"المكتبة الخالدية" أنموذجًا[1]
Daniele
Sicari – Università degli Studi di
Palermo (Italy)[2]
نُشِرَ في مجلة
أوراق فلسطينية –تصدر عن مؤسسة ياسر عرفات- رام الله. العدد: 19، 20. ص: 205-221
المقدمة:
من المهم الآن، أكثر من أي وقت مضى, طرح قضية عن القدس,
من أجل الحفاظ على الذاكرة التاريخية والتراث الثقافي لهذه المدينة، التي أصبحت
هويتها مهددة بشكل كبير ومتزايد من قبل مشروع الاستعمار البغيض. إن الخطر الجسيم
الناجم عن التغيير, الناجم عن السرقة وحتى تدمير مثل هذا الإرث الكبير, الذي يهدف
إلى محو الماضي العربي والإسلامي في القدس وفلسطين, يجعل من الضروري استعادة تاريخ
هذه المنطقة، من أجل إعادة تأكيد ارتباطها وعلاقتها العظيمة بالعالم الاسلامي,
سواء في الماضي أو الحاضر.
في سياق التاريخ العثماني, لم تفرض أي مدينة أهميتها على
أساس ديني, وهو ما يتعارض مع الادعاءات الاسرائيلية الحديثة بأن القدس عاصمة لها "موحدة
وأبدية". في واقع الأمر, على الرغم من أهميتها غير العادية- سواء في المنظور
الديني أو الرمزي- بسبب الوجود الكبير للأماكن المقدسة التي تخص الديانات الثلاث ,
فقد بدأت القدس تضطلع بدور بارز إداريا وسياسيا, فقط في منتصف القرن التاسع عشر,
الذي تم تعزيزه أكثر من خلال إنشاء "متصرفية" مستقلة في عام 1872.
لقد تم طرح قضية القدس كعاصمة لإسرائيل مرة أخرى في
السادس من كانون الأول عام 2017, من خلال الاعتراف الرسمي للرئيس الأمريكي دونالد
ترامب بسيادة إسرائيلية حصرية على المدينة. إن هذا الإعلان, الذي كان له للأسف
التأثير الأقوى على المستوى الإقليمي منه
في جميع أنحاء العالم, يمثل عملا خطيرا يميل الى تعديل الوضع التقليدي
للمدينة المقدسة بشكل فعال. ليس فقط لأنه لا يأخذ في الاعتبار أن جزءا من المدينة
– القدس الشرقية- تسكنها غالبية من الشعب الفلسطيني, ولكنه يحجب أيضا تاريخ القدس
نفسها التي منذ القرن السابع بعد الميلاد وحتى النكبة عام 1948- مع الاعتراف
بالوجود المهم للمجتمعات المختلفة القائمة والمتفاعلة- هو تاريخ اسلامي. هذا
الاعتراف الذي رفضته الجمعية العامة للأمم المتحدة رسميا, يضع مع ذلك قضية كبيرة
فيما يتعلق باستقرار المجتمع الفلسطيني – تم القاءه في مزيد من الاضطرابات-
والهوية التاريخية والثقافية للمدينة التي تقع تحت الاحتلال الاسرائيلي لأكثر من
خمسين عاما. ومن هذا المنظور, فإن الجهود الأخيرة التي بذلها العديد من الباحثين
الفلسطينيين في عملية جمع, وتحليل وكشف التراث التاريخي بحكمة يمثل خطوة أساسية من
أجل الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية للقدس وإعادة تأسيسها.
في هذا الصدد, نقدّر أنه من الضروري التأكيد على الأهمية
الخاصة للأرشيفات التاريخية – مع الأخذ بعين الاعتبار المخطوطات والوثائق العربية-
التي على الرغم من قيمتها كمصدر أولي, للأسف أقل استخداما من قبل المؤرخين
والعلماء الغرب والعرب.
ليس من قبيل الصدفة اخترنا أن نوسع ونتعمق في المناقشة
التي بدأناها قبل بضع سنوات عن المدينة المقدسة بدراسة بعض رحلات السفر العثمانية
السابقة في فلسطين. وبهذا الاسهام القصير, نود أن نلقي المزيد من الضوء على
المكانة الخاصة التي احتلتها القدس في سياق منطقة فلسطين خلال الفترة العثمانية
السابقة ( منتصف القرن التاسع عشر – بداية القرن العشرين) من خلال إبراز علاقة
التراث التاريخي والثقافي الفلسطيني المحفوظ في سجلات ومكتبات المدينة المقدسة.
