0

 

الباحث د. علي قليبو في كتابه "أرض الأجداد: من الأزل إلى الأبد":

صخور فلسطين وسهولها تنطق بالكنعانية الأصلية!

قراءة وتحليل: عزيز محمود العصا

باحثٌ وعِضْوُ الهيئةِ الإِداريَّةِ في

معْهَدِ القُدْسِ للدِّراساتِ والأبْحاثِ/ جامعةُ القدسِ

http://alassaaziz.blogspot.com/

aziz.alassa@yahoo.com



د. علي حسن قليبو
؛ فنّان تشكيليّ وكاتب وباحث في علم الإنسان الحضاري. صدر له عديد من الكتب والمؤلفات، باللغتين العربية والانجليزية، كما أخرج مجموعة من الأفلام الوثائقية عن القدس، وأخرى عن أهم الشخصيات في الفن التشكيلي. أما العمل قيد الدراسة، في هذا المقال، فهو آخر كتاب صدر للباحث "قليبو"، وقد جاء بعنوان: "أرض الأجداد: من الأزل إلى الأبد".

يقع هذا الكتاب في (267) صفحة من القطع الكبير، صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في بيروت، عام (2022)([1]). مراجعة وتدقيق: د. عبد الرحمن هاشم والباحث مراد الزير.

استهلّ "قليبو" كتابه هذا بعنوان فرعي "الهوية الفلسطينية وارتباطها بالأرض"، جعله الباحث مرتبطًا بالعنوان الرئيس، وقد جاء على صفحة الغلاف الداخلي للكتاب. وأتبع ذلك بشكر مطوّل، فيه خروج عن التقليد، عندما يستعرض قائمة من الأسماء، من مختلف التخصصات والاهتمامات، ذات الصلة بهذا البحث الأكاديمي الميداني، الذي استغرق العمل عليه ثلاثون عامًا، تجول الباحث خلالها في الجغرافيا الفلسطينية، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقصى الغرب إلى أقصى الشرق([2]).

يرى الباحث "قليبو" أن هذا المؤلَّف ومضة من ومضات إرثنا الاجتماعي والثقافي والحضاري([3])، التي تقود في النهاية إلى دحض محاولات الصهيونية العالمية لطمس التاريخ وتزويره؛ من أجل الاستحواذ على إرثنا الحضاريّ في جغرافيا فلسطين الثقافية([4])، من خلال فصل الفلسطينيين عن تراثهم الثقافي واقتلاعهم من جذورهم في أرضهم بشكل منهجيّ([5]).

  رأى أحمد الرجوب "مدير عام التراث العالمي في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية"، في هذا الكتاب-الدراسة تأكيد على علاقة الفلسطينيين الأزلية والأبدية بهذه الأرض، وحق أهلها في ورثة كل التجليات الثقافية والفكرية والسياسية، وما يتصل بها من تراث مادي وغير مادي، عبر التاريخ، في الإضافة عليه وتطويره، ونقله للأجيال التالية([6]).

توزّع الكتاب-الدراسة على ثلاث منظومات رئيسة اجتمعت على أرض فلسطين، عبر ما يزيد عن خمسة عشر ألف سنة، هي:

1)  المنظومة الدينية: بيّن فيها الباحث أن فلسطين مهد الديانات السماوية، ويعود الفضل في إقامة أول علاقة روحانية دينية إلى أجدادنا النطوفيين، وذلك في إطار تطور النظام الزراعي، قبل خمسة عشر ألف عام قبل الميلاد([7]). فاكتسبت الطبيعة، من جبال وكهوف، ومياه، وأشجار هالة من القدسية. وبنى الكنعانيون الهياكل في الأماكن المرتفعة؛ للتضرع لآلهتمهم كالإله بعل إله الرعد والبرق والمطر، لسقي مزروعاتهم. وانتقلت هذه المعابد إلى الإسلام (موجودة في بعض المساجد)، وإلى المسيحية (موجودة في بعض الكنائس)([8]).

وكان للحجر مكانته عند أجدادنا العموريين؛ فعكفوا على التعبد أمام الأنصاب الحجرية، لكونها مكان لسكن الآلهة على الأرض([9]). وللحفاظ على كل قطرة ماء، نشأت شبكة المياه القائمة على منظومة جمع مياه المطر عبر النقر الصخرية، والقني. وكانت الآبار، التي تعددت أشكالها تباينت استخداماتها؛ بين مدافن، وصوامع... الخ([10]).

