منذ
فتحنا عيوننا على الحياة، نحن أبناء محافظة بيت لحم من مواليد النصف الثاني من
القرن العشرين، ومنذ أخذنا نتابع ما يجري هنا وهناك، ونحن نسمع بإسم "حسن
مصطفى"، ونردد مقولته الشهيرة، التي التقطناها من أفواه معاصريه: حتى الدجاج
في بلدي لا يسير إلا على الإسفلت.
وبلدة
بتّير، التي أنجبت حسن مصطفى، هي قرية فلسطينية كنعانية الأصل والمنشأ، ذات تنوع طوبوغرافي بين الوادي والجبل والهضبة، مكسوّة
بحلة خضراء على مدار العام. وتتمتع بموقع جغرافي استراتيجي؛ فهي تقع في الخاصرة
الجنوبية الغربية للقدس وإلى الشمال الغربي من بيت لحم، وهي المحطة الأولى لخط سكة
الحديد بعد خروجه من القدس إلى يافا. كما أنها كانت من أهم مصادر المياه التي تغذي
القدس كلما عطش أهلها. وفي العام 2014 اتخذت
بتير مكانها ومكانتها على لائحة التراث العالمي.
ولد حسن مصطفى في تلك القرية الوادعة المطمئنة في
25/12/1915م، وتوفي ودُفن فيها بتاريخ 04/06/1961. وما بين يوم الفرح بمولده، ويوم
الحزن بوفاته -قبل أن يهنأ في قطع عتبة منتصف العقد الخامس من عمره-، كان نابغة
ومتميزًا منذ طفولته المبكرة حتى آخر لحظة من حياته.
سوف
نقوم، فيما يأتي، بالاتكاء على ما زودتنا به كريمته؛ الكاتبة والباحثة
"ناديه" التي تقوم على مركز يحمل إسم "حسن مصطفى الثقافي"،
وما أصدره من مراجع، منها: المجموعة الكاملة لمؤلفاته، والمشهد الثقافي التنموي في
بتير، وما كتب عن حسن مصطفى عند تأبينه ونعيه، والفهارس الفنية لمجلة القافلة التي
كان يرأس تحريرها.
حسن مصطفى: كاتب القرية بامتياز.. ونحّات الكلمة لاذع النكتة
تضم
المجموعة الكاملة لهذا المفكر، ثمانية كتب. وفي هذه الكتب، إلى جانب الفكر
والمعرفة والثقافة، أسماء تاريخية؛ منهم من كتب عن حسن مصطفي في حياته، ومنهم من
اعتصر ألمًاعلى فراقه؛ فسال مداد قلمه مؤبناً الرجل بما جادت به العاطفة والعقل
والموضوعية في الوصف.
جمع
حسن مصطفى بين ميزتين، قلما تتكرران في جيله، وهما: الأولى: أنه كاتب القرية التي
لم يغادرها، والثانية قوة الصياغة بلسان نقديٍّ لاذع. وعندما تجولت في ثنايا
مجموعته الكاملة وجدت مدى التحام حسن مصطفى بقريته بشكل خاص، وبالريف الفلسطيني
بشكل عام، وأنه بقي، حتى اللحظة الأخيرة من حياته محافظَا على هذا الرباط المقدس،
ما جعل المدينة وما فيها من الكتّاب والمفكرين والصحفيين والسياسيين وغيرهم من
الشرائح المجتمعية، يأتون إلى القرية الفلسطينية؛ لعلهم يختلسون من جمالها وبهائها
الذي أبرزه حسن مصطفى وروّج له ووصفه وأجزل الوصف.
حسن مصطفى: يؤنسن الشجر والحيوان.. والأدب الشّعبي صنوّ الجغرافيا
في
كتابه الأول "خطرات ريفية"، يرفع
حسن مصطفى شعارات ويعزز كتاباته بأمثال، تترك في نفس القارئ أثرًا لا يمكن محوه من
القيم والمثل العليا. فهو يرى أن "الأرض تتطلب حرثًا لا رجاءً". وقد "أنسن" الشجرة
الخالدة في حوار شائق، وحوار آخر بين الخنزير والبقرة. كما أنه ينصف "راعي
الغنم" عندما يعرفه بأنه "عَظَمَةٌ يسْترها ثَوْبٌ بَسيطٌ".
ثم يبحر في تبيان جمالية المجتمع الريفي، ورقّته، فيشيد بالغناء الشعبي الذي
"يجمع بين الحب والنخوة"، و"الساحة-المضافة" التي يرى
فيها "مكان للتربية".
وفي
هذا المجتمع تتقاسم الحيوانات الأدوار في منظومة الحياة اليومية، و"ترتفع
قيمتها في الليل لاعتبارات تفرضها يقظة القرية ورقادها؛ فالكلب حارس والدّيك منبّه".
