-المتاحف والفنون نموذجًا- عزيز العصا
الثقافة؛ تعين الفرد على التطور الاجتماعي المطلوب، وتهيؤه للحياة الحضارية التي يتمناها، وتحدد اهتماماته، وممارساته، وسلوكياته، وأولوياته. كما أنها هي التي تبلور منطلقاته الفكرية، وركائزه العلمية، ودوافعه الذاتية. وبالتالي؛ فإن الحديث عن الثقافة في بلادنا يعني الحديث عن صراع طويلٍ-مرير مع احتلال عمل لمدة تقترب من القرنين من الزمن، اشتدت مرارتها، وبشكل متواصل (بلا هوادة) آخر مئة عام، ولا يزال يعمل بمنتهى الجدية، من أجل "محو" هويتنا الوطنية و"إنشاء" هوية أخرى مكانها "مغايرة" لها تماماً، بل أنها تشكل نقيضها، من النواحي التاريخية والفكرية والعقائدية، وأنه لا يوجد بينهما أي إمكانية للتكامل و/أو التصالح على نفس الأرض.
أما القدس؛ وهي المدينة التي يزيد عمرها عن الأربعة آلاف عام، فإنها تشكل، عبر التاريخ عنق الزجاجة في الصراع القائم على هذه الأرض؛ فهي رمز للقداسة والسلطة السياسية، وهذا ما أدركه الاحتلال –مبكرًا- عندما رسم الخطط المحكمة المدعومة بالمال والقوة والعنجهية، من أجل انتزاع الملامح والخصائص الثقافية للإنسان والمكان، التي تراكمت عبر آلاف السنين؛ ثقافة وحضارة وعمرانًا عربيًا-كنعانيًا، تعرض للهدم والبناء ثم إعادة الهدم وإعادة البناء؛ نتيجة حروب واحتلالات معروفة تمامًا، للمؤرخين والباحثين، لم تلغِ عروبة القدس؛ بإسلاميتها ومسيحيتها.
في العام 1948 احتلت اسرائيل ثلثي القدس "غربي القدس" (ليس القدس الغربية)، فقامت بمحاولات جادة لإعادة صياغتها؛ لتصبح "يهودية" الهوية والطابع والطّباع. وعندما استكملت احتلال الثلث المتبقي "شرقي القدس" في العام 1967، قامت بعملية تدمير "ممنهج" للحضارة القائمة منذ آلاف السنين، وأخذت تعبث في الملامح الثقافية والعمرانية للمدينة، من أجل تهويدها، لتكون القدس –بشطريها- عاصمة للدولة اليهودية. إلا أن يقظة المقدسيين، ومن خلفهم أبناء الشعب الفلسطيني وأحرار الأمة، كانت السبب في تعطيل تلك الإجراءات؛ عندما سطّروا حالة من الصمود في مواجهة تلك المخططات، أدت إلى أن تبقى القدس محتفظة بطابعها العربي والإسلامي، وإن كان هذا الطابع واهنًا-باهتًا؛ لا يرقى إلى مستوى الطموح.
وسنقوم، فيما يأتي، باستعراض المشهد الثقافي للقدس، بما له وما عليه، في محاولة منا لتشخيص واقعه ووضع الحلول الكفيلة بالنهوض بهذا الواقع، بما ينسجم والمسمى الذي احتلته القدس، منذ العام 2010، باعتبارها "العاصمة الدائمة للثقافة العربية"، بعد أن كانت عاصمة الثقافة العربية للعام 2009. مع علمنا بأن المكونات الثقافية للقدس تشكل خصوصيتها؛ لما تتمتع به من عمق تاريخي ومكانة دينية، أسهما في احتفاظها بإرث تراكمي من الثقافة، التي يشكل العمران أحد مكوناتها، فأصبحت تتميز بمخطوطاتها، ومكتباتها، ومتاحفها واحتوائها على أرشيف الذاكرة الإنسانية عبر آلاف السنين. أضف إلى ذلك المكونات الثقافية المعاصرة التي تفرضها التطورات التكنولوجية التي أوجدت العالم الرقمي. وسنستند، في ذلك، إلى البيانات والمعلومات الواردة في الأوراق المقدمة إلى ندوة المشهد الثقافي لمدينة القدس المنعقدة في 16/12/2013، والمعلومات التي يوفرها مركز المعلومات الوطني الفلسطيني–وفا، بالإضافة إلى اللقاءات والمقابلات التي تمت مع المختصين في المجالات الثقافية المختلفة في القدس.