لقد حفر الكنعانيون الأجران (مفردها جرن)، لتكون بجانب أبار المياه، حيث يسكب الماء للشرب الآدمي والأنعام، وهو نفسه الذي يطلق عليه "البيدر"([11]). وما زلنا نجد آثار الأجران الكنعانية في معظم المقامات والكنائس التي كانت قد استحوذت على المكان العالي المرتبطة بالعقيدة الكنعانية([12]).

ويناقش الباحث "قليبو" سمة تتميّز بها فلسطين، أطلق عليها "متلازمة البئر، والجرن والشجر المقدس"، كـ "ثالوث مقدس" يجمع بين مقام أحد أولياء الله، وبئر لتجميع مياه الأمطار، والشجرة، وذلك في المقامات الفلسطينية، كما في سعير، وكفل حارس، وعمواس، ومقام تعمر، ومقام لوط، ومقام سيدنا الخضر وسارة في بانياس([13]).

وتتبع الباحث بالشرح بعض المقامات، وما تحمله من ملامح عامة وإشارات، منها: "مقام أبو طوق"، الكائن في بلدة البرج –من خرب دورا- الذي بنيت حوله المقابر، وبقيت شجرة الخروب شاهدة على عاشيرت وأيام الزمن الكنعاني المقدس. ومقام معاذ بن جبل في عمواس، وتربة الملك الأدومي هيرود "الحرد" الواقعة جوار بيت تعمر، كان قد بناها كمقبرة له([14]).

ويختم الباحث هذه المنظومة بمناقشة موضوع "الجرن المقدس الكنعاني"، في مدينة "سالم" –القدس- قبل ستة آلاف سنة، وقد ذاع صيت هذا الجرن بين أجدادنا العموريين، وتردد صداه بين القبائل الكنعانية عامة، فاستقر بها اليبوسيون لاحقًا وأسموها "يبوس". ورغم انتصار الغزاة العبرانيين في القرن (13 ق. م)، صمدت سالم وبقيت يبوسية، حتى آخر حكمهم فيها، وبقي الجرن المقدس –أي الصخرة المقدسة- مزارًا تحج له مختلف القبائل العمورية والكنعانية الوثنية حتى أسري بمحمد صلى الله عليه وسلّم من مكّة إليها، فأصبحت القبلة الأولى للمسلمين، اتخذت اسم "بيت المقدس" ثم "القدس الشريف"، واستقرت تسميتها "القدس"([15]).

2)  المنظومة الزراعية: في هذه المنظومة، يعيد الباحث "قليبو" ممارسة الإنسان للزراعة إلى ثورة العصر الحجري، قبل ما يزيد عن (12) ألف عام، وذلك حين تم تدجين القمح وزراعة مختلف أنواع الحبوب. وأما في فلسطين، فقد لعبت الزراعة دورًا كبيرًا في تشكيل استيطان النطوقيين قبل ثمانية آلاف عام. فظهرت نواة المدن الكنعانية في حوض منحدرات جبل الخليل: بيت مرسم، والكوم، ورابود([16]).

ثم يناقش الباحث عددًا من القضايا ذات الصلة بالمنظومة الزراعية في فلسطين، منها:

   أ‌-   المقام: باعتباره "همزة الوصل بين الإنسان وأجداده من ناحية، وبينه وبين الله من ناحية أخرى([17]).

   ب‌-  أنظمة الري: جبال الخليل، ومرج ابن عامر، وأنفاق بلعمة، وحاتصور وسلوان: إذ كانت جبال الخليل الموقع الرئيس لاستيطان العشائر العمورية وبناء نواة المدن الكنعانية التي مارست الزراعة، واعتمدت على مياه الامطار. وابتكر أجدادنا فكرة بناء سلاسل حجرية لمنع هدر المياه في الوديان؛ وبذلك روّضوا الطبيعة الجغرافية، بتصميم "الموارس" أو "المقاثي"، التي تزرع بكروم الزيتون، والعنب، واللوزيات، ومختلف الأشجار المثمرة. ثم طوّر الرومان نظام "البرك الضخمة" لتخزين مياه الأمطار، كما في العروب، وبرك سليمان في بيت لحم([18]).

