0
من خرابة مهجورة إلى قائمة التراث العالمي:
البلدة القديمة في الخليل.. تجربة رائدة يجب البناء عليها
نشر في صحيفة القدس المقدسية في 01/09/2017، ص: 11
  عزيز العصا
المقدمة والتقديم
تتميز فلسطين عن غيرها من البلدان، في الشرق والغرب، بأنها تلك الجغرافيا المطلة على ثلاث قارات في آنٍ معًا، وهي: آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهذا هو السرّ في تكالب قوى الاستعمار عليها، وسعيهم منذ القرن السابع عشر من أجل إقامة كيان موالٍ لهم على أرضها؛ يستطيع السيطرة على تلك القارات والتحكم في اقتصادياتها وثرواتها ويضبط إيقاعها الجغرافي والديمغرافي لصالح تلك القوى، فكانت "إسرائيل"!
لذلك، فإنه من الطبيعي أن تكون فلسطين، عبر التاريخ، ملتقى الحضارات وجسرًا واصلًا بين الشرق والغرب. أي أن مدنها كانت على الدوام في حالة يقظة كاملة، وحركة دؤوبة، ومحطات مهمة للتجار والمسافرين والعابرين على أرضها. ويتربع على عرش مدنها القدس التي كانت السيطرة عليها حلم يراود القوى المتصارعة في المنطقة، وعلى بعد نحو ثلاثين كيلومترًا جنوبًا تقع مدينة الخليل، التي تشكل مع القدس عقدًا واسطته بيت لحم مهد المسيح عليه السلام. ولا يمكن ذكر الخليل دون أن يمر أمام المتحدث نبي الله "إبراهيم" الذي سميت المدينة "خليل الرحمن" نسبة له عليه السلام.
للخليل مكانتان متلازمتان، أما الأولى فالمكانة الدينية؛ فهي تحتضن رفات أنبياء الله وزوجاتهم: إبراهيم، وإسحق، ويعقوب. وأما الثانية فالمكانة التجارية؛ فهي ذات موقع استراتيجي يشكل تقاطع الطرق التجارية والعسكرية التي تربط شمال فلسطين بجنوبها. أضف إلى ذلك خصب أراضيها، وسمات وخصائص أهلها المتميزون بالإبداع الدائم في إدارة حياتهم الاقتصادية والتجارية، وقدرتهم على مواجهة ظروف الحياة وشظف العيش، بروح من التحدي والصبر حتى تحقيق الهدف.
لقد أدى هذا كله إلى أن تكون مدينة الخليل من أقدم مدن العالم المأهولة منذ آلاف السنين، بدون انقطاع. وعندما انتشر الإسلام في أسقاع المعمورة اكتسبت هذه المدينة مكانة دينية مهمة ومتقدمة لدى المسلمين، بعد مكة والمدينة والقدس. ويعتبر الحرم الإبراهيمي، وهو أقدم مكان مقدس في العالم مستخدم بلا انقطاع، أكبر شاهد على قدسية المدينة بالنسبة للمسلمين؛ لأنه يضم رفات نبي الله إبراهيم وزوجته سارة، وابنيهما إسحاق ويعقوب وزوجتيهما ليقا ورفقا([1])، فشيّدوا وأقاموا بجواره مئات المعالم الدينية الإسلامية والتاريخية، والتي شملت الجوامع، والزوايا، والأربطة، والمدارس، والأسواق التجارية، والسبل، والمقامات. وشهدت الحقبة العثمانية (1516-1917) توسّع المدينة حتى أخذت شكلها الحالي، والتي أهم معالمها[2]: تل الرميدة (تضم مشهد الأربعين)، والبلدة القديمة التي يتوسطها الحرم الإبراهيمي، والأسواق التجارية، وعيون الماء والسبيل، ومعاصر الزيتون والسمسم، وبير حرم الرّامة، وكنيسة المسكوبية.
 بهذا، تكون مدينة الخليل، على مستوى ارتباط المسلمين بها، قد دخلت في صلب الصراع القائم على أرض فلسطين، عبر الحقب الزمنية المختلفة؛ فتأثرت باحتلال الصليبيين (حولوا الحرم الإبراهيمي إلى كنيسة)، وبتحرير صلاح الدين الأيوبي للقدس، وما تبع ذلك من حكم المماليك والعثمانيين، وخضعت بعد الحرب العالمية الأولى للاحتلال البريطاني، حتى النكبة في العام 1948، حيث أعلن عن قيام "إسرائيل" على 78% من أرض فلسطين، فالحكم الأردني الذي استمر حتى العام 1967، حيث حلّت النكسة التي خضعت فيها فلسطين بأكملها للاحتلال الإسرائيلي.
