في ذكرى
مولده صلى الله عليه وسلّم:
صور ومشاهد
من سيرته النبوية الشريفة
نشر
في مجلة الإسراء. تصدر عن دار الإفتاء الفلسطينية. العدد 137، كانون الأول وكانون الثاني/
2017-2018، ص ص: 30-41
عزيز العصا
مقدمة:
جاء مولد
محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلّم، في ظروف كانت فيها البشرية، على امتداد
كوكب الأرض، في حالة من الفوضى العارمة، وتلاطم مركبها أمواج الظلم الذي يمارسه
الحكام ضد رعاياهم، وظلم القوي للضعيف، والغني للفقير، وأمواج البشاعة في العلاقات
بين الأمم.
لذلك، جاءت رسالته، صلى
الله عليه وسلّم، رحمة للبشرية جمعاء، مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}
(الأنبياء: 107)، وورد في تفسير الطبري لهذه الآية الكريمة: يقول تعالى لنبيه محمد، صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك يا محمد
إلى خلقنا إلا رحمة لمن أرسلناك إليه من خلقي، ثم اختلف أهل التأويل في معنى هذه
الآية، أجميع العالم الذي أرسل إليهم محمد أريد بها مؤمنهم وكافرهم؟ أم أريد بها
أهل الإيمان خاصة، دون أهل الكفر؟ فقال بعضهم: عني بها جميع العالم؛ المؤمن
والكافر.
لقد
توقف الباحثون – من المسلمين وغير المسلمين- معمّقًا، لدراسة السيرة النبوية
الشريفة؛ منذ بزغ فجر الرسالة المحمدية، والدعوة إلى رسالة الإسلام الحنيف، حتى
توفاه الله، فكان آخر النبيين. وتأتي تلك الدراسات والتحليلات لتنير الطريق لبني
البشر باطّلاعهم على سيرة ومسيرة أشرف بني البشر وأطهرهم؛ للاهتداء بها كقنديل يضيئ
المظلم من الدروب، ويصحح المعوج من أمور حياتهم.
سوف نتطرق، فيما يأتي، إلى واحدة من الصور والمشاهد
المستقاة من السيرة النبوية الشريفة، وهو موضوع "الحوار في سيرته صلى الله
عليه وسلم، وكيف كان يدعو الناس، ويتعامل معهم على اختلاف طبقاتهم وعقائدهم".
وسنعتمد في ذلك كله على كتاب: "الحوار في السّيرة النبويّة: صور ومشاهد حية
من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم"، لمؤلفه "عبد الباقي أحمد
خلف"، صادر عن دار الفكر بدمشق في العام 2017، يتألف من (245) صفحة من القطع المتوسط، يتوزع عليها خمسة عناوين، هي: الحوار
تعريفه وآدابه، وحوارات المرحلة الجديدة: الهجرة، والحوار بالكتب والرسائل،
وحوارات فردية، وفتح مكة.
نظرًا لطول
المحتوى وضخامته، سنقوم باستعراض عدد من الملامح الرئيسة لهذا البحث، لوضع القارئ
الكريم في صورة الطرائق والأساليب والمنهجيات المختلفة التي اتبعها صلى الله عليه
وسلّم، في الحوار مع كل من جاء إليه سائلًا أو محاورًا أو مجادلًا؛ مؤمنًا أو
كافرًا؛ كبيرًا أو صغيرًا؛ رجلًا أو امرأة... إلخ.
الحوار: من التأصيل اللغوي.. إلى المعنى
الاصطلاحي
الحوار، من
الرجوع؛ حاورته: أي راجعته الكلام، ويسمى
الحوار جدالاً فيكون الجدال حواراً كلامياً، يتفهم فيه كل طرف من الفريقين
المتحاورين وجهة نظر الطرف الآخر،
مستشهدًا بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
(النحل: 125) (ص: 15-16).