وفي مرج ابن عامر، الذي شكل في العصور الجيولوجية السابقة بحيرة ضحلة العمق، يتم إغراقه بالمياه من جبال نابلس وجبال الجليل، والوديان القادمة إليه من مختلف الجهات، فيتحول إلى بحيرة ضحلة، ليصبح ملائمًا لإنتاج الحبوب، حتى أنه أصبح "سلة خبز فلسطين"([19]). وأما نفق بلعمة، الذي يعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، فهو منشأة كنعانية خاصة بالمياه، ونفق سلوان هو منشأة يبوسية خاصة بالمياه في القدس([20]).   

   ت‌-  أنظمة تخزين الحبوب: يتم نقل الحصاد إلى الجرن –كلمة كنعانية ترادف البيدر بالعربية- من أجل دراستها، للحصول على الحبوب. ويناقش الباحث تخزين الغلال، من حبوب وتبن وعدس وزبيب وقطّين، في أماكن أعدت خصيصًا لهذا الغرض، وهي: الخوابي، والبوائك، والسقيفة، والمطامير... وهي جميعها من تصميم الإنسان، سواء في باطن الأرض، كالكهوف التي كانت تستخدم كصوامع للقمح أو الزيتون، أو أبنية حجرية-طينية فوق السطح([21]).      

3)  المنظومة الاجتماعية: لم تبتعد عن المنظومتين السابقتين الدينية والزراعية؛ فهي تعتمد على استخدام الطبيعة وتوظيف إمكانياتها في خدمة المجتمع بشرائحه المختلفة. وقد ركّز الباحث على الكهوف (المغارات)، وتتعدد أنواعها؛ فتطلق كلمة "طور" على الكهوف العظيمة الحجم، والتي قامت الطبيعة بنحت صخورها الكلسية، وهناك الكهوف والمغر التي صقلتها يد أجدادنا([22]). ويتكون الكهف، كوحدة سكنية، من "الطابون" الواقع في غرفة تعلو الكهف، وهناك أماكن لتخزين الطعام، وتربية الغنم والدجاج وغيرها([23]). وتشكل الكهوف، بأشكالها كافة، جزءًا أساسيًّا من حكايتنا مع الأرض.

لقد استقرت القبائل النطوفية في الكهوف، واتخذوها مسكنًا عوضًا عن بيوت الشعر. واستمر الفلسطينيون بالعيش في هذه الكهوف، المنتشرة في جبال الخليل، وصولًا إلى النقب، وبنوْا مدن الصحراء، منها: عبدة، والخلصة وسبيطة([24]). ويتتبع الباحث "قليبو" مدينة الكهوف في جبال الخليل، منذ العصر الكلكوليثي (منذ ما ينيف عن خمسة آلاف عام)، حيث الكهف المحكم الصنغ، وفي داخله تفاصيل هندسية تخدم المنظومة الاجتماعية، التي تغيرت من عصر إلى آخر([25]).

وقد خصص الباحث مساحة لـ "طور بدّوْ/ إذنا"، الواقع بين خربة الكوم وقرية إذنا، وما يرتبط به من أحداث بين القبائل في تلك المنطقة. ثم ينتقل إلى "حفائر خربة بسم"، التي تقع جنوب دورا، وتعود إلى عصر أجدادنا النطوفيين الذين سكنوا الكهوف قبل (15) ألف سنة، تزامنًا مع عودة عشيرة سيدنا إبراهيم العمورية من الهلال الخصيب إلى ديارها في جنوب فلسطين. وفي هذه الحفائر تتجلى المنظومة الاجتماعية، بانه لكل مجموعة من الكهوف الطبيعية مدخل خاص، ويفصلها عن الكهوف الأخرى جدران من الحجارة. وغالبًا ما يشترك سكان الكهوف بمعصرة نبيذ أو آبار تجميع المياه([26]).

ويتوقف الباحث عند كل من: 1) قرية يالو المهجّرة التي قاومت الاحتلال العبري قبل 3500 سنة، ولم تسقط بأيديهم كما سقطت القدس، أو الخليل أو رابود. 2) رابود: وقد عرفت بـ "مدينة الكتاب الكنعاني المقدس" قبل أربعة آلاف سنة. كانت إحدى أهم مراكز العبادة والنبوءة. احتلها العبرانيون، فلم يبيدوا سكانها، وإنما اكتفوْا بسجن الملك والكهنة ثم قتلهم. وتحتضن هذه المدينة –رابود- الكثير من المعالم الحضارية الكنعانية؛ من كهوف، وقنوات، وآبار، وأسوار، ومدافن للموتى... الخ([27]).          