وأما القطط فهي، من وجهة نظر حسن مصطفى، صاحبة تقويم خاص أسماه "التقويم
القططي"؛ يبدأ من أول شهر شباط، عندما "يعلو المواء ويستحيل إلى
زغردة، وتنقطع الزغردة إلى مفاصل واضحة، تكاد تقترب في بعض الأحايين من النطق".
وللنباتات حضور في كتابات حسن مصطفى، كالفجل واللفت والكرنب. وتكتمل الحلقة في
كتابه، بين الشتاء والصيف، هذا بوصف الحصاد في مشهد مسرحي: "صليل المناجل
يستمر، وقصل الزرع يتواصل، والإنشاد ينبعث من هنا وهناك، بلا انقطاع".
وفي كتابه الثاني "شخصيات"، الذي رأى فيه "خليل
السكاكيني" أنه "تتمة لكتابه الأول"، يستعرض سمات وخصائص شخصيات
رجل الشارع، والحرّاث، والحطّاب، والراعي، والموظف، وبائع الفستق، وبوليس المرور،
وساقي القهوة، و"بابا عيد الميلاد". ويعرّج على كل شخصيّة منها، واصفًا
الجوانب الظاهرة والخفيّة منها، ودورها في المجتمع الذي تتكامل فيه مع بعضها
البعض، لتشكل مجتمعًا متآلفًا متحابًا، كل فرد فيه يخدم المجموع.
كما
يتوقف، بالوصف وتبيان الخصائص المميزة لبعض الحيوانات، وكأني بحسن مصطفى، يلفت
النظر إلى أن الريف الفلسطيني هو تركيبة جميلة من العلاقات الإنسانية، المشبعة
بالرفق بالحيوان والاعتراف بدور الحيوانات في جمال البيئة الريفية وتوازنها،
وتكامل الأدوار بين مكوّناتها.
وفي
كتابه الثالث "من الأدب الشعبي والفصيح"،
وهو كتاب صغير الحجم، يتكامل مع كتابيه الأول والثاني في وصف الريف، ولكن هذه المرّة
يسلّط الضوء على الغناء الشعبي الفلسطيني، ويقارنه مع هذا الفن في كل من العراق
والأردن، مشيرًا إلى أن القاطنين في هاتين المنطقتين يمثّلون بداوة أصيلة،
جذورها في الجزيرة العربية وفروعها تتناوش الهلال الخصيب. مؤكدًا أن الفلسطيني
في أهازيجه يصبو دائمًا إلى الفتوّة والنخوة والشهامة، مستعينًا بنفس بدويّ رشيق
وصلابة جبلية متينة.
حسن مصطفى: يرسم واقعه بالكلمات.. ويترك فينا ما لا يُنسى
العامل
المشترك بين كتبه الثلاثة، الموصوفة أعلاه، أنها جاءت خلال حقبة زمنية متجانسة من
حيث الهدوء (الحذر). أما الكتب الخمسة الأخرى، فإنها تعود إلى أجواء النكبة،
وأثنائها وما بعدها. أي أن ما ورد فيها من مقالات ورؤى وآراء وأفكار، لا بد أن تحمل
ملامح النكبة وانعكاساتها، بشكل أو بآخر، وآثارها على واقع الشعب المنكوب.
فالكتاب
الرابع، الذي جاء بعنوان: "ما كتبه من مقالات
وخواطر في مجلات وصحف"، هو الأكبر حجمًا في هذه المجموعة –يشكل
نحو 30% منها-، يتكئ على ما كتبه حسن مصطفى من مقالات في مجلات المنتدى، والقافلة،
والهدف المقدسية)، وفي جريدتي الأردن، وفلسطين.
وأما
المقالات الصحفية، والتي تحتل مساحة واسعة من هذا الكتاب، فكانت (17) مقالًا، في
جريدة الأردن في العام 1949، تحت زاوية "واقعيات". لا تتحدث
"الواقعيات" عن النكبة، إلا أنها تحمل ملامحها، بشكل أو بآخر، ويقول في
الواقعية الأخيرة (رقم 17): "أنكى أنواع النكبات هي المصيبة التي يحرم
فيها على المصاب أن يتنفس عن كربه حتى ولو بقول (آخ) وكارثة فلسطين هي من المصائب
(المسنسرة), والسنسر: هي الكلمة الأجنبية للرقابة"، وفي آخر مقاله هذا
يحذر من كوارث جديدة! وفي ذلك إشارة إلى حجم الضغط والتعتيم الإعلامي والقهر الذي
رافق النكبة والمنكوبين.