لقد فطر الله، سبحانه وتعالى، البشر على الاختلاف في الطبائع الوراثية
الكسبية والتنشئة والتجربة والأهواء؛ فمن غير الممكن وجود شخصين متفقين في كل
الأشياء دون اختلاف، كما لا وجود لشخصين مختلفين في كل شيء. وهنا، يقوم الحوار
بدور إيجابي، إذ يفرغ الاختلاف من سلبياته، فينشط عامل البناء الإنساني فيه، ولا
يسمح لعامل الهدم والشر أن يلعب دوره بين الناس؛ لأنه يعطي مجالاً رحباً للرأي
الآخر، بل إن الحوار أداة للكشف عن الحقائق حتى لو كانت سلبية، فيسهل معالجتها،
وإيجاد الحلول السليمة لها (ص:
16-17).
وللحوار، في أيامنا هذه التي أصبح فيها العالم قرية صغيرة، قيمة حضارية
تؤدي إلى تفاهم الناس من مختلف اللغات والأديان والأجناس والأقوام؛ بما يعود
بالخير على الجميع. ويحتاج المسلم إلى تعلم مهارات الحوار، وكيفية التعامل مع
الآخرين، فالإسلام هو دين الحجة والحوار، ودحض الباطل بأسلوب الحكمة والموعظة
الحسنة، والمحاور في الإسلام هو داعية إلى الله، فيجب أن يدرك ذلك ويتمثله (ص: 25).
وأصبح الحوار عِلْمًا له عناصره، وشروطه التي تكفل الحوار البنّاء وتضمنه،
وفق أسس علمية تستند إلى تخصص المتحاورين في موضوع الحوار، وإحاطتهم الكافية
بتفاصيله، مصداقًا لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} (الحج: 8) (ص: 18-20). وعلى مستوى الدول، تحول الحوار إلى وسيلة للتفاهم بينها
أو بين الحكومات والشعوب، بهدف تحقيق المصالح، وإرضاء النزوات، وتقاسم المنافع
المتبادلة، ولو أدى ذلك إلى طمس الحقيقة، أو ظلم المحق، أو هضم الحقوق (ص: 26).
الحوار النبوي: السمات والخصائص
لا شك في أن ما كان يقوم به رسول الله، صلى الله
عليه وسلّم، من قولٍ أو عمل أو فعل، لم يكن لينبع من علمه ومعرفته وثقافته – الخاصة
والعامة-، وإنما هو تنفيذ لأوامر الله سبحانه وتعالى، لقوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ
الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 2-3).
وأما بشأن الحوار، فقد بني الإسلام، منذ فجر النبوّة، على الحوار؛ فكانت أول آية
في القرآن الكريم، حين نزل الوحي عليه، صلى الله عليه وسلم،: "اقرأ"،
فقال: ما أنا بقارئ، فقال الوحي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1) (ص: 27).
وبذلك، يكون صلى الله عليه وسلّم أسوة حسنة للمسلمين في
زمانه، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ويختلف مفهوم الحوار السياسي عن مفهوم الحوار القرآني
والنبوي اختلافاً عميقاً وكلياً، فالحوار القرآني موجه من الله تعالى إلى عباده،
ليتجاوبوا مع نداء ربهم، والله منزّه غنيّ عن أيّ مصلحة. ومن أهم ما يتسم به
الحوار النبوي (ص: 22-25):
1. العفو
والتسامح: فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتصف عموماً بالعفو
والصفح عمن أسرفوا في إيذائه، وخير دليل على ذلك أنه جعل من دخل دار أبي سفيان
آمناً وأعطاه، مع غيره، من غنائم حنين ما أعطاهم من المال كثيراً.
2. التواضع
والتنازل للمحاور ودفع السيئة بالحسنة: فلم يكن صلى
الله عليه وسلم، يتعالى على أحد، أو يرى ميزةَ لنفسه على الفقراء والمساكين، وهذا
سر تعلقهم به، وحبهم له، وسرعة دخولهم في الإسلام. كما قابل خصومه من أهل مكة
الذين آذوه وحاربوه، وحاولوا قتله مراراً بالحسنى، والإحسان إليهم.
