0
وعد بلفور المشؤوم:
فرنسي الجذور.. بريطاني التنفيذ.. والجريمة مستمرة
نشر في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 02/11/2017، ص: 13
                                                         عزيز العصا
مقدمة
نعيش هذه الأيام أجواء مرور مائة عام على وعد وزير خارجية بريطانيا "بلفور" في العام 1917؛ الذي قال فيه: "إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى."
إن هذا النص، الذي يُقرّ بأنها فلسطين –وليس لها أي إسم آخر-، يحمل ملامح الظلم والشراسة والوقاحة الاستعمارية، التي يبدو فيها إلغاء شعب وإحلال شعب آخر مكانه، ووفق حسابات الحقل والبيدر الاستعماريين، أمرًا بسيطا، وأن الشعوب مجرد "أشياء"، يمكن التخلص منها بسهولة ويُسر، طالما أن القوة متوفرة، وقادرة على السيطرة وتحقيق مصالح القوة الغازية.
نظرًا لأن الأنظار مسلّطة على هذا الوعد المشؤوم والظالم، وما فيه من عبارات، وما يترتب عليه من حقوق للشعب الفلسطيني، لن يمحوها التقادم، فإنه من الضرورة بمكان إعادة قراءة هذا الوعد ضمن السياقات التاريخية والسياسية، والظروف الموضوعية التي أدت ببريطانيا إلى اتخاذه، في ظل أجواء الحرب العالمية الأولى، التي كانت فيها الدولة العثمانية تترنح، بل تلفظ أنفاسها الأخيرة.
وعود غربية متعددة على مدى 120 عامًا.. والهدف واحد
إذا كان لا بد من نظرة في الجذور التاريخية لفكرة السيطرة الاستعمارية على أرض فلسطين، فإنه يمكننا النظر في مرحلة الاستعمار الفرنسي، أيام نابليون بونابرت، الذي وجه في العام 1798، أثناء غزوه لفلسطين نداءً (لليهود)، جاء فيه([1]): "أيها الإسرائيليون، أيتها الأمة الفريدة فرنسا تقدم لكم ورثة آبائكم، استعيدوا ما أخذ منكم بالقوة ودافعوا عنها، بدعم فرنسا ومساعدتها". وقد هدف من هذا النداء إلى تحقيق هدفين استراتيجيين([2]): الأول: إيجاد حاجز مادي بشري يفصل ما بين مصر وسوريا، واستغلال ذلك في تسهيل وتدعيم الاحتلال الفرنسي لكل منهما. والثاني: تهديد مصالح بريطانيا من خلال إغلاق طريق مواصلاتها المؤدية إلى الهند.
لقد كان نابليون أول رجل يقترح إقامة دولة يهودية في فلسطين، بل إن وايزمان-الصهيوني وصفه بأنه أول الصهيونيين الحديثين غير اليهود([3]). وبذلك؛ تكون فرنسا، في نفاقها لليهود وتزلفها إليهم، قد سبقت بريطانيا ووزير خارجيتها "بلفور" بحوالي 120 عاماً.
أما بريطانيا، فقد تجرّأ ت على الدولة العثمانية في وقت مبكر، وأخذت ترفع صوتها لتوطين اليهود في فلسطين، بشتى الوسائل والطرق: ففي العام 1838 أطلق اللورد آشلي/ البريطاني دعوة لجمع اليهود على أرض فلسطين؛ كخطوة أولى نحو تنصيرهم، باعتبار أن استعمار فلسطين ضرورة للاقتصاد البريطاني، الذي شهد آنذاك ازدهاراً وتوسعاً نتيجة للثورة الصناعية([4]). وفي العام 1840 أرسل رئيس وزراء بريطانيا في حينه (بارلمستون) مذكرتين إلى سفيره في اسطنبول، رفضتهما الدولة العثمانية، يحث على "عودة!" اليهود إلى فلسطين، ومن أبرز ما جاء فيهما([5]): مطالبة السلطان بنشر مرسوم أو تصريح يحقق، فورًا، "عودة!" اليهود الراغبين للإقامة في إمبراطوريته عامة وفي سوريا خاصة.
لقد تغلغل الأوروبيون، واليهود المرتبطون بهم، في أحلافٍ استعمارية بأغلفة عقائدية-دينية؛ تحركهم الأهداف الاستعمارية في الإمبراطورية العثمانية، مع التركيز على (فلسطين) بهدف تحقيق إعلان نابليون المذكور أعلاه، بالإضافة إلى  الإستراتيجية  البريطانية التي كانت تلتقي (تماماً) مع الفرنسيين([6])، بهدف إخضاع المنطقة لخدمة أهدافهم الاستعمارية في المنطقة المتمثلة في تأمين طرق التجارة بين أوروبا وباقي أرجاء المعمورة.