على وجه الخصوص ننوي التركيز على الدور الأساسي الذي تلعبه تلك المجموعات
العائلية, التي من خلال نشاط بعض أعضائها (أعيان) وكذلك علاقتهم بالحكومة
العثمانية, كانوا قادرين على التأثير على الحياة الاجتماعية للمدينة, من ناحية,
والتأثير على صنع القرار السياسي من ناحية أخرى, من خلال الحفاظ على هيمنتها وحتى
توسيعها في الفترة المعتبرة. ولا يجب أن نغفل عن العلاقة المتميزة التي أقامها
هؤلاء الأعيان مع المجال الثقافي, ليس فقط من خلال نشاطهم السياسي، ولكن أيضا من
خلال المؤسسة- أو إعادة التنشيط, اعتمادا على الوضع- للمؤسسات (الأوقاف) التي تم
تعيينها لجمع وحفظ المخطوطات العربية والإسلامية, وكذلك مجلدات تاريخية ووثائق
خاصة ذات طبيعة مختلفة, كما هو الحال في ما يتعلق بالمكتبة الخالدية, التي تأسست
في القدس في بداية القرن الماضي. لم يقتصر دور هذه المكتبات أو المخطوطات في
الحفاظ على السجلات التاريخية, ولكنه كان ينطوي في كثير من الاحيان على أداء
المجالس العلمية التي كان لها تأثير كبير على المجال الاجتماعي والثقافي. ومن هذا
المنظور تجدر الإشارة إلى أنه في ضوء الأحداث الأخيرة, أصبح دور بعض هذه المؤسسات
الثقافية متزايد الأهمية.
امتثالا لحاجة الباحثين الذين يشاركون في عملية استعادة
ماضيهم, نود أن نقدم إسهامنا الصغير في إبراز جزء محدد من التاريخ الفلسطيني, وأن
نعبر أيضا عن الاهتمام الخاص لرئيس الدراسات العربية والإسلامية لجامعة باليرمو
لكل من الفلسطينيين والقدس.
نود في النهاية أن نشكر السيد يحيى يخلف, محرر مجلة
أوراق فلسطينية, لأنه وافق على نشر هذه المقالة, و د. عزيز العصا, رئيس قسم الثقافة
في نادي الموظفين في القدس, لمساعدته التي لا تقدّر بثمن ودعمه الودّي.
أ.
ازدهار القدس في منتصف القرن التاسع عشر
لم تمثل فلسطين وحدة سياسية أو إدارية مغلقة, مستقلة عن
الأراضي العربية المجاورة – مثل سوريا, لبنان, الأردن والعراق- حتى الحرب العالمية
الأولى وسقوط الإمبراطورية العثمانية.
حتى منتصف القرن التاسع عشر, لم يتسم التاريخ العثماني
لفلسطين بحوادث كبيرة – باستثناء بعض المحاولات المحلية المثيرة للاهتمام، لجعل
بعض المناطق المهمّة مستقلة عن السلطة العثمانية- بدلا من ذلك اتبع مصير معظم تلك
المناطق التي تشكل جزءا من بلاد الشام. في النصف الأول من القرن التاسع عشر, في
واقع الأمر, بدأت فلسطين تشهد سلسلة رائعة من التغييرات الجذرية – الإدارية
والاقتصادية وكذلك الاجتماعية- والتي يجب النظر فيها في إطار عملية الاصلاح الأوسع
التي أثارتها الحكومة العثمانية والمعروفة باسم تنظيمات خيرية (إصلاحات
مفيدة, 1839-1876).
على الرغم من الاعتبارات الخاصة التي تمتعت بها عبر
القرون, فقد احتلت القدس لفترة طويلة خلال العصر العثماني وضعا هامشيا نسبيا
بالنسبة لمدن أخرى مهمة في فلسطين, مثل عكا وحيفا, على طول الخط الساحلي الشمالي.
وقد تعززت أهميتها الإدارية أولا بحملة إبراهيم باشا والوجود المصري في فلسطين
خلال العقد 1830-1840, وتم تعزيزها بعد استعادة الحكم العثماني. حوالي عام 1872,
بعد قانون فيلايت لعام 1864, تم فصل مقاطعة القدس (السنجق) عن المحافظة العثمانية
لسوريا العظمى (ولاية الشام), لتصبح محافظة مستقلة (متصرفية) وضعت تحت السيطرة
المباشرة لإسطنبول.
