فبتغيير أدوات السرد ومنهجياته، نجد أن النصوص التي تجتمع في هذه المجموعة القصصية، هي قوام رواية حول الطفولة في القدس، لا سيما وأن أغلبها يصف الطفولة في مراحلها المختلفة، وما تواجهه الطفلة البطلة من أحداث، تشكل ذاكرتها التي لا تموت. وفي كل مرّة تكبر الطفلة وتهرم، دون أن تتنازل عن أيِ من ذكرياتها الجميلة المشبعة بعشق القدس. حتى تلك المقدسية، العائدة بعد النكسة، عادت إلى طفولتها التي لم تغادرها رغم الغربة ومرارتها وقسوتها.
كما لا بد من الإشارة إلى أن خصوصية الكاتبة-القاصّة كمقدسية تعشق مكان القدس وزمانها وتاريخها، قد انعكست على النصوص عندما وسّعت مساحة التماهي والاشتباك بين القصّة القصيرة والشعر. فنجد في غالبية القصص في المجموعة توظيف أدوات اللغة الشعرية التي استجابت لاحتياجات البناء القصصي، وأسهمت في تأثيث الفضاءيْن المكاني والنفسي. كما لا يمكننا أن نغفل حضور ملامح السيرة الذاتية، التي تكاد تعلن عن نفسها في عدد من القصص. 
إذا سأل أحدهم عن السر في التمسك بالطفولة وذكرياتها، فإن الكاتبة تجيبه بين سطور قصصها بالقول: إن الطفولة المجبولة بثرى القدس ونسيمها العليل، وقدسيتها التي لا يضاهيها قدسية، وعبق التاريخ الذي تتشبع به حاراتها وأزقتها يجعل منها ذكرى وذاكرة لا يمكن محوها، مهما طال الزمن ومهما بعدت المسافات.
كأني بالكاتبة تضع حدًا فاصلًا بين من يعيش القدس طفلًا ومن يأتيها كهلًا؛ فالأول عاشق للمدينة من داخلها ومن عمق ترابها القادم من غابر الأيام، وحجارتها القادمة من كل حدب وصوب، وكتبها التي كتبت بمداد القلب والروح لعلماء عاشوا فيها عبّادًا ومفكرين، وأفنوا حياتهم دفاعًا عن المسجد الأقصى المبارك الذي تربوا على مساطبه وبين مآذنه الشامخة عبر مئات السنين. وأما الثاني، فيأتيها من خارجها ليصوغ قصة عشق مع التاريخ والتراث والحضارة ومكان العبادة. وفي الإثنين، معًا، الخير كل الخير، وهما "عشّاق المدينة" القابضيْن عليها في مواجهة التهويد الذي تكاد نيرانه تلتهم أخضر القدس ويابسها.   
ختامًا، لا يمكن المغادرة قبل الإشارة إلى أـننا أمام مجموعة قصصية تستحق القراءة، وإعادة القراءة؛ لما تختزنه من عمق المشاعر وصدق الانتماء للقدس مكانًا وتاريخًا، لحد أنسنة الأماكن وإنطاقها، ولما تحتويه من أبعاد معرفية للأماكن والمشاهد التراثية والفكرية والتاريخية لهذه المدينة المقدسة. ما يعني أن قراءتها ومناقشتها مع أطفالنا، المقدسيين وغير المقدسيين، سوف تمكنهم من رسم المدينة في مخيلاتهم بنماذج وأشكال وصور راسخة تزيد من عشقهم لمدينتهم، ليضافوا إلى جحافل "عشّاق المدينة" الذين وصفتهم "نزهة رملاوي" في مجموعتها القصصية هذه.

 فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 19/09/2017م

إرسال تعليق Blogger

 
Top