3. النزول للخصم: كان صلى الله
عليه وسلم، ينزل لمحاوريه، متواضعاً، ليتم الإفهام، والتأثير الإيجابي المباشر في
نفسه، وكان حينما يأتيه أحد المشركين ليعرض عليه التنازل أو المساومة في دعوته،
كان يستمع لرأيه حتى يفرغ من عرض طلباته، دون كلل أو ملل، ثم يقوم صلى الله عليه
وسلم، بالرد بهدوء، وغالباً ما يكون رده تلاوة آيات من القرآن الكريم؛
فيقوم الخصم من عنده، وهو مشبع بسماع القرآن الكريم، وقد بلغته الحجة الإلهية على
أحسن وجه، فربما ذهب إلى قومه، وهو يدافع عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعن
القرآن الكريم.
4. البدء في الحوار بعرض النقاط القريبة من
ذهن الآخر: وذلك لاستدراجه إلى الحق، شيئاً فشيئاً، وعدم إثارة
المواضيع التي يعاند فيها الخصم.
5. إمهال الخصم أحياناً ولو كان مغلوباً: وذلك لمنحه فرصة التفكير والاقتناع؛ ولكي لا يقهره ولا
يذله.
6. احترام رأي الآخر وقبوله عند تبين الصواب
فيها.
الحوار النبوي: الصور الحية في الحوار مع الآخر
ونحن نعيش
أجواء من الإرباك والارتباك في الحوار الداخلي القائم بين أبناء الأمة أنفسهم، والحوار
الخارجي بينهم وبين الأمم الأخرى، فإنه من الأهمية بمكان التعرف إلى حوارات الرسول،
صلى الله عليه وسلّم، مع الناس بمشاربهم الفكرية وشرائحهم المجتمعية، ومهما كان
قربهم من الإسلام لحد الإيمان بمحمد ورسالته، والاستشهاد دفاعًا عنه، ومهما كان
بعدهم عن رسالة الإسلام وتناقضهم معها لحد الكفر بها، ومحاربتها والموت من أجل
إيقافها عن الامتداد بكل السبل. وسوف نستعرض، فيما يأتي، نماذج من تلك الحوارات
التي تشكل، في مجموعها، صورة حية لسمات وخصائص الحوار النبوي المذكورة أعلاه:
أولًا- الحوار مع الأقربين:
الأقربون أولى بالمعروف والتبليغ، وقد أمر الله نبيّه
محمدًا، بأن يبلغ أهله وعشيرته برسالته، بقوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}
(الشعراء: 214(، فدعا رسول الله، صلى الله عليه
وسلم، قريشًا، وأوضح لهم أهمية التصديق بهذه الرسالة التي هي حياة الصلات بينه
وبينهم، ليعلموا أن عصبية القرابة التي كانت تقوم عليها حياة العرب قد ذابت في
لهيب هذا الإنذار الإلهي العظيم (ص: 31-32).
وتبع ذلك حوارات فردية وجماعية، لعل أشهرها، حواره صلى
الله عليه وسلّم مع عمه "أبي طالب" الذي اقتنع بأن دعوة ابن أخيه ليست
دعوة دنيوية، القصد منها كسب المال أو الجاه ولكنها دعوة إلهية، وأنه من واجبه
الدفاع عنه إلى آخر نفس في حياته، وهو ما كان منه فيما بعد، لكن شاء الله سبحانه
أن لا يعلن إسلامه لحكمة يعلمها الله، قيل حتى لا تحسب أنها دعوة قبلية (ص: 35-37).
ثانيًا- الحوار مع المشركين:
عندما بدأ رسول
الله، صلى الله عليه وسلم، بأهله من قريش، ارتبك المشركون من قريش ارتباكًا
شديدًا، وأخذوا يدورون حول أنفسهم؛ بسبب وقوعهم تحت نزعة الكِبْر ورفضهم النزول عن
الجبل "الوهمي" الذي وضعوا أنفسهم على قمته، وبين قناعتهم
"التامّة" بصدق محمد وأمانته في نقل الرسالة من ربّ العباد إلى العباد
الذين يعبدون غير الله. ففي حين أنه صلى
الله عليه وسلم، كان يحاورهم ببراعة واحترام للآخر، وفق المنهج النبوي، وهو مؤمن
بما جاء به، ولن يثنيه عنه عروضهم مهما بلغت، أخذوا هم يساومونه بعروض تثير الشفقة
عليهم، منها:
1.
