نافذ الرفاعي في روايته "الأم اللاجيوس":
يُسائل الاحتلال والبحر والغابات والصحراء عن عذابات
الفلسطينيين المنكوبين
نشر في صحيفة القدس
المقدسية، بتاريخ: 17/11/2017، ص: 16
عزيز العصا
نافز الرفاعي؛ كاتب وروائي فلسطيني. يُطل علينا عبر روايته الرابعة،
والتي عَنْوَنها "الأم اللاجيويس.. حكاية
فاطمة"، الصادرة، بطبعتها الأولى، عن "دار البيرق العربي
للنشر والتوزيع"، تضم أربع محطات رئيسية، تتوزع على مائة وستين صفحة من القطع
المتوسط. وكل محطة تضم عددًا من السرديات، تحمل دلالات محددة، وهي تشتبك معًا،
وتتكامل وتتداخل، لتشكل جسم النص الروائي. ويستهلها بشكر لكل من أسهم في هذا
الإنجاز الأدبي.
من العتبة إلى النهاية: الحكاية
والرواية.. كل يتّكئ على الآخر
تبدأ الرّوايّة بعتبتها الأولى بعنوانها: "الأم اللاجيوس.. حكاية فاطمة". وهنا لا بد
من الإشارة إلى أن الحكاية والرواية، تنتميان إلى جذر واحد في الأدب النثري، وهو
"القصة". فالحكاية: سلسلة من الأحداث الجزئية مرتبة على نسق خاص يجذب القارئ؛
فيتبعها
في شغف[1]. وأما "الرواية"، فإنها الفن الأدبي الذي لم يمض عليه في العالم
العربي أكثر من قرن ونصف القرن من الزمن، ومنذ بداياتها الأولى، كجنس أدبي، كانت
قادرة على الهضم والتمثل والإفادة من فنون أخرى، ويقول فيها نجيب محفوظ: هي الفن
الذي يوفّق ما بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنينه الدائم إلى الخيال، وما بين
غنى الحقيقة وجموح الخيال"[2].
من هنا، نجد أن عنوان هذه الرواية يحمل سيمياء تنبئ عن
توظيف "حكاية فاطمة" في رواية "الأم اللاجيوس"، وهذا ما قام به الكاتب في
روايته هذه؛ عندما ركّب عناصر روايته، من حيث الشخصيات والزمان والمكان والحدث
والسرد والحوار. وإذا ما تمعنّا في تلك العناصر، نجد أن الشخصية البطل في هذه
الرواية، وهي "الأم اللاجيوس أو فاطمة"،
هي التي تأسر القارئ وتجعله يتابعها من مكان إلى آخر.
نظرًا لأن الحدث الرئيس يدور حول النكبة، وفي فلكها، فقد
قام الكاتب بالتقاط الشخصيات الثانوية في روايته هذه، التي تراوحت بين الصلبة والهشة.
فكانت "يافا" الإبنة القادمة من عمق النكبة، من يافا المدينة المنكوبة،
موازية لإبن "فاطمة". ثم سارت
الأحداث على مسارين، شكلا حبكة جميلة، بل تصويرًا دراميًا لأحداث النكبة التي مني
بها الشعب الفلسطيني في العام 1948، من أقصى جنوبه –الذي تمثله الأم اللاجيوس-، ورحلة
التيه والضياع في غاباته الكثيفة الموحشة التي التهمت زوج "فاطمة-البطلة"، حتى أقصى شماله ورحلة التيه
والضياع عبر البحر بأمواجه العاتية المجنونة، الذي التهم الطفل الرضيع لوالديّ
يافا.
في جميع الأسماء التي اختارها الكاتب، كان لكل إسم
سيميائية تنسجم مع الدور الذي رسمه له. فإسم "فاطمة"؛
تقليدي يعبر عن غالبية أسماء الفتيات في زمن الرواية، وإسم "يافا" عبّر
عن الجيل الثاني من النكبة؛ حيث أصبحت أسماء الجغرافيا المنكوبة تُطلق على الأبناء
كي لا ينسوا ما ضاع من الوطن.