ليست فقط هذه التغييرات كان لها تأثير قوي على المستوى
الاداري والسياسي, ولكنها أثرت بشكل عميق أيضا على المؤسسة الاجتماعية
للمدينة. على سبيل المثال, من المهم
الإشارة الى الزيادة المذهلة لسكانها ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر. في بداية القرن التاسع عشر, كانت القدس مدينة
متواضعة للغاية حيث يعيش فيها حوالي (10,000) نسمة. في البداية, كانت هذه الزيادة بطيئة للغاية, بحيث أنه في
عام 1840 قد ارتفع عدد سكان المدينة بمقدار 5000 فقط, ولكن بدأ يزداد أسرع في
السنوات التالية. في واقع الأمر, بحلول نهاية القرن كان عدد سكان القدس أكثر من (40,000)
نسمة ( كان لا يزال يتألف بشكل كبير من المسلمين العرب, والجالية اليهودية لم
تتعدى 14,500) وأكثر من (60,000) في بداية القرن التالي. يجب أن نعتبر هذه التغييرات رمزا للأهمية التي كانت
القدس تتخذها تدريجيا في تلك الفترة.
معظم هذه الزيادة السريعة في عدد سكان المدينة, ناجمة عن
الإصلاحات التي تمت خلال فترة التنظيمات وستيطان اليهود المهاجرين والقادمين من
أوروبا الشرقية والوسطى المستفيدة من الحماية القنصلية الأوروبية, تعكس بشكل أساسي
الفرص الجديدة التي خلقت بواسطة ظروف اقتصادية, سياسية واجتماعية أفضل.
وقد انعكس ازدهار القدس الاقتصادي والاداري ايضا في توسع
المدينة (مثل إقامة أحياء جديدة خارج الجدران العثمانية), وفي تحسين المنشآت الحضارية
وطرق الاتصال, حتى أنه في نهاية القرن التاسع عشر, انتقل المحور السياسي
والاقتصادي أخيرا من الشمال ( عكا) الى الجنوب (القدس) في منطقة فلسطين.
جانب آخر مهم ولا يمكن الاستهانة به, فيما يتعلق بعملية
التحديث التي خضعت لها مدينة القدس في نهاية الفترة العثمانية, هو الوجود الأوروبي
المتزايد في المنطقة. فالقوى الغربية مثل: فرنسا وبريطانيا العظمى، قد أبدت بالفعل
اهتماما خاصا بأراضي بلاد الشام منذ بداية القرن التاسع عشر, كما هو الحال مع حصار
نابليون لعكا عام 1799م. حصلت هذه المخاوف على فرصة للنمو بعد استعادة الحكم
العثماني بحلول عام 1840, بفضل الدعم العسكري الذي ضمنته بريطانيا العظمى
للإمبراطورية.
يتجسد الوجود الغربي في فلسطين، في الأساس، في ثلاث
نواحي على الأقل: 1. الناحية السياسية, من خلال تأسيس قنصليات أجنبية. 2.
الاقتصادية, من خلال تحسين أنشطة تنظيم المشاريع الأجنبية والتجارة. 3. الثقافية,
من خلال تأسيس المدارس التبشيرية والمؤسسات الثقافية. انتشار الثقافة الغربية في
فلسطين, وفي القدس على وجه الخصوص, من خلال تدريس اللغات الأجنبية (الانجليزية,
الفرنسية والألمانية) والعلوم الحديثة, سواء داخل المعاهد التبشيرية أو المدارس
الثانوية العثمانية (مكاتب) التي نشأت من
التنظيمات, كان لها تأثير قوي على تدريب الأعضاء الشابة للعائلات المهمة في القدس
الذين من المرجح أن يصبحوا الأعيان المستقبليين للمدينة وقادة الحركة الوطنية
الفلسطينية في بداية القرن العشرين, كما سنرى ذلك بشكل أوضح من خلال الفقرة
التالية.
على الرغم من أنه من غير الممكن حتى الآن التحدث عن
خطر واضح يتعلق بالهوية الفلسطينية في هذه
المرحلة, ومع ذلك فقد شهدت الثقافة الفلسطينية التقليدية حقيقة تغيرا كبيرا منذ
منتصف القرن التاسع عشر.
ب.