اعترضه مجموعة من قادتهم، وهو يطوف بالكعبة فقالوا له: يا محمد هلم فلنعبد
ما تعبد وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيراً مما
نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد، كنت قد أخذت بحظك
منه، فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (الكافرون:
1) (ص: 43-44).
2. عندما عرض عليه عتبة بن ربيعة المال والملك وغير ذلك، على أن يتراجع عن دعوته، انتظر صلى
الله عليه وسلم، حتى فرغ عتبة، فتلا عليه أول ست
آيات من سورة فصّلت، ثم نزلت الآيات الكريمة (18-22) من سورة المدّثّر تصدع بالحق
رادّة على عتبة وجماعته الذي حمّلوه وزر تلك العروض والمساومات الباطلة (ص: 45-47).
ثالثًا: الحوار مع المنافقين:
ولم يكن المجتمع في عهد رسول الله،
صلى الله عليه وسلم، خالياً من المنافقين (منهم من كان على علاقة وثيقة باليهود)،
ولم يكن من السهل تجاوزهم إلى آفاق الإسلام الرحبة والانضباط بتعاليمه؛ فهذه سنة
الله في الكون، وقد آذى هؤلاء حركة الإسلام كثيراً، ووقفوا عائقاً أمام انتشاره
وتبليغه، واستغلوا تسامح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعفوه في كثير من
المواقف، لكنهم كانوا يفشلون في كل مرة، وقد كان رغم كل ما يعاملهم به رسول الله،
صلى الله عليه وسلم، من اللين والرقة والمسامحة، لا يتوانون عن المكائد، وإثارة
الفتنة، وإيقاد نار الحرب.
لقد وضع صلى الله عليه وسلّم لكل حالة من المنافقين خطة تتناسب تماماً وحجم
المحاولة التخريبية، وتكبتها قبل أن تجني ثمارها المرة، وقبل أن تزرع شوكها في
طريق الدعاة والرسول، صلى الله عليه وسلم، بينهم، تتنزل عليه الآيات من الله تعالى
محللة التكوين النفسي للمنافقين، ومشخصة نماذج منهم نكاد نلمسها بأيدينا، وهي تتلى
علينا فاضحة خططهم اللئيمة قبل أن تقع، منددة بأساليبهم المرذولة وهم يعملون في
الظلام دساً ووقيعة ومكراً (ص:
165-166). وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعالج الموقف بالحكمة
والمرونة، وإذا استدعى الأمر شدة شدد في الأمر، فكان يضع لكل موقف حلّه المناسب
حتى يؤتي ثماره الطيبة من نشر الدين، وبلوغ الإيمان، دون حقد، ولا ثأر، ولا كراهية
(ص: 171).
رابعًا-
الحوار مع أهل الكتاب:
كان أول حوار
لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع أهل الكتاب، وقبل بعثته بسنوات، مع الراهب
بحيرى، الذي قال لأبي طالب: ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فو الله
لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت، ليبلغنه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم (ص: 52-53).
وعندما صدح صلى
الله عليه وسلم، بدعوته، كان يؤكد في حواره مع أهل الكتاب أنه صلى الله عليه وسلم،
لم يأت بدين جديد غريب على الناس، وورد عنه أنه قال: مثلي ومثل الأنبياء من قبلي،
كمثل رجل بنى بيتاً، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس
يطوفون به، ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا هذه اللبنة، وأنا
خاتم النبيين (ص: 56).