4)  إرثنا الأدوميّ: تحت هذا العنوان، يتتبع الباحث "الأدوميون"، المنحدرون من "دوما" أحد أبناء سيدنا إسماعيل، وهم من القبائل العمورية التي انتشرت بين سوريا والجزيرة العربية وبلاد الرافدين، منذ الألفية الرابعة قبل الميلاد. الذين تحالفوا مع العشائر الكنعانية، وتكيفت عقيدتهم الدينية مع البيئة الثقافية الكنعانية والجغرافية الطبيعية، ولا زلنا نشهد مظاهرهم الحضارية في مدن النقب، وجبل الخليل والقدس([28]).

وأما وجود الأوميين في فلسطين، فوجد الباحث أنهم كانوا في بيت جبرين، التي تعدّ تحفة فنية تضاهي البتراء النبطية في عظمة بنائها، وأسلوب نحت كهوفها في الصخر الجيريّ، التي تزيد عن (1,000) كهف([29]).

ويتطرق الباحث إلى تحورات التمائم الأدومية، وطقوسهم الدينية في معبد قُصرة. وبعد أن اعتنق الأدوميون العرب الإسلام أزيلت الأنصاب والمذابح ودمرت الأوثان والتماثيل، واستعمل المعبد-في قصرة- كهفًا للسكن، ثم لأغراض تربية الأغنام، إلى أن اندثر، وأصبح مكبًّا للنفايات. ويعلو واجهة هذا المعبد رموز دينية وتميمة تشير إلى الثالوث المقدس عند القبائل العربية الوثنية: اللات والعزة ومناة. مما يشير إلى جذور القبائل العربية وامتدادها الجغرافي في فلسطين([30]).

استكمالًا لرسم ملامح العلاقة التاريخية الوطيدة بين الإنسان الفلسطيني وأرض فلسطين الموروثة كابرًا عن كابر، وأبًا عن جدّ، مرّ الباحث "قليبو" على التطريز الفلسطيني وصلته العمورية، حيث ارتبط العموريون بألوان معينة، نجدها في البساط السموعي، وفي فن التطريز على الثوب الفلسطيني، الذي يحمل تشكيلة من الألوان والرموز ذات الجذور الممتدة منذ الأزل([31]).

ويتحدث الباحث "قليبو" عن سُبيطة/ عروس النقب الشمالي، إلى جانب مدن أخرى كعبدة، وكرنبة، والخلصة، التي تتوسط الطريق التجاري بين مكة وصحراء النقب والساحل الفلسطيني وصولًا إلى ميناء غزة. وكانت سًبيطة مدينة عظيمة، وواحدة من محطات في طريق الحجاج المسيحيين إلى دير سانت كاترين، فتوقفت أفواج الحجاج عندما اعتنق الهلال الخصيب الإسلام، وهجرها أهلها في القرن السابع. وفي تلك المدن ابتدع أجدادنا أساليب مختلفة لجمع كل نقطة مطر، وطوروا نظامًا زراعيًّا ليطعم الجميع. وتحت عنوان "الحجر يحن على الزرع" يبيّن الباحث كيف برع الأدميون والأنباط في ابتداع مختلف الطرق حتى حولوا صحراء النقب بجوار مدنهم إلى حدائق غنّاء؛ زرعوا فيها كروم التين والعنب وحقول القمح([32]).

ويختم الباحث "قليبو" دراسته هذه بالحديث عن ثلاث مدن كنعانية، هي: 1) أفيك؛ مدينة كنعانية بناها أجدادنا العموريون، قرب قرية مجدل صادق، وفيها قلعة تحمل الآثار الأدومية، والبيزنطية، والصليبية والعثمانية.2) سبسطية؛ مدينة رومانية، تضم مقام سيدنا يحيى –يوحنا المعمدان، وفيها كنيسة يوحنا المعمدان. 3) منظومة خربة قرقش (بروقين)، التي تشهد على تقابل رموز الموت والحياة، حيث صهاريج مكشوفة للمياه، حفرها الأجداد في الصخر، يجاورها المقابر المتراصة([33]). 