الشخصيات البارزة والعائلات: حكم الخالديين
بالحديث عن فلسطين- كما هو حال المناطق المجاورة التي
تشكل الشرق الأوسط- من الصعب جدا إعطاء وصف للمجتمع من حيث " الطبقات
الاجتماعية", مما قد يؤدي الى "الغموض والحيرة". يعتمد هذا، بشكل
أساسي، على الحراك الاجتماعي الواضح القائم على الوحدة الأسرية, والذي يمثل أساس
كل مؤسسة اجتماعية. وتعطينا هذه الميزة الخاصة فهما صحيحا لنقل وتسوية فرع عائلي
واحد في مناطق مختلفة, وكذلك للتأثيرات
الايجابية أو السلبية التي من الممكن أن تكون للفرد على المجموعة العائلية التي
ينتمي إليها.
وقد عززت الاصلاحات التي أدخلها ابراهيم باشا مكانة
الأعيان في القدس, بحيث أصبحت الجماعات العائلية مثل الحسيني والخالدي, وهما
العائلتان الرئيسيتان للمدينة, بارزة من خلال الحفاظ على، أو حتى تطوير علاقتهما
مع السلطة السياسية, "التي أعطتهم تدريجيا منصب القيادة على قسم معين من
السكان المحليين.
تجدر الاشارة الى أنه قبل انشاء متصرفية مستقلة, حاكم
القدس (متسلّم) والقاضي الشرعي, الذين يمثلون أهم المكاتب السياسية والقضائية, حيث
يتم تعيينهم مباشرة من قبل الباب العالي من خارج مجموعة علماء المدينة, لهذا السبب
مُنعوا من السيطرة على هذه المناصب, ولا يمكنهم أن يفترضوا امتياز نقلها بالميراث. في هذا الصدد, بقدر ما
يتعلق الأمر بمحكمة الشريعة الاسلامية (المحكمة الشرعية) – غالبا ما يمثل أعضاء
الخالدية استثناء كبيرا.
على عكس المدن الفلسطينية الأخرى مثل صفد, نابلس أو
الخليل, التي تعتمد على الاقتصاد غالبا لكونها تقع على طرق التجارة التقليدية, كان
المنصب الخاص لأعيان القدس يعتمد، بشكل أساسي، على تعيينهم في المكاتب الدينية
الرئيسية, مثل إفتاء, نقابات الأشراف, والسيطرة على العديد من أوقاف المدينة, ومن
بينها المسجد الأقصى, الذي يمكنهم من خلاله ممارسة نفوذهم على القضايا الادارية,
الدينية والاجتماعية. منذ القرن الثامن عشر, أصبحت العديد من هذه المكاتب وراثية,
ولعائلات معروفة, مما أدى تدريجيا إلى بلورة المؤسسة الاجتماعية الحضارية وانخفاض
كبير في الحراك الاجتماعي.
ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر, شهدت المؤسسة
الاجتماعية للقدس تغييرات مهمة عكست، بشكل أساسي، الروح العامة للإصلاح في فلسطين
والمناطق المجاورة.
أصبح الوصول الى
المكاتب العثمانية الحديثة, التي تعتمد مناهجها في الغالب على نموذج غربي,
بالإضافة الى معرفة اللغات الاوروبية, ضروريا بشكل تدريجي لأغراض سياسية أو
ادارية. وفي هذا الصدد, تجدر الاشارة الى الخبرة الواسعة التي اكتسبها يوسف ضياء
الدين الخالدي (1842-1906)، الذي كان أول ممثل فلسطيني لمتصرفية القدس في أول
برلمان عثماني (1877).
الخالديين, الذين ادعوا النسب من خالد بن الوليد, صحابي
للنبي محمد (صلى الله عليه وسلّم), يحظون
بالتقدير لكونهم أول من استقر في القدس خلال القرن الرابع عشر. احتل العديد من
افراد هذه العائلة مناصب هامة في المحكمة الشرعية للمدينة منذ القرن السادس عشر,
ويرجع ذلك أساسا للفترة القصيرة التي كانت للحكم العثماني (سنتين) وما يترتب على
ذلك من تكرار البدائل اللازمة, مما أدى الى ارتفاع مناصبهم في سياق القرون الثلاثة
التالية. من الجدير بالذكر أنهم لم
يكونوا قادرين فقط الحفاظ على السيطرة على
أهم منصب ديني في القدس, ولكنهم أيضا تولوا مناصب قضائية ذات صلة في يافا وغزة
وغيرها من بلاد الشام.
