0

النكسة في ذكراها الحادية والخمسين:
شفيق الحوت وأنور الخطيب يكشفان عن المُعتدي!
نُشِرَ في صحيفة القدس المقدسيّة، بتاريخ: 05/06/2018م، ص: 11
                                                         عزيز العصا
المقدمة
لا شك في أن الحديث عن النكسة واستذكارها أشبه ما يكون بتجرّع العلقم بل علقم العلقم. هذا هو الشعور الذي ينتاب الجيل الذي عاش تلك اللحظات وعايشها، خلال الفترة التي تبدأ في مثل هذا اليوم (الخامس من حزيران) من العام 1967م، وتمتد إلى نصف قرن بعدها. وهذا هو شعور الأجيال اللاحقة التي تتجرّع نتائجها كلما شرقت الشمس وغربت.
ها نحن نلج النصف الثاني من القرن من عمر النكسة. نقول "عمر النكسة" ولا نقول "ما بعد النكسة"؛ لأن النكسة التي بدأت في ساعتها وتاريخها، وما نجم عنها من اكتمال احتلال فلسطين وأجزاء من الوطن العربي، أخذت تتسع، ويتعمّق أثرها المأساوي، يومًا بعد يوم، دون توقّف أو تباطؤ، فها هو الوطن يُقضم قطعة قطعة ودونمًا دونمًا، والاستيطان يتوسّع حتّى أن المستوطنين يُطلِّون علي غرف نوم أطفالنا، وهم وحكومتهم كما الانتشار السرطاني في جسد افتقد القدرة على المقاومة.
في اليوم الرابع للحرب يواصل فلسطينيون عبور جسر اللنبي بعد قصفه من القوات الصهيونية
ونحن في أجواء الذكرى الحادية والخمسين لتلك الكارثة الوطنيّة والقوميّة والدينيّة، فإنه من المهم للغاية أن نتوقّف عند النكسة كحدث متّصل بالنكبة التي سبقتها بنحو عشرين عامًا. فإذا كانت النكبة هي الزلزال الذي أصاب الشعب الفلسطيني في المقتل؛ بضياع 78% من أرضه وذبح وتشريد وتهجير نحو المليون من أبنائه، فإن النكسة هي واحدة من ارتدادات ذلك الزلزال.
قد يقول قائل: إن ارتدادات الزلزال أقل أثرًا وحدّة من الزلزال المركزي، ولكننا نقول: إن هذا الارتداد ليس كذلك؛ بل إنه كان أكثر أثرًا وتأثيرًا، فخلال الحقبة الزمنيّة الممتدة بين النكبة والنكسة، تشأ وترعرع خطاب سياسي وإعلاميّ قوميّ يَعِد الجماهير ويعدّها "معنويًا" لانتصار مؤزر يعيد الحقوق لأصحابها، ويعوّض الشعب الفلسطينيّ عمّا لحق به من ويلات. وهذا يعني أن جماهير الأمة قاطبة أصبحت تنظر إلى "النكبة" كحدثٍ عابر في طريقه إلى المعالجة الجذريّة وكأن شيئًا لم يكن.
وعندما حصلت الهزيمة –أطلق عليها الإعلام العربيّ "النكسة"- وجاءت بما جاءت به من نتائج، أدّت إلى تعميق الجرح، وسيطرة اليأس والإحباط، وجعل الانتصار والتحرير واستعادة الحقوق المغتصبة مجرّد أضغاث أحلام تتحطم على صخرة الواقع، فأحدثت خللًا كبيرًا في المفاهيم، أربك الخطاب الإعلامي والسياسي المذكور، وجعله يدور حول نفسه بلا هادٍ ولا دليل.
أما الجماهير (العربية) فانزاحت لمن يرفض الواقع الجديد ويتحداه ويمارس الكفاح المسلّح؛ فانطلقت التنظيمات الفلسطينية المسلّحة تقاتل وهي مستندة إلى الجماهير العربية الغاضبة، التي شكلت حاضنة آمنة لتلك التنظيمات، ووصل الأمر بها إلى المشاركة الفاعلة في القتال إلى جانبها([1]). وظهر تيّار فكريّ يعتبر تلك النكسة، والنكبة التي سبقتها، حلقة من تاريخ طويل، واعتبارها طبيعية في صراع الإنسان مع الجيوش الغازية([2]).
بمرور الزمن، وبعد أن "صحصح" النظام الرسميّ العربيّ من صدمته، التفت إلى إنجازات الكفاح المسلّح والنتائج التي يحققها على الأرض، ومن خلفه الجماهير العربية، ولعلّ من أكثر النماذج الحية لهذا الحال معركة الكرامة في آذار/ 1968، التي انتهت باندحار الجيش الإسرائيلي المعتدي على الأراضي الأردنية بتلاحم فلسطيني-أردني رائع. بعدئذ، كان ما كان من صراع على الأرض العربية المجاورة لفلسطين، ما أخرج قطار الكفاح المسلّح عن السكّة، التي "جرّته" أوسلو-الكارثة الوطنية؛ لأنها اتفاقيّة لم يُنفّذ منها إلا ما يخدم الاحتلال ويزيد من سيطرته وسطوته وعنجهيّته وصلفه.
ومما يدفع الأمر من السئ إلى الأسوأ، بل إلى أسوأ الأسوأ، أن راعي تلك الاتفاقيّة ومهندسها أعلن عن ولائه المطلق والتام للدولة العبريّة واعترافه بالقدس عاصمة لها، وإطلاق يد السرطان الاستيطاني الذي لا يُبقي ولا يذر، وتفتيت أرضنا بمئات الحواجز المذلّة والمهينة... الخ، وتنكّره المطلق والتام للشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته والعيش الحر الكريم على ما تبقى من أرضه. والنتيجة هي القتل اليوميّ والقنص الذي يتعرّض له شعبنا في قطاع غزّة، وفي أي حالة يخرج فيها أي فلسطينيّ محتجًا على الظلم والطغيان المهيمن على أرض فلسطين التاريخيّة.
هذا جزء يسير من نتائج النكسة التي لا يتسع المجال لذكرها. ويبقى السؤال الأكثر إلحاحًا وأهمّيّة، وهو: كيف انطلقت تلك الحرب، ومن هو المعتدي الرئيس فيها؟
إن ظاهر الأمر، والذي يمكن لـ "ساذجٍ" أن يتبناه، وفق رواية الحلف الصهيوني-الامبريالي، يوحي بأن "إسرائيل" دافعت عن نفسها بحربٍ "استباقيّة" في مواجهة عدوّ "قويّ" كان يعد العدّة للقضاء عليها للإلقاء بها في البحر!
وأمّا حقيقة الأمر، ووفق "أنور الخطيب" –محافظ القدس في حينه- في مذكراته، فهي([3]): أن الدول العربية الحدودية مع فلسطين لم تكن جاهزة لأي حرب، بل إنها كانت في ذروة التمزق والخلافات والحروب الإذاعية، فيما بينها، ودون توفير الحد الأدنى من عوامل الصمود والمواجهة. ومن جانب العدو، كان يسوسه دهاة السياسة والعسكرية، تمكنوا، عبر وسيط أمريكي، من إقناع المصريين أن الحرب بعيدة الوقوع([4]).
جمال عبد الناصر يتسلم أوراق إعتماد أنور الخطيب سفيرًا للأردن في مصر، ويرى في الصورة عبد المنعم رياض وزير الخارجية
ويؤكد ابتلاع القيادة المصرية لهذه الخدعة، ما يقوله شفيق الحوت في مذكراته أيضًا: "اللغز الذي لم أستطع تفسيره حتى الآن، هو كيفية وقوع عبد الناصر في فخ حرب 1967، وهو الذي قال حرفيًا، قبل ثلاثة شهور أنه لن يخوضها إلا لينتصر، وأنه بحاجة إلى ثلاثة أعوام لتوفير شروط هذا النصر"([5]).