العناصر تتمازج لتنجب نصًا روائيًا
البنية المكانية للرواية، هي كل الوطن الفلسطيني، من
يافا إلى الخليل والبحر الميت. ولكل جغرافيا من هذه وظيفة في احتضان أشخاص
الرواية. فالخليل البلد الذي احتضن لاجئي القرى المحيطة، ويافا المدينة الحضارية
الجميلة التي تاه أهلها في البحر هروبًا من وابل القتل، وقسوة التعذيب. وأما البحر
الميت، وفق ما ورد في سرد أحداث الرواية، فهو ميدان المفاوضات، التي لا تقل
أجواؤها ألمًا عن النكبة نفسها.
وأما البنية الزمانية فتمتد لنحو خمسين عامًا، بين النكبة
في العام 1948 والمفاوضات في تسعينيات القرن العشرين. وقد عبّر الكاتب عن ذلك
الامتداد الزمني، من خلال اختياره لجيل الآباء، الذي اكتوى بالنكبة مباشرة، وعاش
عذاباتها وآلامها، وجيل الأبناء الذين توجهوا للتحاور والتفاوض مع من سبّب لآبائهم
تلك العذابات.
وقد جاءت الحبكة الروائية موفقة، فيما يتعلق بـ "فاطمة" الشخصية-البطل، التي جاءت أفعالها وأقوالها تكشف حقيقتها كلاجئة عانت الأمرّيْن في رحلة
شاقّة لطفلة قد أنجبت طفلة، وأصبحت "فجأة" أمام مسؤولية حماية نفسها
وحماية ابنتها، بعد أن غاب زوجها، وبقيت في المخيّم، بلا هادٍ ولا دليل. وتتطور الأحداث في "حكاية
فاطمة" حتى تتغلب على ظروفها، وتدافع عن نفسها أمام "الذئب
البشري" الذي حاول استغلال ظروفها لشهوانية مريضة. وينتهي أمرها إلى تاجرة
يشار إليها بالبنان، رغم أمّيتها وانقطاعها عن كل ما يمت لها بصلة من أسرة وأقارب.
وأما بالنسبة للسرد، فقد جاء السارد هو نفسه الكاتب،
والكاتب هو نفسه أحد الشخصيات الثانوية المساندة للشخصية-البطل(ة). وقد ارتبط
بالبطل(ة)، بدور "الفوّاض" وهو إبن "فاطمة"
صاحبة الحكاية؛ الأمر الذي جعلها بإسم "الأم
اللاجيوس". فاوض.. وفاوض.. ولكنه لم يحصل على ما يمكنه من تحقيق
"آخر أحلام أمه بأن تُدفن في قريتها التي مُسحت عن الوجود" (ص: 105). وقد ظهر
الكاتب-السارد غير محايد في هذه الرواية، وإنما ظهر كبطل منافس للبطل(ة)، بل أنه
بدا وكأنه يحاول الإمساك بيدها، ويدور بها من مكانٍ إلى آخر، رغم أنها هي وحدها
صاحبة الحكاية.
بين الحقيقة والإيهام بها.. يبث الكاتب
أفكاره
يكاد القارئ يجزم أن هذه الرواية رواية سيريّة، ولكن
حقوق الروائي، في أن يكتب ما يشاء من مزيج الحقيقة والتخييل، تجعلنا نعود إلى
مربعنا في التعامل معها ليس كراوية سيرية (رواية التجربة الذاتية)، ولا كراوية
تاريخية ولا واقعية، وإنما تحمل ملامح تلك الأنواع الروائية مجتمعة. وإذا نظرنا
إلى الرواية من داخلها العميق، نجد فيها ما أراد الكاتب بثّه من فلسفة وفكر
ومعرفة، منها:
-
لم يحمل هذا النص الروائي تعقيمًا للمجتمع الفلسطيني،
وإنما ظهر فيه الانتهازي واللص والذئب البشري.
-
تتجلّى قوة المرأة الفلسطينية-اللاجئة في مواجهة شظف
العيش، والقدرة على الصمود والاستجابة لمتطلبات حفظ الكرامة. وما الاستخدام
المزدوج لـ "شظيّة المرآة"؛ في استكشاف جمالها، وكسلاح أدمى
"المتلصص"، وألقى به بعيدًا وإلى الأبد (ص: 79-80)، إلا رمزية عالية واحدة من صور الحب
والحرب التي أبقت اللاجئ متشبثًا بالحياة، رغم شراسة الموقف وقسوته.