المؤسسات الثقافية في القدس:
المؤسسة الثقافية هي التي تتضمن السلع (الأدوات والمعدات) المستخدمة في أنشطة الفنون والحِرَف؛ وفي أنشطة اللعب والرياضة، والتي تسهل القيام بأنشطة الثقافة بالمعنى الواسع. ويمكن رصد المشهد الثقافي المقدسي من خلال عدد من المكونات الحضارية، التي تم "مأسستها" وتأطيرها وتوثيقها، منها: المعالم الأثرية والعمرانية، المكتبات والأرشيفات، المتاحف والآثار والأسواق، والتراث الشعبي والحكايات الشعبية والعادات والتقاليد، المسارح والسينما والفنون والموسيقى، الصحافة والإعلام، التأليف والترجمة والنشر، الحرف التقليدية، المنتديات والاتحادات الثقافية والأندية.
وسوف نضع مكونين من هذه المكونات تحت الضوء؛ بالقراءة والتحليل لرصد واقعهما والتوصية بشأنهما، وهما: المتاحف والمسارح (وما يرتبط بها من سينما وفنون وموسيقى).
المتاحف في القدس
لم يُقم العثمانيون أية متاحف في فلسطين، وإنما كان هناك متحف في دمشق. وفي العام 1865 بدأ صندوق استكشاف فلسطين بالحفر في القدس، بترخيص من رؤوف باشا. إلا أنه في العام 1922 قام المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في فلسطين بإنشاء أول متحف في القدس، وهو "المتحف الإسلامي" الواقع و في الجهة الجنوبية الغربية من المسجد الأقصى. وفي العام 1938 افتتح البريطانيون متحفًا على أرض كرم الشيخ في القدس سمي "متحف فلسطين". وكان قد أنشئ بتبرع من رجل الأعمال الأمريكي روكفيلر، حيث تبرع عام 1927 بمليوني دولار، صرف منها نصف مليون للبناء؛ ونصف مليون للأثاث والكتب؛ أما المليون المتبقي، فقد أودع ليصرف على إدارة المتحف من ريعها.
من جانبٍ آخر؛ أقامت إسرائيل متحفًا في العام 1951، أسموه "متحف إسرائيل"، ضم قطعاً أثرية هامة، جاءت من الحفريات التي جرت في فلسطين المحتلة بعد النكبة. وفي العام 1974، قامت السيدة فيرا بتمويل "متحف الفن الإسلامي"، يضم قطعًا أثرية لا تحمل اللغة العربية، ويدّعي منظمو هذا المتحف أن الفن الإسلامي نقل نمطه عن فنون الحضارات الأخرى كالفارسية والساسانية، والبيزنطية وغيرها.
بعد الاحتلال في العام 1967، استولى "متحف إسرائيل" على متحف فلسطين، وأسموه متحف "روكفلر" الذي تحول إلى ما يشبه الثكنة العسكرية؛ بسبب الحراسة المشددة التي تتولاها شركة خاصة، ويُمنع الفلسطينيون، من غير المقدسيين وفلسطينيي-48، من دخوله منعًا باتًا. وقد قام الاحتلال بعملية سرقة لحوالي مائتي ألف قطعة أثرية وسرقة الأجندة التاريخية، ونسبها إلى "إسرائيل". حتى وصل الأمر إلى سرقة بوابات المسجد الأقصى، وعتبات كنيسة القيامة الرخامية، وعرضها في متحف "روكفلر" على أنها جزء من الإرث والتاريخ الاسرائيلي . أي أن هناك عملية "تهويد" للتاريخ والآثار، مهما صغرت أو كبرت، بحاجة إلى أن يكون لنا روايتنا الوطنية-الصادقة؛ المدعومة بالوثائق التي تثبت زيف ادعاءات الاحتلال، الذي وصل به الأمر أن يقول للزوار بأن اليهود هم من أصول كنعانية، ولا يوجد لدى الزوار سببًا يجعلهم لا يصدقون ذلك، ففي كل المتحف لا توجد اي اشارة او كلمة لفلسطين أو العرب .