وفي
مقالاته في جريدة فلسطين، يتطرق إلى شتى المواضيع؛ فيكتب عن الرجل والمرأة، وعن
الأعياد، وعن الأرض، وغير ذلك من المواضيع ذات الصلة بحياة الفرد والمجتمع. ومن
أجمل العبارات التي وردت في هذه المقالات:
·
تاهت
الأمم المتحضرة بعواصمها، مذ قالت عنها: "أم الدنيا"، ونحن إذ نتيه
بقدسنا، فهي "أم الدنيا والدين"، و"أم الأرض والسماء".
·
"الثقافة هي صقل العقل والخلق وتهذيبهما".
·
"الإيتيكيت" للرخاء، والفضائل الكبرى للشدائد، وهي لنا
ونحن لها!
يأتي
الكتاب الخامس "شخصيات إذاعية وآراء نقدية"،
ليدلل على المستوى الرفيع الذي كان يشغله حسن مصطفى على المستويات العلمية والفنية
والثقافية والنقدية. ويأتي كل ذلك مشبعًا بالمفاهيم والرؤى والفلسفات ذات الأبعاد
السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وإذا
كان من شئ مهم لاحظته، إلى جانب ما ورد من معلومات قيّمة حول تلك الشخصيات، فإنه
لا يمكنني القفز عن الصعوبة البالغة التي واجهتها وأنا أنقب بين الأسماء؛ لعلي
أصنفهم بحسب الأقطار التي ينتمون إليها، مما يؤكد على ما قاله المرحوم شفيق الحوت
في مذكراته، من أن الفلسطينيين لم يتحسسوا ممن يقودهم من أبناء الأمة العربية، وقد
استمر ذلك حتى أوائل ستينيات القرن العشرين، حيث أخذوا يمسكون بزمام أمورهم
بأيديهم.
أما
الكتاب السادس، فقد ضم بين دفتيه "الرسائل
والدعوات والترشح لانتخابات البرلمان الأردني". بقراءة متمعنة لهذا الكتاب، نجد أن حسن مصطفى،
في مراسلاته مع صانعي القرار في الدولة الأردنية، يطالب بتحسين وإنشاء بنية تحتية،
مركزها بتّير وتخدم قرى الجوار كالخضر ونحالين، واقتراحه شبكة طرق تبدأ من مار
الياس وتخدم العروب وجورة الشمعة وبرية التعامرة ونحالين وبيت جالا، مؤكدًا على أن
تلك الطرق تسهم في تحسين المستوى الزراعي في المنطقة، وفق مشروع: الزراعة والحياة.
وفي
مجال التعليم والمعرفة والثقافة، كانت مراسلاته التي طالب فيها بإنشاء مكتبة عامة
ومكتبات بيتية خاصة، ومدارس، وطلب متطوعين من الخارج للتعليم([1]).
ولم يتوقف اهتمامه بالمدرسة والتعليم على المستوى الأكاديمي، وإنما كان حريصًا على
توفير بيئة جمالية محيطة بالمدرسة؛ لتصبح ثقافة بين أبناء القرية الطلبة الذين
يقتبسون الفكرة ويشيعونها في بيوتهم ومجتمعهم.
نستنتج
من مراسلات حسن مصطفى أن مطّلع على تفاصيل ما يجري خلف كواليس الوزارات التي كان
يراسلها. ولعل ذلك يعود إلى المكانة الصحفية والإعلامية التي كان يتمتع بها؛ مما
جعله صاحب صولات وجولات يُحسب حسابها، فقلمه "اللاذع" لم يكن ليرحم من يرفض
له طلبًا، مهما صغر أو كبر، كإشارته في بيانه الانتخابي إلى مناطق "لم تمد
إليها يد العمران منذ الأزل، وكأنه الربع الخالي".
حسن مصطفى: ينقل التعاون من النظرية إلى التطبيق
لقد
جاء ختام المجموعة الكاملة لحسن مصطفى، بكتابيه: السابع "مذكرات التعاون"، والثامن باللغة الإنجليزية،
بعنوان:
EIGHT YEARS OF COMMUNITY DELVELOPMENT: BATTIR VILLAGE
في
هذين الكتابين، نجد أن حسن مصطفى ينتقل إلى الميدان مباشرة، وهو ينفذ على الأرض كل
ما ورد في كتاباته من أفكار. فكتابه السابع ينبئ القارئ عن محتواه من خلال عنوانه،
بأنه يتحدث عن التعاون وأهميته، وأهمية النهوض بالمجتمعات المحلية. ويكمل بتحليل وضع
الريف في المملكة الأردنية الهاشمية، التي كانت تضم (710) قرية، ويختم كتابه هذا
بالقول: عملية النهوض بـ "المجتمع المحلي" عملية تثقيفية أكثر منها
عملية تعميرية".