لم يكن يوسف ضياء الدين الخالدي هو الوحيد الذي تسلق
خطوات مهنة سياسية ذات صلة بين نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وفي
واقع الأمر, سرعان ما تبعه شقيقه ياسين, الذي تولى السيطرة على مجلس بلدية القدس
(بلدية القدس) من عام )1898 الى عام 1907, وابن أخيه روحي ب. ياسين (1913) الذي
بعد أن كان عضوا في لجنة الاتحاد والتقدم, أصبح ممثلا للقدس في البرلمان العثماني
( مجلس المبعوثان) في عام 1912. في هذا الصدد, من المهم أن نؤكد على الدور السياسي
الخاص للخالديين لمواجهة التهديد الصهيوني بمجرد اندلاعه في نهاية القرن التاسع
عشر, وخاصة بعد المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد في بازل في عام 1897. في ملاحظة
وجهها يوسف ضياء الدين الى ثيودور هرتسل, مؤسس الحركة الصهيونية, في عام 1899’ أكد
بشكل جدي أن فلسطين " تشكل جزءا لا يتجزأ (جزءان لا يتجزآن) من الامبراطورية
العثمانية.
ج. المكتبة
الخالدية
يشير تأسيس المكتبة الخالدية إلى الاهتمام الخاص الذي
ساهم فيه أفراد الخالدي لأهمية الحفاظ على التراث التاريخي لعائلتهم والتراث
العربي الاسلامي الموجود في القدس. إنها ليست بالطبع, المكتبة الاسلامية الوحيدة
في المدينة ذات الصلة التاريخية والثقافية حتى يومنا هذا. في هذا الصدد, تجدر الاشارة
الى مكتبة مسجد الأقصى (666 مخطوطة), المكتبة البديرية (636 مخطوطة), مكتبة
الحسيني (172 مخطوطة), مكتبة المتحف الاسلامي في الحرم الشريف (644 مخطوطة).
تقع المكتبة الخالدية في قلب مدينة القدس القديمة, في حي
باب السلسلة, حيث شهد التعداد العثماني عام 1805 بروز أسرة الخالدي بمائتي عضو على
الأقل. تجدر الاشارة الى أن أول مخطوطات قد جمعت حوالي عام 1720 (560 مخطوطة), قبل
قرنين تقريبا من تأسيس الخالدية كمكتبة عامة.
مقارنة
بالمجموعات المهمة الأخرى، تضم المكتبة الخالدية
أكبر عدد من المخطوطات الإسلامية (حوالي 1200 كتاب) في جميع أنحاء فلسطين،
إلى جانب آلاف الوثائق الخاصة التي تعود لأعضاء عائلة آل خليفة، بالإضافة إلى ما
يقرب من (5000) مجلد (في اللغة العربية وكذلك باللغات الأجنبية) تأتي في الغالب من
مكتبات شخصية.
تم
تأسيس المكتبة رسميا عام 1900 من قبل الشيخ راغب ب. نعمان الخالدي (1866-1951)،
أحد أبرز أفراد عائلته. بحضور أعضاء بارزين آخرين في أسرة خالدي، تم الاتفاق على
أنه عند وفاة أحد أفراد الأسرة، يجب نقل كتبه إلى المكتبة. كما تم الاتفاق على
تعيين مدير (( ناظر متفرج)
للإشراف على المكتبة، والذي يجب أن يكون في متناول أي شخص يريد الدراسة فيها.
من
الجدير ذكره, أن الشيخ ظاهر الجزائري، الذي كان قد أسَّس " المكتبة
الظاهرية" في دمشق، قد شارك في فعاليات المكتبة الخالدية، مع اعتبار خاص
لترتيب المخطوطات وترتيب تراث الكتاب، الذي أدى في النهاية إلى نشرهها ككتالوج. كان الشيخ ظاهر الجزائري
صديقًا مقربًا لعائلة الخالدي، ولكن بالإضافة إلى الصلات بين أفراد العائلات
المحلية، تواجد في القدس ضمن السياق الأوسع للتفاعلات المهمة بين المغاربة و
المشارقة في بلاد الشام بين القرنين التاسع عشر والعشرين، بالذات مع وصول شيخ عبد القادر الجزائري في
دمشق عام 1856.