وهناك مجموعة متاحف صغيرة الحجم، تفتقر إلى التنسيق فيما بينها، وغالبية قطعها غير مصنفة، منها: متحف كنيسة القديسة حنة - سانت آن، متحف بطريركية الروم الأرثوذكس، متحف الفرنسيسكان، متحف القلعة ومتحف الأرمن.
يشير هذا الوصف إلى أن المتاحف الإسرائيلية، والمنهجية الإسرائيلية في توثيق الآثار وتأريخها، هما اللاعب القوي على الساحة المقدسية، الأمر الذي يتطلب منّا البحث عن الأساليب التي يتبعها المقدسيون في مواجهة هذا الواقع. ولعل الإجابة تأتي من خلال قصة متحف التراث الشعبي الفلسطيني؛ الذي أسسته المرحومة هند الحسيني في العام 1962؛ بهدف تعريف العالم والجمهور المحلي على حد سواء بالتراث الفلسطيني الشعبي العريق، فكان أول افتتاح رسمي له في العام 1978. وفي العام 1994 أطلق عليه (متحف الشيخ احمد الجفالي)؛ أحد أهم الداعمين الدائمين لمؤسسة "دار الطفل العربي" بالقدس.
يتمتع هذا المتحف بإدارة وطنية فلسطينية تمكنت من تطويره حتى أصبح يضم: قاعات للعرض (الدائم والمتغير)، ومخازن، وغرفة تحضير وترميم لمحتويات المتحف، وغرفة آلات تصوير وطباعة، وقاعات مخصصة لورش العمل والنشاطات، ومكتبة، ومكاتب الإدارة.
بهذا؛ نجد أنفسنا أمام نموذج حي على كيفية الإمساك بناصية تراثنا وآثارنا وتاريخنا، وحمايته من بطش الاحتلال المدعوم بالقوة والمال؛ مما يشجعه على سرقة كل ما يمت للهوية الفلسطينية بصلة مع القدس بشكل خاص، وفلسطين بشكل عام.
المسرح والفنون في القدس
تعتبر الفنون وما يتصل بها من مسرح وسينما ودور عرض وصالات، جزءًا حيًا في ثقافة أي شعب. أما فلسطينيًا؛ فإن القدس كانت، عبر التاريخ، المكان الأرحب لاحتضان الفنون، بأشكالها ومستوياتها المختلفة. وبعد العام 1967، احتدم الصراع بين الاحتلال وبين الحالة الوطنية الفلسطينية، وكانت القدس هي المسرح الرئيسي لهذا الصراع. فقام الاحتلال بملاحقة الفنانين، وإغلاق المسارح ودور السينما والصالات ودور العرض المختلفة. وقابل المقدسيون ذلك بابتداع الأساليب المختلفة من أجل بث الروح الوطنية من خلال المسرح كبديل ومن خلال السينما (قبل أن يتم إغلاقها نهائيًا).
الآن؛ وبعد كر وفر وصراع مع الاحتلال ومشاريعه التصفوية، وبصمود المقدسيين وإبداعاتهم، نجد أن القدس تعتمر بالمؤسسات غير الربحية التالية، ذات الصلة بالفنون المختلفة :
1) مركز عشتار للإنتاج المسرحي والتدريب: تأسس في العام 1991، كأول برنامج تدريب مسرحي في فلسطين، موجه، بشكل أساسي، إلى الطلبة والشباب والمعلمين، والمهتمين بالمسرح؛ من الإضاءة وحتى كتابة النصوص المسرحية.
2) مسرح وسينماتيك القصبة: تأسس في العام 1970، وفي عام 1989 تم بناء وترميم مسرح القصبة في مدينة القدس، ليفي بأغراض العروض المسرحية والأعمال السينمائية المختارة، وليكون مكان عرض دائم للفنون التشكيلية، وملتقى للمثقفين والفنانين.
3) معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى: تأسس المعهد عام 1993 في مدينة رام الله، له فرع في القدس، ونجح في تشكيل عدد من الفرق الموسيقية.