تتسارع الأحداث، ويبدأ الاستيطان اليهودي في فلسطين، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتعلن الحركة الصهيونية عن نفسها، وتعقد مؤتمرها الأول في العام 1897. وفي أوائل القرن العشرين، أصبح عدد اليهود في فلسطين، (34,000) نسمة؛ تشكل (5.7%) من مجموع السكان، وكان مجموع الملكية اليهودية للأراضي 0.8% من مساحة البلد.
في العام 1915؛ في أجواء الحرب العالمية الأولى، وحيث أصبح عدد المستعمرات المقامة على أرض فلسطين، إبّان الحقبة العثمانية، هو (36) مستعمرة([7])، قدم وايزمن وهربرت صموئيل؛ وهما من أشهر الصهاينة الذين لعبوا دورًا في إصدار وعد بلفور، مقترحات لإقامة الدولة اليهودية ذات الطابع الاستعماري، لحماية قناة السويس للإنجليز([8]).
فلسطين: أول ضحايا الحرب العالمية الأولى
انتهت الحرب العالمية الأولى، فانتهت الحروب الصليبية الإسلامية المسيحية، وابتدأت الحروب الصليبية الجديدة بين العرب واليهود[9]. وتم تنفيذ اتفاقية سايكس-بيكو الشهيرة التي اقتسم فيها الغرب تركة الدولة العثمانية، فأسنِدَ أمر احتلال فلسطين واستعمارها إلى بريطانيا، صاحبة الوعد المذكور. فانتدبت بريطانيا على فلسطين، ليصبح "حاميها حراميها"، وليتم تنفيذ ذلك الوعد. فكان أول مندوب سامي على فلسطين هو "هربرت صموئيل" الصهيوني المذكور أعلاه؛ الذي أسهم في صياغة الوعد. حتى أن "بلفور" نفسه كان يحضر إلى فلسطين، ويتابع أمور "اليهود" عن كثب، ففي العام 1925 كان "بلفور" إلى جانب صموئيل في افتتاح الجامعة العبرية، وقد قوبل حضوره بحالة هيجان شعبي فلسطيني، عبّر عنه الشاعر "محمد علي الصّالح" في قصيدة  بعنوان "ليلى وبلفور"، بحضور مفتي الديار الفلسطينية، في حينه، الحاج أمين الحسيني، يحث فيها على الثورة والمواجهة، بالقول:  قل لهم "بلفور" يَأْتيكُمْ  غَداً// هل تكاتـَفْتُمْ إلى هذا الخَبـَرْ.
بريطانيا.. والجريمة ضد الإنسانية
خلال حقبة الانتداب البريطاني، التي امتدت للفترة 1917-1948، والشعب الفلسطيني، الذي رفض الانتداب-الاحتلال وقاومه، بكل السبل، تحت المقصلة؛ قتلًا ومطاردة وتشريدًا وتجهيلًا. في حين أن اليهود كانوا ينعمون بالأمن والأمان والتعليم المستقل عن الحكومة البريطانية، ويتم توفير التسهيلات لهم في المجالات كافة، أهمها: التدريب العسكري، والتسليح، وإعدادهم، بشكل جيّد، لإقامة دولتهم المنتظرة.
ولم تغادر بريطانيا فلسطين، إلا بعد أن ضمنت نكبة شعبها. فخلال الفترة 1948-1949، أقيمت "دولة إسرائيل" على 78% من أرض فلسطين، ويرى "أوري ديفيس" أن تلك النكبة قد أسفرت عن جريمة ضد الإنسانية، من أبرز ملامحها[10]:
1)      جريمة التطهير العرقي الواسع للشعب الفلسطيني.
2)      جريمة الترحيل الجماعي، التي نجم عنها تهجير زهاء 90% من العرب الفلسطينيين الأصليين، ممن كانوا يقيمون على الأراضي التي وقعت تحت السيطرة الإسرائيلية. وبقي نحو (150,000) فقط داخل حدود الدولة الناشئة، تم التهجير الداخلي لهم عن مساكنهم وأراضيهم أيضًا؛ ليصبحوا "حاضرون غائبون".
3)      تجريد المُهجَّرين من ممتلكات عقارية؛ ريفية ومدينية شاسعة، ومن الممتلكات المالية. ويقدر أن العرب الفلسطينيين كانوا يمتلكون نحو (90%) من الأراضي، التي يتوزع عليها مئات القرى والمدن (تعتبر مدن إقليمية)، تم محو 500 ناحية عربية؛ ريفية ومدينية وتسويتها بالأرض، ليتم إنشاء "دولة إسرائيل".
