في ذكرى المولد النبوي الشريف.. لنتخذ من حواراته "صلى الله عليه وسلّم" قدوة فيما بيننا بقلم: عزيز العصا

في ذكرى المولد النبوي الشريف..

لنتخذ من حواراته "صلى الله عليه وسلّم" قدوة فيما بيننا

نُشِرَ في صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 01/12/2017م، ص: 15

عزيز العصا

aziz.alassa@yahoo.com

http://alassaaziz.blogspot.com/

نعيش هذه الأيام ذكرى مولد سيد البشرية جمعاء، محمد صلى الله عليه وسلّم، الذي اصطفاه سبحانه وتعالى ليكمل مسيرة الهداية التي جاء بها نبي الله إبراهيم عليه السلام، ومن جاء من بعده، ليخرجوا العباد من الظلمات إلى النور. وأن نعيش الذكرى، يعني أن نتمعّن في حياته صلى الله عليه وسلّم، وكيف كان يدير شئون صحبه ويتعامل مع أبناء مجتمعه، القريب والبعيد، بالخلق القويم القائم على العدالة واحترام النفس البشرية.

تأتي هذه المقالة، وهي مقتطعة من مقالتي في مجلة الإسراء (العدد 137)، للبحث في سيرته النبويّة الشريفة، بالاعتماد على كتاب: "الحوار في السّيرة النبويّة: صور ومشاهد حية من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم"، لمؤلفه "عبد الباقي أحمد خلف"، صادر عن دار الفكر بدمشق في العام 2017. وقد اخترت حواره صلى الله عليه وسلّم مع كل من جاء إليه سائلًا أو محاورًا أو مجادلًا؛ مؤمنًا أو كافرًا؛ كبيرًا أو صغيرًا؛ رجلًا أو امرأة... الخ.

يختلف مفهوم الحوار السياسي عن مفهوم الحوار القرآني والنبوي اختلافاً عميقاً وكلياً، فالحوار القرآني موجه من الله تعالى إلى عباده، ليتجاوبوا مع نداء ربهم، والله منزّه غنيّ عن أيّ مصلحة. ومن أهم ما يتسم به الحوار النبوي:  

1)    العفو والتسامح: فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتصف عموماً بالعفو والصفح عمن أسرفوا في إيذائه.

2)    التواضع والتنازل للمحاور ودفع السيئة بالحسنة: فلم يكن صلى الله عليه وسلم، يتعالى على أحد، أو يرى ميزةَ لنفسه على الفقراء والمساكين.

3)    النزول للخصم: كان صلى الله عليه وسلم، ينزل لمحاوريه، متواضعاً، ليتم الإفهام، والتأثير الإيجابي المباشر في نفسه.

4)    البدء في الحوار بعرض النقاط القريبة من ذهن الآخر: وذلك لاستدراجه إلى الحق، شيئاً فشيئاً، وعدم إثارة المواضيع التي يعاند فيها الخصم.

5)    إمهال الخصم أحياناً ولو كان مغلوباً: وذلك لمنحه فرصة التفكير والاقتناع؛ ولكي لا يقهره ولا يذله.

6)    احترام رأي الآخر وقبوله عند تبين الصواب فيها.

أين نحن من حواراته صلى الله عليه وسلّم؟

الآن، ونحن نعيش أجواء من الإرباك والارتباك في الحوار الداخلي القائم بين أبناء الأمة أنفسهم، والحوار الخارجي بينهم وبين الأمم الأخرى، فإنه من الأهمية بمكان التعرف إلى حوارات الرسول، صلى الله عليه وسلّم، مع الناس بمشاربهم الفكرية وشرائحهم المجتمعية، ومهما كان قربهم من الإسلام لحد الإيمان بمحمد ورسالته، والاستشهاد دفاعًا عنه، ومهما كان بعدهم عن رسالة الإسلام وتناقضهم معها لحد الكفر بها، ومحاربتها والموت من أجل إيقافها عن الامتداد بكل السبل:

أولًا- الحوار مع الأقربين:

الأقربون أولى بالمعروف والتبليغ، وقد أمر الله نبيّه محمدًا، بأن يبلغ أهله وعشيرته برسالته، بقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214(، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قريشًا، وأوضح لهم أهمية التصديق بهذه الرسالة التي هي حياة الصلات بينه وبينهم، ليعلموا أن عصبية القرابة التي كانت تقوم عليها حياة العرب قد ذابت في لهيب هذا الإنذار الإلهي العظيم.

ثانيًا- الحوار مع المشركين:

عندما بدأ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأهله من قريش، ارتبك المشركون من قريش ارتباكًا شديدًا، وأخذوا يدورون حول أنفسهم؛ بسبب وقوعهم تحت نزعة الكِبْر ورفضهم النزول عن الجبل "الوهمي" الذي وضعوا أنفسهم على قمته، وبين قناعتهم "التامّة" بصدق محمد وأمانته في نقل الرسالة من ربّ العباد إلى العباد الذين يعبدون غير الله. فكان يحسن الاستماع إليهم، ويجادلهم بالتي هي أحسن، حتى يثنيهم عما هم فيه من الغيّ.