وأما بشأن الوجود اليهودي في الخليل، فتشير المصادر التاريخية إلى أن اليهود، عبر التاريخ، استمتعوا بعلاقة طيبة مع العائلات المسلمة، حتى أن النساء العربيات واليهوديات أرضعن أطفال بعضهن؛ عندما كانت الواحدة منهن تغيب عن البيت لقضاء حاجة([3]). وفي القدس كانوا طائفة دينية صغيرة تسكن القسم الجنوبي الغربي من القدس القديمة، في بيوت يمتلكها أفراد من العرب أو الأوقاف الذرية للعائلات الإسلامية المعروفة، ويعيش قسم منهم على الاستجداء  أو الإحسان([4]).

رغم تلك الحقائق الواضحة، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي، ومنذ اللحظة الأولى لدخوله المدينة في العام 1967، سعى إلى تهويد البلدة القديمة منها. والبلدة القديمة، يتوسطها الحرم الإبراهيمي، وتبلغ مساحتها نحو كيلو متر مربّع واحد، تضم العديد من الحارات، بالإضافة إلى شارع الشلالة، وشارع الشهداء الذي يمتد من باب الزاوية حتى الحرم الإبراهيمي. وكانت النتيجة سيطرة المستوطنين على تلك المساحة، عدد (400) مستوطن، يقوم على حراستهم (1500) رجل أمن مسلّحين. مما يشيع أجواء من الرعب والخوف والقلق الدائم، الذي أدى إلى هجران العديد من العائلات لمساكنهم.


خطة فلسطينية مضادة
لم تمر لحظة على الفلسطينيين بشكل عام، وأبناء الخليل بشكل خاص، كانت فيه عيونهم تغفل عن بلدتهم التي أصبحت مصفدة بقيود الإرهاب الاستيطاني، وتوّج ذلك بأنه في العام 1996، أصدر رئيس دولة فلسطين المرحوم ياسر عرفات قرارًا بتشكيل "لجنة إعمار الخليل"، بهدف الحفاظ على التراث الثقافي و إعادة إحياء البلدة القديمة؛ عبر ترميم مبانيها وإعادة استخدام المهجور منها وتأهيل بنيتها التحتية، والحفاظ على التراث الثقافي وعناصر الوحدة التكوينية والنسيج العمراني. وبهذا تكون قد بدأت الخطوة الأولى والجادة في استرجاع هذا الجزء العزيز من الخليل، وحمايته، وإحاطته بالرعاية والاهتمام الكافيين.
لقد كانت النتيجة، وعلى مدى عشرين عامًا، أن تمكنت لجنة الإعمار المذكورة من ترميم المساكن والشوراع والطرقات وتجميلها، وجعلها تسر الناظرين، وتجذب الأسر للعودة إليها لسكنها وإعمارها وإعادة الحياة للمكان الذي يعج بالحضارة والتراث والحيوية.
 ويبقى علينا إطلاع القارئ الكريم على أحد أوجه الصراع مع الاحتلال الاستيطاني-الإحلالي، الأكثر شراسة، وهو تسجيلها على لائحة التراث العالمي في شهر تموز من العام الحالي (2017) كتراث فلسطيني الأصل والفصل والهوية، وللتعمق في شرح المراحل والخطوات الممتابعة والمعقدة التي تخطاها الوفد الفلسطيني في اليونسكو حتى وصل إلى النتيجة المفرحة المذكورة أعلاه (انظر: صحيفة القدس، بتاريخ: 01/08/2017، ص: 15)، فقد كان لي لقاء مع "د. أحمد الرجوب" مدير في وزارة السياحة والآثار ومنسق ملف التراث العالمي، الذي أكد على أن الأرضية الصلبة لملف الترشيح تتمثل في المتابعة فلسطينية حثيثة للاعتداءات الإسرائيلية والخروقات التي يمارسها الاحتلال في هذه المنطقة.