من
عام 1900 وحتى نهاية الفترة العثمانية، خضعت المكتبة الخالدية لتطور كبير، بسبب
اقتناء المكتبات الشخصية التابعة لأفراد العائلة، والتي تم نقلها إلى المكتبة بعد
وفاة أصحابها، وفقا لما تم الاتفاق عليه في لحظة تأسيسها. من بين أولئك الأعيان
يمكننا العثور على شخصيات بارزة مثل ياسين ب. محمد علي (توفي 1901)، وشقيقه يوسف
ضياء الدين (توفي 1906) وروحي ب. ياسين (توفي 1912). كانت هذه سمعة المكتبة
في بداية القرن العشرين والتي كانت غالبًا ما تدرج في زيارات العديد من العلماء
المهمين في طريقهم إلى القدس وفلسطين. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى الزيارات
المتكررة التي قام بها شيخ دمشق الشهير جمال الدين القاسمى للمكتبة خلال إقامته في
القدس عام 1903.
كان
الشيخ راغب الخالدي يدير المكتبة الخالدية حتى نهاية أربعينيات القرن العشرين. وقد
احتفظت بموقعها الغريب في غضون السنوات التالية، والذي يستمر حتى يومنا هذا. لقد
كانت النكبة عام 1948، واحتلال القدس عام 1967، والتي أثرت بشكل كبير على المدينة
ومنطقة فلسطين كلها, ذاتا تأثير دائم على دور المكتبة، فيما يتعلق بالمحافظة على
التراث العربي الإسلامي. يرتبط هذا الجانب بشكل خاص بفرار العديد من أعضاء
الخالديين منذ عام 1948، ونثرهم خارج المدينة.
الاستنتاجات والخاتمة
تجربة
هؤلاء الأعيان الخالديين الذين تمكنوا من الاستفادة من السياسة العثمانية
للتنظيمات من خلال الحفاظ على السيطرة على المكاتب الدينية والقضائية الرئيسية في
القدس وغيرها من المدن المهمة في فلسطين، وبعد ذلك، تَولّي مسؤولية أكثر المهام
الإدارية والسياسية ذات الصلة، تدل على طابع معين من الاستمرارية، من جهة، وعدم
الاستمرارية، من ناحية أخرى. أما بالنسبة للحالة الأولى، فهي تعكس ملامح جزء كبير
من البنية الاجتماعية في فلسطين وكذلك المناطق المجاورة لبلاد الشام، التي تأسست
أساسًا على الوجود التقليدي للمجموعات العائلية المهمة، على علاقتها مع السلطة
السياسية وكذلك على صلاتهم المحلية وحتى الإقليمية، بحيث يفترض في كثير من الأحيان
الدور الأساسي للوسطاء بين القيادة السياسية والشعب.
أما
بالنسبة للحالة الثانية، فهي تعكس الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية
المختلفة التي جاءت جنبا إلى جنب مع عملية الإصلاح والتحديث في المنطقة بأسرها. في
واقع الأمر، لم يكن على هؤلاء العلماء فقط مواجهة الاستبداد المستمر للطبقة
الحاكمة العثمانية وتركيبة المحافظات العربية، لكنهم اضطروا أيضاً لإعادة تقييم
دورهم فيما يتعلق بالتدخل الأوروبي، وكذلك انتشار التهديد الصهيوني.
مثل
هذه التغيرات الجذرية أثرت بشكل كبير على القدس التي أصبحت منذ 1872 أهم مدينة في
جميع أنحاء فلسطين.
يرتبط
ماضي المدينة بالضرورة بنشاط تلك المؤسسات التي تهدف إلى الحفاظ على ذاكرتها
التاريخية وتراثها الثقافي. وينطبق هذا على وجه الخصوص على القدس، التي هويتها مهدده
بشكل خطير من قبل الاحتلال الصهيوني للمدينة. من هذا المنظور، ليست فقط المكتبة
الخالدية تمثل نقطة محورية للمنطقة برمّتها، بالنظر إلى العدد المذهل للمخطوطات
ودورها الحالي في الحفاظ على الماضي العربي والإسلامي للمدينة، بل ايضا ما يتعلق
بمدى صلتها بالاعتماد على سمعة عائلة الخالدي وفترة حكمها الحاسمة، والتي يجب
اعتبارها جزءاً حيوياً من هذا التراث نفسه.