4) مؤسسة "يبوس" للإنتاج الفني: تأسست في العام 1996، على يدِ مجموعة من الفنانين والمثقفين المقدسيين، الذين بادروا إلى تشكيل جسم فني وثقافي في مدينة القدس، وتميزت بالعمل على إعادة إحياء المشهد الثقافي والفني في المدينة المقدسة.
5) دار إسعاف النشاشيبي للثقافة والفنون: تضم مركزًا للأبحاث الإسلامية، تحتوي على متحف ومسرح، وتحتوي على مخطوطات وكتب قيمة، وفيها مكان خاص للمعارض، وتقام فيها محاضرات وأمسيات شعرية ومعارض متنوعة.
6) نادي الفنانين التشكيليين القدس: تأسس عام 2011 لكسر العزلة الثقافية والفنية المفروضة على المدينة، في ظل الغياب القسري لدور السلطة التنفيذية للشعب الفلسطيني عن القدس، وبهدف رعاية وتطوير المواهب الفنية التشكيلية.
7) منتدى نوافذ الشبابي: تأسس في العام 2004 ويعمل على عدد من المشاريع الموجهة للشباب، المتعلقة بالفيديو والمونتاج والعزف على الآلات الموسيقى وكتابة القصة والرسم التعبيري؛ ودورات بناء القدرات، والحد من ظاهرة العنف الأسري، وتعزيز ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
8) المسرح الوطني الفلسطيني-الحكواتي: افتتح عام 1984، تعرض للإغلاق عشرات المرات، إلا أنه حافظ على وجوده وبقائه، وحقق انجازات على الصعيد المحلي والعالمي بإمكانياته البسيطة، وصمد في وجه المعوقات الاسرائيلية والتمويلية .
وهناك مسرح القافلة في الشيخ جراح، ومسرح الجيب، ومسرح الرواة في البلدة القديمة من القدس، ومسرح سنابل في حي الثوري.
السينما في القدس غائبة عن المشهد
تشير البيانات التاريخية إلى أن أول دار عرض سينمائي ظهرت في فلسطين في العام 1908م، في مدينة القدس. وفي عهد الانتداب تم منع أي نشاط سينمائي يمكن أن يعطي صورة عن فلسطين وما يجري فيها بشكل لا يتوافق مع وجهة النظر السائدة في الغرب، والتي كونتها النزعة الاستشراقية المرتبطة بالاستعمار من جهة، والدعاية الصهيونية الناشطة آنذاك من جهة ثانية . وفي أعقاب نكبة 1948 حل بدور العرض السينمائي ما حل بالشعب الفلسطيني نفسه، فغابت السينما عن الحياة لفترة زمنية طويلة. وفي القدس، كان فيها سينما النزهة، وسينما الحمراء، اللتان تم إغلاقهما نهائيًا لأسباب تتعلق بالاحتلال ومضايقاته، وأسباب أخرى اقتصادية.
بعد قدوم السلطة تم تنشيط صناعة السينما، فأصبح هناك ثلاث دور عرض سينمائي في كل من: نابلس وجنين ورام الله. أما القدس وقطاع غزة فلا يوجد فيهما أي دور عرض.
من خلال نظرة عابرة على ما يجري على مستوى العالم، نجد أن عواصم الدول تزخر بدور العرض السينمائي، التي تستخدم في تحقيق أهداف وتوجهات تلك الدول في رفع المستوى الثقافي والمعرفي لشعوب تلك الدول. الأمر الذي يجعلنا نتوقف، بعمق، أمام غياب و/أو تغييب السينما من المكونات الثقافية في القدس. وقد وجدنا أنه لزامًا علينا أن نتوجه إلى صانعي القرار وإلى المعنيين بإنقاذ الحالة الثقافية في القدس، بضرورة الالتفات إلى الأهمية التي تتمتع بها السينما، وإلى ضرورة رفع مستوى الثقافة السينمائية لدى المقدسيين:
أولًا: أهمية السينما:
إذ تكمن أهمية السينما في دورها المتميز في رفع مستوى الوعي الوطني للفرد والمجتمع، فهي مؤسسة ثقافية-تعبوية متعددة الأهداف والأغراض والنتائج. فالطبيعة العمرانية لدار العرض السينمائي تجعل منها مكانًا قابلًا للاستخدام المتعدد في المجالات الفنية، والسياسية، والاجتماعية، والتربوية المختلفة. كما أن لها دور هام وبارز في تفعيل الحياة الثقافية من خلال عرض أفلام متنوعة، واستضافة عروض فنية هادفة في مجالات: المسرح، والموسيقى، والرقص الشعبي، والعروض السينمائية المستمرة، وكافة المجالات. لذلك؛ فإن السينما تدخل ضمن أدوات الصراع الثقافي، الأمر الذي يتطلب وضع الخطط الكفيلة بتطوير السينما وتنميتها لكي تأخذ دورها إلى جانب المؤسسات والفعاليات الثقافية الأخرى.