وبالبحث
المعمّق يشير المؤلف إلى تميز علاقة المسلمين بالنصارى (أتباع المسيح عليه
السلام)، فللمسيح في القرآن الكريم مقام عال، وأشاد القرآن الكريم بشهداء النصارى
في العهود القديمة، من الذين كانوا على الدين الحق كشهداء الأخدود([1])، كما
أثنى على القسيسين والرهبان الذين حين سمعوا القرآن الكريم آمنوا به، قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ
أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ
الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا
وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة: 82)، والآية واردة في النجاشي
وحاشيته، الذي كان خروج صحابة الرسول، صلى الله عليه وسلم، إليه أول هجرة في
الإسلام (ص: 57-61).
بشأن الحوار مع
اليهود، فقد كانوا جيران المسلمين، فكان حواره صلى الله عليه وسلم، معهم يختلف عن حواره
مع المشركين؛ فيدعو صلى الله عليه وسلم، المشركين إلى الدين، وترك عبادة الأصنام،
ويذكرهم بالله خالق السموات والأرض، ويخاطب عقولهم، ويستثيرها محاولاً إخراجهم من
التقليد الأعمى لآبائهم، وإيقاظ التفكير السليم في داخلهم. وأما مع اليهود، فالأمر
مختلف كل الاختلاف؛ لأن مرضهم يختلف عن غيرهم اختلافاً كبيراً، فقد كان التكبر
والهوى والعصبية العرقية غالبة عليهم. لذلك كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقوم
بتذكيرهم كلما سنحت الفرصة أنهم مسئولون أمام الله عن الاعتراف بالحق، وكان كثيراً
ما يذكرهم بما في كتبهم، فيتعجبون من اطلاعه على ذلك، ويعلمون أنه رسول الله، صلى
الله عليه وسلم، حقاً لكنهم لا يذعنون للدين الذي جاء به (ص: 119).
وحين قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة كان من الأعمال
المهمة التي قام بها إبرام معاهدة جوار مع اليهود، فامتنعوا عن اتّباعه، فكتب
بينهم كتاباً، وكانوا ثلاث قبائل "قينقاع، والنضير، وقريظة" فنقض
الثلاثة العهد، طائفة بعد طائفة، فمنّ على بني قينقاع، وأجلى بني النضير، واستأصل
بني قريظة (ص: 117).
وقد
رُوي أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كلم رؤساء من أحبار يهود، فقال لهم: يا معشر
يهود اتقوا الله وأسلموا فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق، قالوا: ما
نعرف ذلك يا محمد، فجحدوا ما عرفوا، وأصروا على الكفر([2])
(ص: 138).
خامسًا: الحوار التعليمي التربوي مع الصحابة:
كان أول ما دعا إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين وصوله إلى المدينة
إفشاء السلام، وإطعام الطعام، وكان ذلك علامة على الخير، ونشر الفضيلة، والمحبة
بين الناس (ص: 78).
وفي مجال تعامله مع صحابته كان صلى الله عليه وسلّم يستعمل الحوار التعليمي
والتربوي بشكل كبير؛ وذلك لتوجيه الصحابة والأمة من بعدهم إلى تجنب بعض الأعمال المكروهة
أحيانا التي تؤدي إلى إيذاء المجتمع أو إلى إفساد العبادة (ص: 84).
ويتجلى الأسلوب التعليمي في محاوراته صلى الله عليه وسلم، مع صحابته
بطريقة تتسم بالمرونة في الأخذ والرد؛ ليتناسب الخطاب مع قدرة الآخر، ومدى
استعداده لتلقي الأمر الرباني، والحوار بطرح الأسئلة على السامعين؛ وذلك ليهيئ
الأذهان لتلقي ما سيقوله، وليحدث لدى السامع استعداداً نفسياً وروحياً لفهم الأمر
الشرعي وإدراكه، وقبوله عن رضا تام وإيمان لا يتزعزع (ص: 88).
ومن المبادئ الإسلامية الأصيلة، حوار الشورى، الذي مارسه رسول الله، صلى
الله عليه وسلم، بصفته لوناً من ألوان الحوار لا يستغني عنه المسلمون في شؤون
حياتهم، مصداقًا لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159)، فكان
حوار الشورى في معركة بدر (ص:
90)، وحوار معركة أحد ورأي
الأكثرية في الخروج للحرب (ص: 100-103)، ومعركة الأحزاب وقبول الرأي الصائب بحفر
الخندق (ص: 104-107).