لجنة الإعمار: من ملفات الإعمار إلى ملفات اليونسكو
لقد كان لإعلان البلدة القديمة من الخليل وتل الرميدة على قائمة التراث العالمي في اليونسكو بالغ الأثر في نفوس أبناء فلسطين، من جميع الأجيال والشرائح المجتمعية. فارتأيت ضرورة التوثيق لهذا الملف ومتابعته، ونظرًا لأن لجنة الإعمار هي المقيم الرئيسي في البلدة القديمة، وهي بمثابة حكومة مصغرة هناك (أنظر: صحيفة القدس، بتاريخ: 24/08/2017 ص: 13)، فإن كلمة السر التي تفتح ذلك الملف، بكل جزئياته وتفاصيله، هي لدى لجنة الإعمار هذه، فكان لي لقاء معمّق وموسّع مع المدير العام للجنة السيد عماد حمدان بتاريخ: 10/08/2017، وقمنا باستعراض المراحل المختلفة لملف الترشح، التي تشكل الجذر الأكثر عمقًا لتلك الشجرة التي أثمرت تربّع البلدة القديمة من الخليل على لائحة التراث العالمي، حتى أصبح ملفًا كاملًا ودقيقًا، ومضمون النجاح، لدى الوفد الفلسطيني الذي صال وجال في أروقة اليونسكو، حتى وصل الأمر إلى ما تم إنجاز. وتتلخص مراحل هذا الملف، الذي استغرقت لجانه المختلفة وقتًا طويلًا في إعداده، فيما يأتي:
أولًا: يعود الفضل في  العمل بهذا الملف لبلدية الخليل، التي عملت بشراكة وتعاون كاملين مع لجنة إعمار الخليل. ثم تم تشكيل لجنة توجيهية (Steering committee)، في العام 2008، تتألف من: بلدية الخليل، ووزارة السياحة، ولجنة الإعمار، وعدد من الخبراء الفلسطينيين المتخصصين في مختلف المجالات. ومن الجدير ذكره، أن هذا الملف جاء بعد إنجاز القائمة التمهيدية (المبدئية) لعشرين موقع مرشحة لليونسكو، الخليل واحدة منها، والذي أعدته وزارة السياحة بالتعاون مع الجات الأخرى ذات الصلة في العام 2005. وعندما اعتمدت فلسطين عضوًا كاملًا في اليونسكو بتاريخ 31/10/2011م، وصادقت على اتفاقية التراث العالمي لعام 1972م بتاريخ 8/12/2011، أصبح لا بد من رفع وتيرة العمل في ملف الخليل، علمًا بأن القيادة السياسية ارتأت تأخير تقديمه للترشيح إلى ما بعد بيت لحم (كنيسة المهد) وأريحا وبتّير.
ثانيًا: عند إنجاز الملف، وتجهيزه للعرض على الجهات الرسمية، المحلية والدولية، أصبح عبارة عن أربعة مجلدات (مجلد رئيسي وثلاثة ملحقات) تبين، في مجموعها: التعريف بالموقع، وسجلّ الأراضي، والتعريف بها، وعمليات الترميم والجهود المبذولة في الحفاظ على المكان، وخطة الحماية بما يضمن عدم التعدي على الموروث الثقافي، وخطة الإدارة للموقع، وعمليات المراقبة الدائمة والتوثيق، مع تبيان السلطات والجهات والمؤسسات التي تتابع الموقع وتتولى مسؤولية المحافظة عليه وحمايته. والتبريرات للتسجيل على اليونسكو. وينتهي الملف بتوقيع الجهة الفلسطينية الرسمية التي سوف تتولى أمر تقديمه، وهي وزارة السياحة، علمًا بأن الملف من إعداد بلدية الخليل ولجنة إعمار الخليل.
 بنظرة متمعنة للملاحق التعزيزية للمجلد الأول، يتضح حجم العمل الضخم الذي تم في هذا الملف، حيث هناك مخططات وخرائط تفصيلية توضع الموقع مبيًنا عليه المنطقة المستهدفة (البلدة القديمة بمساحتها البالغة كيلو متر مربع واحد)، كما يظهر عليها منطق الحماية التي لها خصوصة في التعامل معها عند أي تغيير يطرأ على المكان، وتشمل الحرم الإبراهيمي وتل الرميدة. وجاء التركيز على تل الرميدة التي يعود عمرها الحضاري إلى (6000) عام؛ وهي أول موقع لمدينة الخليل. كما تشمل الملاحق تاريخ الخليل، والمشاريع المقدمة من قبل الجهات المختلفة، بخاصة المؤسسات الأكاديمية، المتعلقة بتطوير البلدة القديمة وجعلها منطقة حيوية-حضارية توفر فسحة سياحية.