ثانيًا: الثقافة السينمائية ومتطلبات تحقيقها:
فمنذ حقبة الانتداب البريطاني سادت مفاهيم اجتماعية وأخلاقية ترى في ظاهرة السينما مفسدة للأخلاق، الأمر الذي يعني ضرورة مناقشة مستوى الثقافة السينمائية لدى الفرد الفلسطيني بشكل عام، والمقدسي بشك خاص، كخطوة تسبق دور السينما والدعوة إلى انتشارها بشكل واسع. إذ أن دفع المواطن إلى دار العرض السينمائي، دونما التوعية الكافية، قد يجعل منه مستقبل سلبي انفعالي، وأن انفعاله لا يتجاوز مستوى غريزته الطبيعية، عندما يكون عاجزًا عن عن قراءة ما يشاهد وعن فك "طلاسم" مشاهداته، كما أنه قد يصبح جاهزًا لعملية غسيل دماغ.
يشير "حسان عباس" إلى أن الثقافة السينمائية التي ننشدها يبدأ تعريفها من ممارسة المشاهد لحقه في المتعة والتسلية أولاً، ومن ممارسته لواجبه كعضو في مجموعة اختيارية (لم يشكلها أحد بالقوة)، التقت بالمصادفة داخل صالة السينما، أو اجتمعت بالاتفاق لمشاهدة فيلم ما، ولا ينتهي التعريف بالمقدرة على قراءة الفيلم الذي يشاهده والاستمتاع به استمتاعا معرفيا و"علميا" يخرجه من حال المنفعل إلى حال الفاعل، القادر على إعادة إنتاج فيلمه بدءا من الفيلم المعروض أمامه.
وهناك منهجية تسهم في نشر الثقافة السينمائية وتكريسها ألا وهو النوادي السينمائية؛ وذلك من خلال النوادي والمؤسسات المدنية والمدارس والجامعات، بأن يتم تعميم فكرة عرض أفلام "مُختارة" مقتبسة من أعمال أدبية أو أحداث سياسية أو تاريخية أو أي شكل من أشكال المعرفة المطلوب البحث حولها، ويسبق العرض أوراق تعريفية للعروض، ثم دعوة المشاهدين إلى تقييمها، وفق حوار جدي يسبر غور الفيلم من النواحي المعرفية والفنية والجمالية، فتتحقق عملية التعلم، ويُحافظ المحاور على احترام رأي الآخر. الأمر الذي يحقق، إلى جانب رفع مستوى الثقافة السينمائية، رفع مستوى ثقافة المواطنة وثقافة الحوار، إضافة إلى رفع المستوى المعرفي للمشارك. ولعلنا نرى في ذلك "ضمان" لتحرير الفرد من المشاهدة الغريزية التي تحفزها الفضائيات المنتشرة في كل بيت، والتي "تدغدغ" الانفعالات الطبيعية الأولى لدى المشاهد، وتقوده كالقطيع نحو القيم التي تريد المؤسسات المنتجة لهذا النوع من السينما نشرها في العالم، والتي تجسد قناة.
مرارة لا بد من تجرعها
تشير الدلائل الملموسة والمرئية والمسموعة، إلى أن القدس تتعرض إلى عملية "تهويد" تشمل كل مبنى وشارع وزقاق، كما تشمل كل حجر وبلاطة مهما صغرت، كما أنها تغوص في أعماق الأرض؛ لتهدم ما فوقها وتمحو تاريخًا لتنشئ مكانه كيانًا يستبعدنا، ويرمي بنا بعيدًا؛ بلا هوية ولا وطن ولا قبلة نصلي إليها.
