0

خطيب المسجد الأقصى المبارك:
المسجد الأقصى جزء من العقيدة.. صفقة القرن خطة احتلال بثوب أمريكي.. وقانون التسوية عنصريّ جائر
نُشِرَ في صحيفة القدس، بتاريخ: 07/06/2018م، ص: 11
                                                       عزيز العصا
لقد كانت الآيات التي تكوِّن سورة الإسراء، جلية وواضحة في أنها وصفت حادثة الإسراء وأهدافها ومراميها، وأطلق إسم "الأقصى" على المسجد الذي لم يكن يحمل هذا الإسم قبلئذ، فيقول تعالى في الآية الأولى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ". ثم يُتبع بالآية الثانية: "وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا"، وما تحمله من دلالات عصيان بني إسرائيل، وعدم التزامهم بالكتاب المنزل من السماء، الذي فيه بيان للحق وإرشاد لهم وما يتطلبه ذلك من تفويض الأمر لله وحده.
كما وردت تسمية سورة "الإسراء" بسورة "بني إسرائيلبل قال أهل العلم إن تسمية السورة بسورة "بني إسرائيل" كانت هي الأشهر في عهد الصحابة والتابعين، وذلك لأنها ذكرت مرحلة مهمة من مراحل قصة بني إسرائيل والإخبار عن إفسادهم في الأرض، مما لم يذكر في سواها من قصص بني إسرائيل في القرآن الكريم، وهو استيلاء قوم أولي بأس -الآشوريين- عليهم، ثم استيلاء قوم آخرين وهم الروم عليهم[1].
على هذا الأساس بدأت علاقة المسلمين ببيت المقدس بشكل عام، وبالقدس بشكل خاص، وبالمسجد الأقصى بشكل أكثر خصوصية، ومنحوا المكان هويتهم، بأمر ربّاني ولم يعتدوا على غيرهم، فشرعوا في البناء والتعمير، حتى بَنوْا حضارة، متراكمة ومتتابعة، تتحدث عن نفسها من خلال المدارس، بالإضافة إلى الأروقة، والمآذن، والأربطة، والسبل، والآبار، والأبواب والمساجد... الخ.
لقد جرى ذلك وسط حالة من صراع الوجود بين المسلمين وغيرهم، على مدى القرون الأربعة عشر، وبخاصة اليهود، الذين بقيت القدس شبه خالية منهم حتى الغزو الصليبي عام (1099م)، وما بعدها، خلال مرحلة تحريرها من الصليبيين على يد القائد صلاح الدين الأيوبي. وعندما دخل العهد التركي إلى القدس عام 1516م، لم يكن فيها سوى عائلتين يهوديتين فقط تتكونان من (5-10) أنفار، ثم ما لبث أن وصل عددهم إلى المائة بعد ذلك بقليل([2]).
ثم تطورت الأحداث، التي لا يتسع المجال لذكرها، إلى أن أنشئ الكيان المسمّى "إسرائيل" على أرض فلسطين بعد أن قتل وطرد وشرّد وهجّر نحو مليون فلسطيني، أقام كيانه على أنقاضهم. ومنذ اللحظة الأولى لوقوع فلسطين في أيديهم، وهم يسعون، بكل السبل والأساليب إلى محو تلك الحضارة ببعدها الإسلامي والعربي، وادّعاء يهوديتها بأشكال فاضحة ومفضوحة تثير سخرية الباحثين والمؤرخين والتراثيين، والمؤسسات الدوليّة المتخصّصة كاليونسكو وغيرها، بخاصة ادّعائهم أن المسجد الأقصى المبارك، الذي أسماه الله سبحانه، مكان "هيكلهم المزعوم"!
منذ نحو مائتي عام من الزمن وأهل فلسطين متيقظون ومتحفزون من تلك المؤامرة التي تستهدف وجودهم وهويّتهم، وبخاصة الأماكن الدينيّة، وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك، الذي كان منبره، عبر التاريخ، عنوان للدفاع عن الأمّة وقضاياه المصيريّة.   
في الآونة الأخيرة، وعند اشتداد هجمة تهويد القدس، وما تتضمنه من محاولات الانقضاض على المسجد الأقصى المبارك، أصبحت تتركّز الأنظار نحو منبره الذي يصدح بكلمة حق جريئة وواضحة، تشكل رأس الحربة في الدفاع عنه وعن سائر المقدسات المغتصبة. ولأن ذروة الحضور إلى المسجد الأقصى هي في الجمع الرمضانية، فإن لخطب تلك الجُمع قيمة معنوية تسمو على سواها -وفي كل خير- وذلك لأن لا يكاد بيت في فلسطين لم تصله محتويات الخطبة جزئيًا أو كليًا.