ثالثًا: هناك ملحق تم تخصيصه لخطة العمل، قامت به لجنة إعمار الخليل، بالتعاون مع بلدية الخليل وجامعة بوليتكنك فلسطين، شارك فيه نحو ثلاثين مهندسًا لمدة عام في العام 2015، يحمل تفاصيل عملية الحفاظ على البلدة القديمة، ويشمل دراسات شاملة ووافية، عبارة عن عملية إحصائية، وعمرانية، واقتصادية وصحية وتعليمية حول البلدة القديمة، تشمل: عدد المساكن، والمباني، والمحلات التجارية، والحالة الديموغرافية التي تشمل أعداد السكان من الفئات العمرية المختلفة، والمرضى والمقعدين، وأعداد العاطلين عن العمل، ووصف وضع العمالة... الخ. وأرفق معها خرائط تفصيلية ودقيقة لكل مبنى وطابق على حدة. فكانت عبارة عن وثيقة تعزيزية ببعدين زمنيين: قصيرة لمدة (5) أعوام تتعلق بالبلدة القديمة، وخطة طويلة الأمد لـ (25) عامًا.
رابعًا: ونظرًا لأن التسجيل لهذه المنطقة قد تم على لائحة التراث العالمي، ولضرورات المحافظة على هذا التسجيل، الذي جعل المكان ملكًا للتراث الثقافي العالمي، فإنه يقع على عاتقنا المراقبة الدائمة والحثيثة لكل ما يجري في هذه المنطقة، من حيث الإعمار أو البناء أو شق الطرق وغير ذلك من أشكال التغيير في بنية المكان. المقصود هنا، ما يمكن أن نحدثه نحن من تغيير.
أما فيما يتعلق بما يقوم به الاحتلال والمستوطنون، فإنه يقع على عاتق الجهات المختصة، وعلى رأسها لجنة الإعمار والبلدية، المتابعة، وإصدار التقارير والبيانات تباعًا، وإرسالها للجهات ذات العلاقة في اليونسكو، وذلك من أجل وضع هذه المنظمة الدولية في صورة الاعتداءات المتكررة للمستوطنين التي تشكل خطرًا على التراث والحضارة العالميين.     
الخاتمة،
يأتي هذا المقال في نهاية سلسلة من المقالات المتصلة بالبلدة القديمة من الخليل، التي أحدث وضع ملفها على طاولة اليونسكو صخبًا وضجيجًا من قبل إسرائيل وأمريكا، ومن يدور في فلكهما، ومورست ضغوطات مذهلة على اليونسكو لرفضه، على قاعدة أن الخليل ليست مكانًا أثريًا ولا مقدسًا للفلسطينيين. إلا أن العمل بروح الفريق الملتحم والمتماسك على المستوى الفلسطيني، وبالصبر والحكمة والحنكة، وبالتعاون والتعاضد من قبل بعض الأشقاء والأصدقاء، بخاصة الوفد اللبناني في اليونسكو، انتهى الأمر بما أراده وفدنا الوطني.
والحالة هذه، ونظرًا للصراع المتأجج حول هذا المكان، فإننا نتوجه إلى لجنة إعمار الخليل وبلدية الخليل بالشكر والتقدير على صمودهم وتفانيهم في خدمة هذا المكان وساكنيه؛ إذ لولا تلك الجهود المتواصلة لما كان لنا هناك بلدة نقطنها، ولما كانت على لائحة التراث العالمي وهي تحمل هويتها العربية الإسلامية بما لهذه الهوية من استحقاق تاريخي ومستقبليّ.      
عزيز العصا
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 22/08/2017م




[1]انظر الموقع الالكتروني لـ "لجنة إعمار الخليل"/ الحرم الإبراهيمي، وفق الرابط التالي (أمكن الوصول إليه في 12/08/2017):
[2]الخليل: مدينة خليل الرحمن (د. ت). كتيّب صادر عن وزارة السياحة الفلسطينية.
[3]الشناق، محمود (2005). العلاقات بين العرب واليهود في فلسطين: 1867-1914.مطبعة بابل الفنية. حلحول. فلسطين. ط1. ص: 484.
[4]الخالدي، حسين فخري (2014). ومضى عهد المجاملات... مذكرات –بيروت 1949-. دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن. المجلد الأول. ط1.ص: 52.

إرسال تعليق Blogger

 
Top