4)      وضع تلك الثروة الضخمة، المنهوبة بالقوة، لصالح الاستيطان الكولونيالي اليهودي (لليهود فقط). والتي قدرتها الأمم المتحدة، بنحو (120) مليون جنيه فلسطيني (يساوي الجنيه الاسترليني في حينه؛ والجنيه يقابل حوالى ثلاثة دولارات). وقدرت جامعة الدول العربية ذلك بعشرة أضعاف تقدير الأمم المتحدة.
5)      تجريد أولئك المُهجّرين من حقهم بالجنسية، خالقة بذلك مشكلة اللاجئين الفلسطينيين.
6)      تم كل ما ورد أعلاه، وغيره، تحت مظلة استغلال "الاحتلال النازي لأوروبا وما جرى لليهود من قبل النازية"؛ مما قلل من فرص انتقاد المذابح التي تمت بحق الفلسطينيين.
... وتستمر الجريمة
أمام الفظائع الموصوفة أعلاه، والتي جوهرها محو شعب وحضارة وهوية عن أرض فلسطين، وإنشاء شعب آخر، قادم من خلف البحار، مكانه، لا يمكننا أن نتوقف عن شخص بلفور ووعده، الذي كان تنفيذًا لسياسة دولته، وحسب، وإنما علينا أن نجمع المشهد من جميع أطرافه الأوروبية وغير الأوروبية –من الغرب والشرق-، لنخرج بنتيجة مذهلة، مفادها: إن المؤامرة واسعة ومتعددة الأبعاد، وأن "وعد بلفور" هو صورة أخرى لـ "نداء نابليون"، وأن المجرمين بحق الشعب الفلسطيني، والذين سيحاسبهم التاريخ –عندما يحل المنطق محل عنجهية القوة- كُثر، عندما حلّت مصالحهم محل ضمائرهم.
ومما يدلل على روح الجريمة، والنيّة المسبقة لتنفيذ بريطانيا ذلك الوعد، على حساب فلسطين وشعبها: إصرار الدولة البريطانية، بعد مائة عام من وعدها، على أن ما جرى بحق الملايين من الشعب الفلسطيني من قتل وتشريد وحرمان من حق العيش كبشر تحت الشمس، هو مشروع ولا يستحق حتى كلمة "اعتذار"!
بكلمة أخيرة، نقول: لن تعتذر بريطانيا عن وعدها ولا عن جريمتها، إلا عندما تتماسك الأمة وتستعيد دورها، وتشكل قوة يُحسب حسابها. حينئذ؛ تتبدل المواقف وفق المصالح التي يفرضها توازن القوى. فكيف تعتذر لنا وأمتنا في حالة من الفرقة والتشرذم والاقتتال، في حين أن "إسرائيل" في أوج قوتها، وهي الضامن لفصل مصر عن بلاد الشام، والمسيطرة على قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا في آن معًا؟!       
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 01/11/2017




انظر الموقع الالكتروني "إسرائيل بالعربية":
[2] محمود، أمين عبد الله (1984). مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. سلسلة عالم المعرفة، عدد (74). الكويت. ص: 13-14.
[3] الدجاني، يعقوب، والدجاني، لينا (2001). فلسطين واليهود: جريمة الصهيونية والعالم. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. عمان-الأردن. ط1. ص: 13.
[4] محافظة، علي (2009): المستعمرات الألمانية في فلسْطين. الموقع الالكتروني لـ "مجلة مجمع اللغة العربية الأردني". الجامعة الأردنية. انظر الرابط (تم الوصول إليه في 26/8/2014):
[5] شلايل، عمر (2013). فلسطين في صراع الشرق الأوسط.  دار الجندي للنشر والتوزيع. القدس. فلسطين. ط1. ص: 93-94.
[6] في العام 1800 علق بيتشينو آمالاً واسعة على فرنسا النابليونية لتحقيق مشروعه الهادف إلى تجميع اليهود في فلسطين.  (انظر: محافظة (2009)).
[7] الحروب، صقر (2014). جغرافية فلسطين: دراسة في تنوّع المكان وعبقرية الإنسان. وزارة الثقافة الفلسطينية. ص: 372-379.
كانت هذه المستعمرات موزعة على الأقضية التالية: (5) في صفد، و(7) في حيفا، و(9) في طبريا، و(4) في يافا، و(2) في الناصرة، و(9) مستعمرات في الرملة.     
[8] جبارة، تيسير (1986). دراسات في تاريخ فلسطين الحديث. مؤسسة البيادر الصحفية. القدس، فلسطين. ط2. جبارة، تيسير (1986)، ص: 46-47.
[9] الخالدي، حسين فخري (2014). مرجع سابق. ص: 79.
[10] العصا، عزيز (2015). في كتابه "إسرائيل الأبارتهايدية "وجذورها في الصهيونية السياسية": "أوري ديفيس".. يقولُ ما لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُه. نشر في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 10/12/2015م، ص: 18

إرسال تعليق Blogger

 
Top