خلاصة القول،
النكسة، وإن بدا مصطلحًا مخففًا، هي هزيمة نكراء منيت بها الأمة العربيّة قاطبة، كما أنّها شرّخت الكارثة للشعب الفلسطيني، وعمّقت جرحه النازف منذ عشرين عامًا –في ذلك الحين-، وجعلت إمكانيّة نيله حقوقه المغتصبة أكثر بعدًا، وأكثر تعقيدًا، عما كانت عليه. كما أن تلك الحرب تسجّل للتاريخ أن القيادة العربيّة وقعت في شَرَكٍ نصبه لها "العدوّ" بحنكة ودهاء عسكريّ وسياسيّ، عبر أمريكا؛ الوسيط غير النزيه وغير المحايد، بل هي من تمادت بانتزاع القدس-القلب من الجسد الفلسطينيّ؛ محاولةً جعله واهنًا غير قابلٍ للحياة.
وأما نتيجة ذلك كلّه فهي الحالة الدائمة والمستمرّة: ضياع فلسطين كاملةً، ووضع أبنائها في بيت النار، لتبقى قافلة الشهداء والجرحى تتضخّم يومًا فيومًا، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 02 حزيران، 201

    
     
       


 




[1] العصا، عزيز (2017). خمسون عامًا على النّكسة: اليمين الصّهيوني يترعرع.. والوحش الاستيطاني يغرس أنيابه في كلّ مكان. مجلة أوراق فلسطينية. العدد: 17. ص: 59-68.
[2] ماضي، شكري عزيز (1978). انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. لبنان. ص: 32.
[3] الخطيب، أنور (1989). مع صلاح الدين في القدس - تأملات وذكريات. دار الطباعة العربية. القدس. ص: 78، 69، 47.
[4] الخطيب، أنور (1989). مع صلاح الدين في القدس - تأملات وذكريات. دار الطباعة العربية. القدس. ص: 73، 85.
[5] الحوت، شفيق (2015). بين الوطن والمنفى - من يافا بدأ المشوار. منظمة التحرير الفلسطينية. رام الله. فلسطين. ط2. ص: 161.

إرسال تعليق Blogger

 
Top