ويتحفنا الباحث بالحديث عن شخصيتين تاريخيتين من أهم الأدوميين، هما:

1)  الملك الأدومي هيرودوس الأول الأدوميّ؛ المولود في عسقلان، وينحدر من "دوما" أحد أبناء سيدنا إسماعيل، ومن آثاره: الحرم الإبراهيمي بالخليل، وقصره في أريحا، وقلعته ومقبرته في قرية الفريديس جنوب شرق بيت لحم ومدن: عسقلان، وقيسارية، وسبسطية. وبنى هيروديون سلسلة من القلاع الرومانية بهدف حماية ثغور الإمبراطورية، بالتعاون مع الغساسنة العرب([34]).

2)  الصحابيّ تميم بن أوس الداريّ: ينحدر من قبيلة بني لخم؛ سدنة الدير الإبراهيميّ الأدوميّ. وكان تميم راهبًا، التقى برسول الله صلى الله عليه وسلم في التجارة، فأعلن إسلامه، وتزوج من أخت أبي بكر، وتزوج من امرأة أخرى من بني هاشم، وعاد إلى فلسطين بعد مقتل عثمان بن عفان، ومات فيها سنة 660م ودفن في بيت جبرين([35]).   

الخاتمة والتعليق

ونحن نتفق مع ما يقوله أحمد الرجوب في هذا الكتاب، وفق ما هو مذكور أعلاه، فإن هذه القراءة المعمّقة والمتمعنة جعلتنا نسبر غور هذه الدراسة، لنتوصل إلى مجموعة من الحقائق تتعلق بقدرة الإنسان النطوفي والكنعاني والعموري على التفاعل مع طبيعة هذه الأرض، وتطويعها في خدمة أغراضه في العيش، والتمتع بما حباها الخالق سبحانه من خيرات.

وإننا نلمس من هذه الدراسة عبقرية الإنسان التي تتجلى في استغلال بيئته أحسن استغلال، بدءًا بقطرة الماء التي حرص عليها كل الحرص حتى لا تذهب هدرًا، فجعل من الموارس والمقاثي مكانًا للزراعة والابتكار في تطويرها، كما جعل من الصحاري حدائق غنّاء تسرّ الناظرين، وتكتنز بما لذّ وطاب من المزروعات، وانتهاءً بالصخور الصماء التي جعل منها الحافظ للمياه، والموئل والملجأ ومصدر الحماية للإنسان، والحفاظ على مأكولاته والضامن لاستمرار عيشه الآمن والمستقر.

وعندما نغوص في آلاف السنين التي مرّت على إنسان هذه الأرض بتتابع، نجد أنه قد جُبِل منها؛ إذ أشارت هذه الدراسة إلى الطب المخبري الخاص بعلم الأسنان، تؤكد على التواصل الجيني بين النطوفيين، ومن جاء من سلالاتهم من الكنعانيينن والعموريين وصولًا إلى يومنا هذا، وذلك في الصفات العامة، مثل: لون البشرة، والشعر، والعيون، وكثافة شعر ذقن الرجل، وما إلى ذلك من صفات متوارثة([36]).

وعلى المستوى الثقافي والتعليمي نجد أن الكنعانيين قد اهتموا بالكتاب، فكانت "مدينة الكتاب الكنعاني المقدس، وذلك قبل الغزو العبراني، الذي رحل وغادر البلاد، وبقي أهل البلاد الأصليين، قابضون عليها واستمروا في تطويرها، وصولًا إلى رسالة سيدنا عيسى عليه السلام، ثم رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم، فأصبحت فلسطين بأيدي العرب الموحدين أصحاب رسالة السماء.  

حاليًّا، تسعى دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى حجب شمس الحقيقة الساطعة على أرض فلسطين النطوفية والكنعانية والعمورية؛ بكهوفها، وقنواتها الصخرية، وأجرانها، وآبارها، ومقاماتها، ومدنها التاريخية... حجبها بغربال واهن من التزوير، المستند إلى إنكار الآخر، صاحب الحضارة التي حفرها في الصخر، ويأتي هذا الإنكار من قبل مدّعين لم يكونوا يومًا سوى محتلّين، تواجدوا على هذه الأرض وفق موازين القوة والإرهاب، كما هو حالنا في هذه الأيام، التي تشهد فيها فلسطين عمليات تهويد، بالاستناد إلى القوة والبطش ولا شيء غير ذلك. ورغم ذلك، ستبقى فلسطين أرض الأجداد من الأزل إلى الأبد!