ثالثًا: الحوار مع المنافقين:

وضع صلى الله عليه وسلّم لكل حالة من المنافقين خطة تتناسب تماماً وحجم المحاولة التخريبية، وتكبتها قبل أن تجني ثمارها المرة، وقبل أن تزرع شوكها في طريق الدعاة والرسول، صلى الله عليه وسلم، بينهم، تتنزل عليه الآيات من الله تعالى محللة التكوين النفسي للمنافقين، ومشخصة نماذج منهم نكاد نلمسها بأيدينا، وهي تتلى علينا فاضحة خططهم اللئيمة قبل أن تقع، منددة بأساليبهم المرذولة وهم يعملون في الظلام دساً ووقيعة ومكراً. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعالج الموقف بالحكمة والمرونة، وإذا استدعى الأمر شدة شدد في الأمر، فكان يضع لكل موقف حلّه المناسب حتى يؤتي ثماره الطيبة من نشر الدين، وبلوغ الإيمان، دون حقد، ولا ثأر، ولا كراهية.

رابعًا- الحوار مع أهل الكتاب:

عندما صدح صلى الله عليه وسلم، بدعوته، كان يؤكد في حواره مع أهل الكتاب أنه صلى الله عليه وسلم، لم يأت بدين جديد غريب على الناس، وورد عنه أنه قال: مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا هذه اللبنة، وأنا خاتم النبيين.

وبالبحث المعمّق نجد تميزًا وخصوصية في علاقة المسلمين بالنصارى (أتباع المسيح عليه السلام)، فللمسيح في القرآن الكريم مقام عال، وأشاد القرآن الكريم بشهداء النصارى في العهود القديمة، من الذين كانوا على الدين الحق كشهداء الأخدود، كما أثنى على القسيسين والرهبان الذين حين سمعوا القرآن الكريم آمنوا به.

وبشأن الحوار مع اليهود، فقد كانوا جيران المسلمين، فكان حواره صلى الله عليه وسلم، يقابَلُ بالتكبر والهوى والعصبية العرقية غالبة عليهم. لذلك كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقوم بتذكيرهم كلما سنحت الفرصة أنهم مسئولون أمام الله عن الاعتراف بالحق، وكان كثيراً ما يذكرهم بما في كتبهم، فيتعجبون من اطلاعه على ذلك، ويعلمون أنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حقاً لكنهم لا يذعنون للدين الذي جاء به.

خامسًا: الحوار التعليمي التربوي مع الصحابة:

يتجلى الأسلوب التعليمي في محاوراته صلى الله عليه وسلم، مع صحابته بطريقة تتسم بالمرونة في الأخذ والرد؛ ليتناسب الخطاب مع قدرة الآخر، ومدى استعداده لتلقي الأمر الرباني، والحوار بطرح الأسئلة على السامعين؛ وذلك ليهيئ الأذهان لتلقي ما سيقوله، وليحدث لدى السامع استعداداً نفسياً وروحياً لفهم الأمر الشرعي وإدراكه، وقبوله عن رضا تام وإيمان لا يتزعزع.

سادسًا: أشكال أخرى من الحوار:

هناك العديد من الحوارات التي حاورها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والتي لا يتسع المجال لذكرها، فقد حاور الأسرى والأسيرات، وقال: "استوصوا بالأسرى خيرًا" حتى إن منهم من أسلم تأثرًا في طيب الحديث وصدقه وبعمق الإيمان. وقبل برأي المرأة، كأخذه برأي أم سلمة بعد صلح الحديبية عندما أشارت بنحر البدن، وحلق الرؤوس. وحاور بالكتب والرسائل؛ عندما أرسل كتباً عدة للملوك والأمراء، يدعوهم فيها إلى الإسلام وإلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فاختار لكل واحد منهم رسولاً يليق به، ويعرف بلاده، ولغته على الأغلب، منهم: النجاشي ملك الحبشة، وهرقل الروم، والمقوقس (ملك مصر).

ختامًا،

نجد في هذه الواحة الربّانيّة الواسعة الفسيحة، أن انتشر الإسلام في الأرض، وامتدت أنواره لتضيء المظلم من دروب البشرية، وتفتح المغلق من أبواب العدل والرحمة، بالكلمة الطيبة، والخلق الحسن، البعيد كل البعد أن الإرهاب والبطش بالنفس البشرية التي حرّم الله إلا بالحق.

هذا هو الدين القيّم الذي على أبنائه المحافظة عليه، واتخاذ المنهج الدعويّ لرسول الله صلى الله عليه وسلّم قدوة، بل أسوة سنة، فيما بيننا!

فلسطين، بيت لحم، العبيديّة، 26/11/2017م