وأما
الكتاب الثامن، باللغة الإنجليزية، والذي ترجَمَته "ثماني سنوات لتطور المجتمع المحلي: قرية بتير"،
فهو يأتي كتطبيق عملي لما ورد في الكتاب السابع حول النهوض بالمجتمع المحلي من
خلال التعاون بين أفراده. ومما أورده من أمثلة في هذا الكتاب-الدراسة، تم تحقيقها
على مدى ثماني سنوات في حينه: تشجير القرية –بتّير- بنحو (16,000) شجرة، وتجهيز ملعب
لـ "كرة القدم"، وفتح مركز مجتمعي في العام 1958، وترميم بركة في
القرية، وتطوير وتعليم المرأة وتنمية مهاراتها، وفتح عيادة صحية، وفتح خدمات
البريد والهاتف وغير ذلك.
حسن مصطفى: ومضات أضاءت ظلمة
بتّير وجوارها
كثيرة هي الومضات التي أشاعها حسن مصطفى في
أجواء بتير، وكثيرة هي الأمال وصور التفاؤل التي بثّها في نفوس أبناء بلدته. إلا
أنني، وباطلاعي على دراسة "المشهد الثقافي
التنموي في ذاكرة العالم والعرب والفلسطينيين وأهالي بتّير"، وجدت
أن مديرة "مركز حسن مصطفى الثقافي"؛ كريمته "نادية"، قد أعادت
تسليط الضوء على إنجازات والدها، بما يجعل القارئ يطل على المزيد من التفاصيل،
التي يحتاجها الباحثون من الأجيال القادمة. ونظرً لكثرة تلك الإضاءات، فإنني أود
التركيز على ما يأتي: إعادة اللاجئين من أهالي بتّير، وزيارة المؤرخ البريطاني أرنولد
توينبي لقرية بتير، وتطوّر الزراعة وتعمقها في بتّير.
... ويبقى حسن مصطفى في الذاكرة
سوف
تبقى أفكار حسن مصطفى ومشاريعه ميدانًا للبحث الجاد والفاعل، القابل للتنفيذ
"الفوري" من قبل صانعي القرار على المستوى التنموي العربي، وعلى المستوى
الدولي في بعض جوانبه، وما كانت زيارة العالِم المعروف "توينبي" صاحب
نظرية "التحدي والاستجابة" إلى بتير إلا رحلة علمية ليرقب عن كثب
أنموذجًا حيًا من استجابة الإنسان الفلسطيني لتحديات الطبيعة وتحدي ما أصابه من
نكبة تعجز أعتى الأمم عن الصمود أمامها.
من
جانب آخر، نجد أن هناك العديد من الأبحاث والدراسات العلمية والمراجعات الرصينة،
التي تسلط الأضواء على الجوانب الشخصية المتعددة التي كوّنت حسن مصطفى المفكر،
والأديب، والفلّاح، والتعاوني، والتربويّ، والناقد. وقد ارتأيت أن أقتبس بعضًا من
أشعار تأبين حسن مصطفى من قبل شاعريْن فلسطينييْن مشهوريْن، مع بالغ تقديري
للشعراء الآخرين المؤبِّنين، هما:
أولًا: الشاعر خليل زقطان يؤبنه بقصيدة من (40) بيتًا من الشعر
العموديّ، ومما يقوله:
أبا مازن ما طواك الردى// ولست كما قيل نجمًا
أفل
ثانيًا: الشاعر اسكندر الخوري البيتجالي يؤبنه بقصيدة من (34)
بيتًا من الشعر العموديّ، ومما يقوله:
يا أبا مازن تحدّث إلينا// من قريب وقم خطيبًا
وحاضر
وأبو مازن وإن غاب
عنا// لم يزل بيننا وبالروح حاضر
باختصار الحديث، وبأقل الكلمات، يمكننا
القول بأن حسن مصطفى، وما فعله في قريته بتّير، وفي قرى ومدن الجوار، قد حقق المطلب
الإنساني في العيش الكريم على أرض الآباء والأجداد، وفي حالة من الأمن والأمان؛
فالتعليم متوفر، والطبيب والتطبيب والعلاج متوفر، والإنارة متوفرة، والاتصال
بالعام الخارجي متوفر، والبلد تدر الخيرات على أهلها... أليس في ذلك جنّة الله على
أرضه؟
إذا ما علمنا بأن العديد من مئات القرى
الأخرى قد حرمت من هذا كله، فإن الباحث في تلك الحقبة سوف يرى حسن مصطفى نجمًا
ساطعًا يشق ظلمة المكان والزمان. وسيبقى حسن مصطفى نبراسًا للأجيال المتعاقبة،
مهما طال الزمن، ومهما تطورت التكنولوجيا؛ إذ ستبقى مفاهيمه تواكب روح العصر على مرّ
الزمن.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 06/11/2017م
إرسال تعليق Blogger Facebook