المصادر
والمراجع[3]
·
Abu-Manneh Butrus,
“Jerusalem in the Tanzimat Period: the new Ottoman Administration and the
Notables”, in Die Welt des Islams,
xxx, 1990;
·
Al-Asad Nāṣir al-Dīn, Muḥammad Rūḥī al-Khālidī: rā’id al-baḥth
al-ta’rīkhī al-ḥadīth fī Filasṭīn, Ma̔had al-buḥūth wa’l-dirāsāt
al-̔arabiyya, Cairo 1970;
·
Al-̔Asalī Kāmil Jamīl, Ma̔āhid al-̔ilm fī Bayt al-maqdis,
al-Jāmi̔a al-urduniyya, ̔Amman 1981;
·
Al-Assa ̔Aziz, “Al-matḥaf
al-islāmī fī’l-masjid al-Aqṣā al-mubārak: al-matḥaf al-̔ālamī al-waḥīd fī Filasṭīn”,
in Mishwār nn. 5, 7-8 (2017), pp.
12-13 (i), 18-19 (ii), 14-15 (iii);
·
al-Balawī Salāmah al-Ḥarfī,
“Al-mu’assasāt al-ta̔līmiyya wa’l-maktabāt fī’l-Quds”, in Muḥsin Muḥammad Ṣāliḥ
(ed.), Dirāsāt fī’l-turāth al-thaqāfī
li-madīnat al-Quds, Markaz al-Zaytūna li’l-dirāsāt wa’l-istishārāt, Beirut
2010;
·
Al-Bānī Muḥammad Sa̔īd,
Tanwīr al-baṣā’ir bi-sīrat al-shaykh Ṭāhir,
Maktabat al-ḥukūma al-̔arabiyya al-sūriyya, Damascus 1920;
·
Ben-Arieh Yehoshua, “The
Population of the Large Towns in Palestine during the First Eighty Years of the
Nineteenth Century, according to Western Sources”, in Moshe Ma’oz (ed.), Studies on Palestine during the Ottoman
Period, The Magnes Press, Jerusalem 1975, pp. 49-69;
·
Büssow Johann, Hamidian Palestine. Politics and Society in the District of Jerusalem
1872-1908, Brill, Leiden-Boston 2011;
·
Giardina Andrea, Liverani Mario, Scarcia Biancamaria, La
Palestina, Editori Riuniti, Roma 1987;
·
Hourani Albert, “Ottoman Reform and the Politics of Notables”, in W. Polk, R.
Chambers (eds.), Beginnings of
Modernization in the Middle East, University of Chicago Press, 1968, pp.
41-67;
·
Al-Jabūrī Nawār Ḥusayn Muṣṭafà, Al-nashāṭ
al-qunṣulī al-faransī fī’l-Quds al-sharīf (1840-1900), Dār wa maktaba al-Ḥāmid
li’l-nashr wa’l-tawzī̔, ̔Amman 2015;
·
Karpat Kamil, Ottoman Population
1830-1914: Demographics and Social Characteristics, University of Wisconsin
Press, Madison 1985;
·
Khalidi Rashid I., “A Research Agenda for writing the History of Jerusalem”, in
Nassari Issam, Tamari Salim (eds.), Pilgrims, Lepers and Stuffed Cabbage. Essays
on Jerusalem’s Cultural History, Institute of Jerusalem Studies, Jerusalem
2005, pp. 12-27;
·
Khalidi Rashid,
“Palestinian Identity: the Construction of Modern National Consciousness”, in Israel Studies, vol. 3, no. 1 (1998),
pp. 266-272;
·
Al-Khālidī Walīd, Al-maktaba
al-khālidiyya fī’l-Quds, Beirut 2002;
·
Al-Khālidī Walīd, Qabla al-shatāt: al-ta’rīkh al-muṣawwar
li’l-sha̔b al-filasṭīnī 1876-1948, Mu’assasat al-dirāsāt al-filasṭīniyya,
Beirut 1987;
·
Al-Khaṭīb ̔Adnān, Al-shaykh Ṭāhir al-Jazā’irī: rā’id al-nahḍa
al-̔ilmiyya fī Bilād al-Shām, Ma̔had al-buḥūth wa’l-dirāsāt al-̔arabiyya,
Damascus 1971;
·
Mannā̔ ̔Ādil, A̔lām Filasṭīn fī awākhir al-̔ahd
al-̔uthmānī (1800-1918), Mu’assasat al-dirāsāt al-filasṭīniyya, Beirut
2008;
·
Manna Adil, “Continuity and change in the socio-political elite in Palestine