ففي الجمعة الرمضانية الثالثة لهذا العام (وفق 01 حزيران 2018)، اعتلى منبر صلاح الدين في المسجد الأقصى "الشيخ الدكتور عكرمة صبري"، الذي تحدث، وأسهب، في العديد من القضايا، والتي يمكن أن نوجزها فيما يأتي:
أولًا: المسجد الأقصى جزء من العقيدة ولا مجال للمساومة عليه.. وأهل فلسطين هم المعادلة الصعبة في الصراع:
فقد ذكّر الشيخ "عكرمة" العالم أجمع بأن أهل بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس، يحبون الأقصى حباً ايمانياً لا يتزعزع، فقلوبهم ومشاعرهم معلقة بالأقصى، وأنهم على الوعد والعهد لحمايته والدفاع عنه، وأن زحفهم يمثل رداً عملياً وإيمانياً ورسالة واضحة موجّهة للطامعين في الأقصى، ورسالةً أخرى للعالم أجمع: للقاصي والداني بأن قلوب أهل بيتِ المقدس، وأكنافِ بيت المقدس، ومشاعرهُم وأحاسيسُهم معلقة بالأقصى، الذي يمثل جزءاً من إيمانهم وعقيدتهم بقرار رباني الهي، وأنه لا مجال للمساومة ولا للتفاوض ولا التنازل عن ذرة تراب منه.
كما أكّد الخطيب على أن "المرابطين" فيه من أهل فلسطين هم المعادلة الصعبة التي لا مجال للاختراق من خلالها. وكأني به يذكّر بصمود أهل فلسطين، وعلى رأسهم المقدسيين، في مواجهة الاحتلال وإرغامه على التراجع عن نصب البوّابات الالكترونية على أبواب المسجد الأقصى المبارك في أواخر شهر تموز من العام 2017م.
ثانيًا: في غزوة بدر الكبرى دروس يجب الاقتداء بها:
في تحليله لمعركة بدر الكبرى والدروس المستقاة منها، خرج الشيخ "عكرمة" بمفهومين، ارتأى بأنه على قادة الأمة وأحرارها في مواجهتهم لأعدائهم التمسك بهما، وهما:
الدرس الأول: تطبيق مبدأ الشورى، التي طبقت عملياً في عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر الكبرى، وفي غيرها من المواقع، وفي شؤون الأمة العامة، كما أن الخلفاء الراشدين –رضي الله عنهم- قد طبقوا الشورى في قضايا الأمة المصيرية وفي القضايا الكبرى.
الدرس الثاني: الاعتمادُ على النفس بعد الاعتماد على الله عزّ وجل.. فقد توجه رسولنا الأكرم محمدٌ –صلى الله عليه وسلم- بالدعاء إلى الله ربّ العالمين، ثم اعتمد على نفسه ضمن الإمكانات المحدودة المتوفرة لديه وقتئذ؛ فلم يتوجه إلى الفرس ولا إلى الروم ليطلب المساعدة، ولم يكن –عليه الصلاة والسلام- تابعاً لأي من الدولتين، ولم ينسق معهما، ولم يتذلل لهما، ولم يتنازل عن أي حق من حقوقه المشروعة.
ثم يتطرّق إلى واقع الأمّة للمقارنة بهذيْن الدرسيْن، كيف أن الدول الكبرى تلعب بمصير الشعوب العربية والإسلامية كما تشاء، فتغذي الأطراف المتنازعة في بلاد العرب والمسلمين، وتمكنت من إثارة النعرات الطائفية والقومية، كما تمكنت  دول الاستعمار والاستكبار من إيجاد الفوضى العارمة والدمار الشامل، حيث إن أمريكا تطلق على هذه الفوضى ب (الفوضى الخلّاقة)!! وأن المسلمين يقاتل بعضهم بعضاً نيابة عن دول الكفر والاستكبار.
ثالثًا: صفقة القرن احتلال بثوبٍ أمريكي:
وضمن سياق متّصل بغزوة بدر الكبرى والدروس المستقاة منها، يوجّه الشيخ "عكرمة" إصبع النقد اللاذع للدول العربية والإسلامية التي تلهث وراء الدول الكبرى،  التي تفرض وصايتها علينا، وتطرح مبادرات ومبادرات منها "صفقة القرن"  التي في حقيقتها تمثل خطة الاحتلال بثوب أمريكي، ناصحًا المسلمين الذين يزيد عددهم عن مليار وثمانمائة مليون أن يصحوا من غفلتهم وأن يحتكموا لكتاب الله وسنة رسوله؛ حينئذ يتمكن المسلمون من استعادة وحدتهم وكرامتهم وعزتهم وقوتهم واستقلالهم.