سادسًا: أشكال أخرى من الحوار:
هناك العديد من الحوارات التي حاورها رسول الله، صلى
الله عليه وسلم، والتي لا يتسع المجال لذكرها، فقد حاور الأسرى والأسيرات، وقال:
"استوصوا بالأسرى خيرًا" حتى إن منهم من أسلم تأثرًا في طيب الحديث
وصدقه وبعمق الإيمان (ص: 94-100). وقبل برأي المرأة، كأخذه برأي أم سلمة بعد صلح
الحديبية عندما أشارت بنحر البدن، وحلق الرؤوس (ص: 151-152). وحاور بالكتب
والرسائل؛
عندما أرسل كتباً عدة للملوك والأمراء، يدعوهم فيها إلى الإسلام وإلى سبيل ربه
بالحكمة والموعظة الحسنة، فاختار لكل واحد منهم رسولاً يليق به، ويعرف بلاده،
ولغته على الأغلب، منهم: النجاشي ملك الحبشة، وهرقل الروم، والمقوقس (ملك مصر) (ص:
154-164).
وهناك حوارات فردية، يصعب حصرها في هذه
العجالة، تهدف إلى توبة العاصي، وتشير إلى أن المسلم لا يحمل حقدًا لأحد، والوفاء
بالعهد (ص: 176-185). كما كان للحوارات بعد فتح مكة، والتي كانت السمة الأساسية فيها تعامل الرسول، صلى الله عليه
وسلم، مع الناس عامة، ومع الأقربين على وجه الخصوص التسامح والعفو؛ لأن الغاية من
دعوته تبليغ دين الله، وما زالت الغاية قد تحققت، فلا يمكن الالتفات إلى الأمور
الأخرى التي قد تنطوي على شهوات النفس وحظوظها، بل قد تحمل كثيراً من رغبات الهوى
التي نهى الله عنها (ص:
207).
ختامًا،
لقد جاءت هذه المراجعة الشاملة للحوار في السّيرة النبويّة، وهي تتبع الصور والمشاهد الحية من سيرة رسول
الله، صلى الله عليه وسلم، ما ينعش الفؤاد، ويريح النفس، ونحن نحيا نشوة التجوال
بين ثنايا سيرة سيد البشرية جمعاء، وخير خلق الله وأفضلهم، وإمام الأنبياء والرسل
أجمعين. فوجدنا رسائل لا تحصى، حملتها تلك الحوارات المشبعة بالهدى والهداية،
والعطف والحنو والرحمة، دون إغفال الشدّة والحزم، كلما تطلب الأمر ذلك.
فكانت النتيجة، واستنادًا إلى هذه الواحة الربّانيّة
الواسعة الفسيحة، أن انتشر الإسلام في الأرض، وامتدت أنواره لتضيء المظلم من دروب
البشرية، وتفتح المغلق من أبواب العدل والرحمة، وتفكّ أيادي المظلومين والبؤساء
الذين كبّلتهم قيود الظلم والطغيان من قادتهم وسادتهم. هذا الدين القيّم الذي على
أبنائه المحافظة عليه من شرور المدّعين؛ الذين ليسوا من رسول الله، صلى الله عليه
وسلّم، ومنهجه الدّعوي النبويّ في شيء!
ولا يمكنني المغادرة قبل أن أتوجه بالشكر لمؤلف الكتاب
"عبد الباقي أحمد خلف"، ولمؤسسة
"دار الفكر"، وللصديق وحيد تاجا الذي لا يبخل في تلبية طلبات تزويدي
بإصدارات هذه الدار من إنتاجها من الكتب الدينية والأدبية والفكرية.
[2] أنزل الله فيهم قوله تعالى: {مِّنَ
الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ
سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا
بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن
لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً* يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا
مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ
نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ
مَفْعُولاً} (النساء:
46-47).
إرسال تعليق Blogger Facebook