-
تعزز ذلك "يافا"، عندما تصف لحظة
"التحوّل العظيم"؛ عندما تقرر النزول إلى البحر الذي ابتلع رحلة أمها
وأبيها والتهم طفلهما، لتكسر الخوف منه.
-
تبيّن حالة التناقض والتشظّي في الجيل الثاني للنكبة؛
يُسجن، ويُعذّب نفسيًا، وتُمارس عليه كل أنواع الضغوطات من مخابرات الاحتلال، بلا
أخلاق، ثم يُستضاف في فندق فخم على شواطئ البحر الميّت، لكي يتفاوض من شرّد أمه
وسجنه. وفي لحظة انفصام حقيقية، يتساءل: هل للجوء نجوم كالفنادق! (ص: 36). ثم يكتشف
أنه "يمارس خارج قناعاته في البحث عن السلام الموهوم" (ص: 61).
-
أشار الكاتب إلى مقاومة الاحتلال، قبل النكسة وبعدها،
موردًا صور مختلفة من تلك المقاومة، كالدور الذي تأخذه "فاطمة" في نقل
الرسائل السرية بين المناضلين، والهروب من السجن الصحرواي، وأساليب التعذيب التي مارسها
الاحتلال في سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي، وأبشعها التهديد باغتصاب والدة
المقاوِم للاحتلال. ويوجز حكاية شعب بأكمله بالقول: "البحر يبتلع، وظمأ
الصحراء تدفن في رمالها الهاربين" (ص: 159).
خلاصة القول،
بعد هذه الرحلة التحليلية لرواية "الأم اللاجيوس"،
يمكننا القول بأننا أمام حقائق جديدة تتعلق بالرواية الوطنية الفلسطينية الخاصة
بالنكبة، وقد تم توظيفها في عمل روائي؛ ليس كخيال من نسج الكاتب، وإنما كحكاية
لطفلة فلسطينيّة تشردت من بلدتها، ويؤسفنا هنا أن الكاتب لم يورد إسمها بوضوح كما
أورد إسم القدس والخليل ويافا والبحر الميّت وغير ذلك من أسماء المواقع. ويردف
بحكاية أخرى تتعلق بأبناء يافا الذين ركبوا البحر هربًا، فابتلع أطفالهم وأحلامهم
ومستقبلهم.
هذه هي الرواية الرابعة للروائي "نافذ
الرفاعي"، وقد قدّر لي أن أحلل آخر ثلاث منها، لأجد أن ما يتكرر فيها جميعًا
هو دور الكاتب، الذي يكون جزءًا من النص، بل يسعى لأن ينحى منحى الرواية السيرية،
كما في "امرأة عائدة من الموت" و"الخنفشاري"، لتأتي هذه
الرواية ويأخذ فيها دور "الإبن"، ويمرر من خلالها تجربته التفاوضية.
كنا مع رواية جميلة، حملت ملامح مرحلة زمانية تمتد على
مدى النصف الثاني من القرن العشرين، تبقى ملكًا للأجيال القادمة، التي سوف تقرأها
وتعيد القراءة؛ لكي تستحضر ماضي الآباء والأجداد، وتستلهم منه روح التحدي والإصرار
على البقاء، والنهوض من جديد مهما تعددت الكبوات، وتبقى "حكاية فاطمة" أنموذجًا يُحتذى.
فلسطين، بيت لحم،
العبيديّة، 10/11/2017م
[1] شوندى، حسن، وكريم آزاده (2011). رؤية إلى العناصر الروائية. فصلية دراسات الأدب المعاصر. السنة الثالثة. العدد العاشر. ص: 49-59.
[2] مرادى، محمد، ومونسى آزاد، وقادري، قادر، وخاكپور، رحيم (2013). لمحة عن ظهور الرواية العربية و تطورها. دراسات الأدب المعاصر، السنة الرابعة، شتاء 2013 ، العدد السادس عشر، صص: 101-117.
إرسال تعليق Blogger Facebook