رابعًا: يكشف عن حملة يشنّها الاحتلال للخداع والتزوير والتزييف:
لقد ذكّر الشيخ "عكرمة" في خطبته هذه بموضوعيْن يسعى الاحتلال إلى فعلهما على الأرض، يهددان عروبة القدس وإسلاميتها، وهما
أولًا: حول ما يسمى بقانون التسوية -أي تسوية الأراضي والبيوت والعقارات-: هذا القانون الذي أقره الكنيست الإسرائيلي مؤخراً، ويقضي بمسح أحياء مدينة القدس بهدف الكشف عن المالكين المقيمين خارج فلسطين، وبالتالي فإن القانون يعتبر هؤلاء المالكين غائبين، فيأتي ما يسمى حارس أملاك الغائبين بوضع يده على حصص المالكين لهذه الأراضي والبيوت والعقارات..
فقد وصفه بأنه قانون عنصري جائر يلاحق المقدسيين لتفريغ مدينة القدس من أصحابها.
وفيما يشبه الفتوى يرى الشيخ عكرمة بأن هذا القانون يأتي ضمن منهجية الاحتلال في محاربة القدس حجراً وبشراً لتهويدها، فعلى المواطنين أن يكونوا حذرين من هذا القانون وأن لا يتعاطوا معه لأنه غير قانوني وغير إنساني.
أيها المصلون- يا أبناء أرض الاسراء والمعراج
ثانيًا: وضع صورة مجسم ما يُدعى "هيكل سليمان" المزعوم، مكان صورة مسجد الصخرة المشرفة:
 فقد رأى الشيخ عكرمة في هذه الصورة، التي انتشرت على وسائل الإعلام، عندما تسلّمها السفير الأمريكي في دولة الاحتلال من مجموعة من الحاخامات اليهود، بأنها محاولة جديدة للخداع والتزوير والإيهام لجذب اليهود في العالم ليأتوا إلى فلسطين.
وفي هذا الجانب جاء رد خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري حاسمًا وواضحًا، عندما قال: إن هذه الوسائل الخداعية والتزويريّة والتزييفيّة لن تغير من الواقع شيئاً؛ فإن مسجد الصخرة المشرفة هو جزء لا يتجزأ من الأقصى المبارك، وأن الأقصى قائم إلى يوم الدين بإذن الله، وسيبقى المسلمون متمسكين بكل ذرة من ترابه، فلا تفريط بأي ذرة تراب منه، ونقول للمرة تلو الأخرى: إن الأقصى جزء من عقيدة المسلمين جميع المسلمين بقرار من رب العالمين ولا علاقة لغير المسلمين به، وان الاقتحامات للأقصى هي اعتداءات عليه لن تكسب اليهود أي حق فيه.
الخاتمة والتعليق
تأتي هذه الخطبة مشبعة بالأحداث والقضايا، التي ساقها خطيب المسجد الأقصى المبارك الشيخ عكرمة صبري، وفق رؤية عقديّة، عندما استقى دروس غزوة بدر الكبرى وجعلها الهادي والدليل في تحليل الواقع الذي تحياه الأمة هذه الأيام، من ابتعاد عن الله وأوامره ونواهيه، أدى بهم إلى أن يكونوا نهبًا لأمم الأرض الأخرى، التي تسعى ليل نهار، وعلى مدار الساعة، بطرح الأفكار والمبادرات المختلفة، كصفقة القرن وغيرها، بهدف الاحتلال بصيغ مختلفة، تشكل أثوابًا خادعة وتضليلية، تهدف إلى إركاع الأمة ونهب خيراتها، وتمكين الكيان الإسرائيلي من الوجود والتوسّع على حساب فلسطين والوطن العربي.
وتأتي أهمّيّة هذه الخطبة، في هذا الوقت بالذات، لتوجّه أهل فلسطين بشكل عام، وأهل القدس على وجه الخصوص، مما يحاك ضدهم في ظلمات المؤسسات الاحتلالية، كالكنيست وبلدية القدس وغيرهما، من قوانين عبارة عن صيغ خداعيّة وتزويريّة مختلفة، يجب على الجميع الصمود في مواجهتها وعدم التعاطي معها أو الخضوع لها.
بهذا، يكون منبر المسجد الأقصى قد أخذ الدور المأمول منه في قيادة الشعب الفلسطيني، بل والأمتين العربية والإسلامية، على المستوى الفكري والتوجيهيّ، امتدادًا لما كان عليه عبر التاريخ، وذلك رغم جوْر الاحتلال وبطشه وجبروته.   
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 03 حزيران، 2018م


[1] محمد صالح المنجد. الإسلام: سؤال وجواب. هل صحيح أن سورة " الإسراء " يطلق عليها أيضًا سورة " بني إسرائيل "، ولماذا؟ انظر الموقع الالكتروني: https://islamqa.info/ar/163112 
[2] عرامين، محمد، والرفاعي، ناصر (2011). المغاربة وحائط البراق الشريف: حقائق وأباطيل. منشورات الأرشيف الوطني الفلسطيني. رام الله، فلسطين، ص: 38.

إرسال تعليق Blogger

 
Top