تعليقات عبد الله البديري قبل ثلاثين عامًا:
النكسة كشفت عن جسمنا العليل..
وأمتنا أقوى من كل الكبوات والنكبات والنكسات!
عزيز
العصا
منذ أن تعرفت على "عبد الله
البديري" في العام 2009، ومن خلال حواراتي معه، فتح الآفاق على بعض القضايا التاريخية
والفكرية والاجتماعيّة، التي كنت أجهلها عن القدس وعن فلسطين، وعن الأمّة العربيّة
بشكل عام. وبعد أن صُدِمت بوفاته في (05/06/2011م)، وبعون من كريمته
"شيماء"، شرعت في تقليب مقالاته، فاعتدت على أن أكتب في الذكرى السنويّة
لوفاته مقالًا أرصد فيه ما قاله قبل ثلاثين عامًا بالضبط. وفي هذا العام (2018)،
وقع الاختيار على زاوية تعليقات سريعة، التي كتبها قبل ثلاثين سنة من الآن، في
مجلة البيادر السياسي، وبالتحديد في 01/10/1988م.
امتازت هذه الزاوية، كباقي زوايا
وكتابات عبد الله البديري، بالكثافة والتركيز على جوهر الفكرة؛ دون الخوض في
التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، وإنني أرى في ذلك أن الكاتب يحترم عقل القارئ وذكائه،
كما يحترم وقته وجهده في القراءة. والتزامًا بالأمانة العلمية في النقل والاقتباس،
يسعدني أن أصطحبك أيها القارئ العزيز في رحلة فكريّة في هذه الزاوية المنتقاة:
§
اختار
لنا عبد الله البديري أقصر قصّة عرفتها الدنيا –في حينه- مكونة من (50) كلمة، للكاتب الروسي تشيكوف، ونصّها:
منذ أربعين سنة، وعندما كنت في الخامسة عشرة، عثرت في
الطريق على ورقة مالية من فئة العشرة روبلات، ومنذ ذلك اليوم لم أرفع وجهي أبداً
عن الأرض، وأستطيع الآن، وأنا على حافة القبر، أن أحصي محصول حياتي، وأن أسرده كما
يفعل أصحاب الثروات: (2917) زراً و(381) دبوساً، و(13) سن ريشة كتابة، و(3) أقلام
ومنديل واحد (كله برابير).
لم يمرّ البديري عن هذه القصّة مرور الكرام، بل أتحفنا
بقراءة نقدية بارعة، كثّفها في الاستنتاجات التالية، التي وجّهها للأجيال القادمة:
1)
نسي "تشيكوف" أن يقول لنا بأنه خرج من معركته
بظهر منحن وحياة بائسة.
2)
إنها عاقبة الذين يحنون رؤوسهم، ويسلطون عيونهم على
الأرض تحت أقدامهم، ليلتقطوا النفايات وتوافه الأشياء...
3) أما أصحاب
الهامات الشامخة والنظرات الثاقبة فينظرون إلى (فوق)، فهناك الانطلاق، وهناك
الكفاح وهناك العناق مع النجاح...
4)
ويا أبناء أمتي وبناتها، أنظروا دائماً إلى فوق، فإن فوق
الغيوم نجوماً.
بهذا، يكون عبد الله البديري قد أخذ دور
الكاتب-الناصح-المرشد صاحب الفكر الراجح، القادر على فهم ما بين السطور وقراءة
الممحي كما يُقرأ المكتوب. ولا أعتقد أنه، باستنتاجاته، ترك لي ما أضيفه، سوى
قراءة ما كتبه وإعادة القراءة والفهم والتطبيق.
وفور الانتهاء من تلك القصّة والاستنتاجات، ينتقل بنا
الكاتب للحديث عن النكسة، التي يصادف اليوم مرور (51) سنة عليها، فيقول فيها عبد
الله البديري، قبل ثلاثين عامًا، وصفًا دقيقًا، وتشخيصًا للأسباب، التي يوجزها
بقوله:
لقد كشفت النكسة -عام 1967م- عن ذلك الفساد العريض والانحلال المتغلغل في
كيان أمتنا.. ومن عادة الجسم العليل أن تبرز كوامن علته لأقل وعكة تصيبه، فتخور
قواه وتنهار صحته، فاقداً قدرة الصمود والمقاومة لأضعف الميكروبات، ولن يغني عن
هذا الجسم العليل ظاهره المكتنز لحماً وشحماً.
إن في ذلك أبلغ وصف للأمة التي هُزمت في تلك الحرب القصيرة، وللعوامل
الكامنة خلف تلك الهزيمة النكراء، التي واجهها النظام الرسمي العربي بـ
"ظاهرة صوتيّة" جوفاء؛ جوهرها: الحمد لله أن الحكام بقوا على عروشهم،
والنياشين و(الدبابير) بقيت على أكتاف الجيوش المندحرة! وهذا هو الذي أسماه
البديري: الجسم العليل (الذي) ظاهره مكتنز لحماً وشحماً.
لم يغادرنا "عبد الله البديري" في هذه الزاوية، قبل أن
"يشفي الغليل" للباحث عن الإجابة للسؤال الاستراتيجي، الذي يتردد على
الألسن من جيلٍ إلى جيل، وهو: ما هو العلاج الناجع لهذه العلل المزمنة؟ وبعد أن
يستبعد منهجيّة "الحوقلة والاسترجاع وإبداء الأسف الشديد على ما انتهى إليه
حال أمتنا"، نجد أن البديري يشرع قلمه، ليخط للأجيال قاعدة
"ذهبيّة" بقوله:
1) لقد علمتنا
تجاربنا –وأمثالنا- أن أمتنا هذه هي أقوى من كل الكبوات والنكسات والنكبات، إذ ما
حاسبت نفسها على ما فرطت في جانب الله، وبعدها فالاتجاه واضح والمسلك أوضح، وهمم
الرجال تزيل الجبال، وتستحق الموانع، هذا إذا ما توفر الإيمان الراسخ.
2) وليس الإيمان
كلاماً يقال أو رؤيا ترى في المنام، إنه العلم والعمل والإعداد وانتهاز الفرص
والأخذ بالأسباب، الإيمان أمانة ثقيلة ومسؤولية باهظة التكاليف، ولكنه العلاج
الوحيد الناجع.
ويختم الكاتب بسؤال المواجهة المباشرة بين المرء ونفسه وبين الأمة –بالمعنى
الجمعي للأفراد- والواقع المعيش، وهو: هل نحمل الأمانة، أم ننتظر حدوث المعجزة،
وقد انتهى زمن المعجزات؟
ختامًا،
قد يبقى سؤال "عبد الله البديري" برسم الإجابة، لثلاثين سنة
أخرى، وثلاثين ثالثة ورابعة... الخ، ما لم تحظ الأمة بنفر مؤمن وفق الوصف المذكور
أعلاه للإيمان، وقادر على حمل الأمانة بمسؤوليّة عالية؛ بتوظيف القوى الكامنة في
الأمة، القادرة على محو الآثار المادّيّة والنفسيّة للكبوات والنكسات والنكبات!
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 26 أيار، 2018م
إرسال تعليق Blogger Facebook