لقد قيل قديمًا: أعط خبزك للفران. وعندما قابلت (هاتفيًا) أحد فراني الثقافة المقدسية، وهو: السيد "خالد الغول"/ مدير البرامج في مركز يبوس المذكور أعلاه، وجدت أن هناك مرارة تستقر في "حلق" الثقافة والمثقفين المقدسيين. تلك المرارة التي أرى أن كل من لم يُصغِ لها، ويتوقف عندها، وفق إمكانياته وصلاحياته وقدراته ووفق مستوى القرار الذي يمتلكه، فإنه يكون جزءًا من عملية التهويد الثقافي التي تجري للقدس على قدمٍ وساق.
أما الواقع الذي يصفه "الغول" فيتلخص في أن الثقافة في القدس تعرضت إلى عملية "تهجير" منظمة، وأن هناك تزايدًا في حجم التضييق الذي تتعرض له المدينة ومراكزها الثقافية والمشاريع التي تعمل على تنفيذها، ويُضاف إلى هذا كله أن هناك تعتيمًا واضحًا على الأنشطة والفعاليات الثقافية التي تقام في مدينة القدس؛ وأن ما بجلب انتباه الجمهور المحلي هو ما ينشر ويعلن عنه في الصحف المحلية فقط، والذي يكون في اغلبه للفعاليات الثقافية التي تقام في رام الله. ويضيف "الغول"، بالقول: ما زال "حرّاس" الثقافة في القدس ينحتون في الصخر، ويتحركون في حقل من الألغام، بشكل حقيقي وبلا مبالغة، فهذا ما يشعرون به، في مركز يبوس، وما يثقل كاهلهم، ولكنهم لن يكلوا ولن يملوا..
في الختام، لنا رأي..
يتضح مما سبق ذكره، ومما لم يُذكر، أن الثقافة في القدس تقع بين فكي كماشة، تكاد تؤدي إلى سحقها. فمن الجانب الأول؛ هناك عملية التهويد المبرمج الذي تقوم به سلطات الاحتلال المدعوم بالمال والقوة والعنجهية والتضليل وسرقة التاريخ وتمزيق الجغرافيا. ومن الجانب الثاني؛ هناك عملية تقطيع أواصر بين القدس، كقلب نابض، وبين بقية أجزاء الجسد الفلسطيني والعربي والإنساني الذي يستمد منها عبق التاريخ والحضارة، وتستمد منه حياتها وحيويتها ونضارتها وتجددها. أضف إلى ذلك حالة من "التهجير" الثقافي ببعديه: القسري والمتعمد الذي جرى خلال العشرين عامًا الماضية (منذ أوسلو).
إن الوضع الموصوف أعلاه للثقافة في القدس، لا يحتاج إلى المزيد من هدر الوقت للتداول إن كانت "الدجاجة من البيضة، أم البيضة من الدجاجة"؛ وإنما نقولها عبر هذا المنبر أن في القدس وحشٌ يريد التهامها، إلا أن فيها، أيضًا، أناسٌ "قابضون" على جمرها مهما اشتدت لهيبه، فهم يؤمنون بقاعدة "إما أن نكون أو لا نكون"، وقد قرروا أن يكونوا. فها هي المؤسسات المذكورة أعلاه، من مكتبات ومسارح ودور عرض ومتاحف ومؤسسات تعليمية... الخ، وها هم المقدسيون الصامدون في قدسهم. إن هؤلاء، مجتمعين، يشكلون حالة صمود حقيقي قادر على المواجهة إن كان هناك من يسندهم بالدعم المادي والمعنوي ممن يعتبر أن القدس "العاصمة الدائمة" لثقافته.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية
نشر في صحيفة العاصمة المقدسية، يوم الخميس، بتاريخ: 13/11/2014م، ص29
http://pncj.plo.ps/news/wp-content/uploads/2014/12/al3asma4.indd_.pdf
aziz.alassa@yahoo.com
إرسال تعليق Blogger Facebook