من الناحية الفنية، جاءت هذه الدراسة كمزيج متماسك شكل مثلثًا متساوي الأضلاع من النصوص الآتية: النص الاثنوغرافي؛ إذ عرّجت الدراسة على المظاهر المادّيّة لأنشطة الإنسان الفلسطيني على أرضه عبر الزمن. والنص الأدبي؛ لما تمتع به السرد من تفاصيل جميلة عند ربط الأحداث ببعضها البعض بسهولة ويسر، بعيدًا عن تعقيدات النصوص العلمية البحتة الجافّة. والنص التصويريّ؛ الذي جاء محمّلًا بهموم التاريخ والجغرافيا والطوبوغرافيا، وبجمالياتها، ليمكننا من قراءة ما يعجز السرد عن إيصاله ونقله عبر الكلمات.

وقد تزاوجت هذه النصوص، وتكاملت فيما بينها، لتوفر لنا مخرجًا مهما نبحث عنه دومًا، وهو ما جاء في عنوان الدراسة "حقيقة علاقة الهوية الفلسطينية وارتباطها بالأرض". ولكننا لا نغفل عن وجود هنّات وهفوات ونواقص، كان لا بد من الالتفات إليها لجعل النص أكثر تماسكًا في عدد من عناوينه الفرعية. ونوصي بطبعة أخرى تخلو منها، علمًا بأن هذه الدراسة تشكل مرجعًا علميًّا يحتل مكانه ومكانته في المكتبة العربية والفلسطينية على وجه الخصوص.    

فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 7-13 تشرين الثاني، 2022

 

 



([1]) قليبو، علي حسين (2022). أرض الأجداد: من الأزل إلى الأبد. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. لبنان.

([2]) قليبو، علي حسين (2022)، 10-11.

([3]) قليبو، علي حسين (2022)، 13.

([4]) قليبو، علي حسين (2022)، 22.

([5]) قليبو، علي حسين (2022)، 24.

([6]) بتصرف: قليبو، علي حسين (2022)، 17.

([7]) أي في فترة تسبق العموريين وعودة سيدنا إبراهيم إلى ديار عشيرته في جنوب فلسطين –قبل ما ينوف عن خمسة آلاف عام قبل الميلاد (عن: قليبو، علي حسين (2022)، 32).

([8]) قليبو، علي حسين (2022)، 32-36.

([9]) قليبو، علي حسين (2022)، 40.

([10]) قليبو، علي حسين (2022)، 44-47.

([11]) قليبو، علي حسين (2022)، 50.

([12]) قليبو، علي حسين (2022)، 55.

([13]) قليبو، علي حسين (2022)، 66-80.

([14]) قليبو، علي حسين (2022)، 210-213.

([15]) قليبو، علي حسين (2022)، 88-90.

([16]) قليبو، علي حسين (2022)، 94.

([17]) قليبو، علي حسين (2022)، 95.

([18]) قليبو، علي حسين (2022)، 96-103.

([19]) قليبو، علي حسين (2022)، 104-109.

([20]) قليبو، علي حسين (2022)، 110.

([21]) قليبو، علي حسين (2022)، 112-123.

([22]) قليبو، علي حسين (2022)، 144-148.

([23]) قليبو، علي حسين (2022)، 160.

([24]) قليبو، علي حسين (2022)، 142.

([25]) قليبو، علي حسين (2022)، 149-153.

([26]) قليبو، علي حسين (2022)، 160.

([27]) قليبو، علي حسين (2022)، 164-176.

([28]) قليبو، علي حسين (2022)، 178-179.

([29]) قليبو، علي حسين (2022)، 182-189.

([30]) قليبو، علي حسين (2022)، 194-207.

([31]) قليبو، علي حسين (2022)، 208.

([32]) قليبو، علي حسين (2022)، 214-223.

([33]) قليبو، علي حسين (2022)، 236-247.

([34]) قليبو، علي حسين (2022)، 224-229.

([35]) قليبو، علي حسين (2022)، 230-232.

([36]) قليبو، علي حسين (2022)، 132-138.

إرسال تعليق Blogger

 
Top