during the late-Ottoman period”, in Thomas Philipp (ed.), The Syrian land in the 18th and the 19th century:
the common and the specific in the historical experience, F. Steiner,
Stuttgart 1992, pp. 69-89;
·
Mannā̔ ̔Ādil “Hal aṣbaḥat al-Quds ̔āṣima fi̔liyya li-Filasṭīn fī
awākhir al-̔ahd al-̔uthmānī?”, in Nassari,
Tamari (eds.), Pilgrims, Lepers and Stuffed Cabbage. Essays on Jerusalem’s Cultural History,
Institute of Jerusalem Studies, Jerusalem 2005, pp. 63-78;
·
Mannā̔ ̔Ādil, Ta’rīkh Filasṭīn fī awākhir al-̔ahd
al-̔uthmānī 1700-1918 (qirā’a jadīda), Mu’assasat al-dirāsāt al-filasṭīniyya,
Beirut 2003;
·
Mantran Robert (ed.), Storia dell’Impero ottomano, Argo
Editrice, Lecce 2011;
·
Ma’oz Moshe, Ottoman Reform in Syria and Palestine
1840-1861, Clarendon, Oxford 1968;
·
McCarthy Justin, The Population of
Palestine: Population Statistics of the Late Ottoman Period and the Mandate,
Columbia University Press, New York 1990;
·
Mukhlaṣ ̔Abdallāh,
“Nafā’is al-khizāna al-khālidiyya fī’l-Quds al-sharīf”, in Majallat al-majma̔ al-̔ilmī al-̔arabī bi-Dimashq 4 (1924), pp.
366-369, 409-413;
·
Al-Munajjid Ṣalāḥ al-Dīn, Al-makhṭūṭāt al-̔arabiyya fī Filasṭīn,
Dār al-kitāb al-jadīd, Beirut 1982;
·
Pellitteri Antonino, Magribini
a Damasco, Istituto per l’Oriente, Roma 2002;
·
Al-Qāsimī Ẓāfir, Jamāl al-Dīn al-Qāsimī wa ̔aṣruhu,
Maktaba Aṭlas, Damascus 1965;
·
Schölch Alexander, Taḥawwulāt jadhariyya fī Filasṭīn
(1856-1882): dirāsāt ḥawla al-taṭawwur al-iqtiṣādī wa’l-ijtimā̔ī wa’l-siyāsī (tr.
Ar. Kāmil Jamīl al-̔Asalī), Dār al-Hudā, ̔Amman 1990;
·
Sicari Daniele, “Déplacement et engagement dans
l’œuvre «Al-rawḍa al-nu̔māniyya fī siyāḥat Filasṭīn» de Nu̔mān al-Qasāṭilī
(1854-1920)”, in Laurence Denooz, Sylvie Thiéblemont-Dollet (eds.), Déplacements et publics, Proceedings of
the International Conference “Déplacement(s) et Public(s)”, Presses
Universitaires de Lorraine, Nancy 2017, pp. 231-244;
·
Sicari Daniele,
Gerusalemme e la Palestina nella riḥla
maqdisiyya dello shaykh Jamāl al-Dīn al-Qāsimī (1903),
Proceedings of the 28th UEAI Congress (Palermo, 12-16 September
2016), Peeters Publishers, Leuven (forthcoming);
·
Sicari Daniele, La trasmissione dei saperi a Damasco fra
tradizione e innovazione (1876 – 1908). La produzione arabo-islamica e la
documentazione siriana dell’epoca, Aracne Editrice Int.le srl, Rome 2012;
·
al Soumer Ammar, “Historical Documents Centre in Damascus:
Definition and Analysis. Representing the Other in the Law Court Documents”, in
Alifbâ. Studi arabo-islamici e
mediterranei, Atti del Convegno La
rappresentazione dell’Altro nell’area del Mediterraneo, xx (2006), pp. 19-29.
Late-Ottoman Jerusalem and the
Arab-Islamic Legacy: The maktaba
al-Khālidiyya
للباحث
الإيطالي "دانيال سيكاري" في جامعة باليرمو:
Daniele
Sicari – Università degli Studi di
Palermo (Italy)
وقد
وصلت الورقة إلى هيئة التحرير من الباحث باللغتين: الإنجليزية والعربية.
إرسال تعليق Blogger Facebook