إياد شماسنة في ديوانه "حدائق الكريستال":
قصائد مغنّاة.. حِكَمٌ للأجيال.. وتأويلات
صوفية
قراءة: عزيز العصا
"إياد أحمد
شماسنة"؛ شاعرٌ، فلسطيني الأصل والفصل والهوى والهوية، مقدسي الولادة
والنشأة والانتماء. وروائيٌّ، وممرّضٌ. وفوق كل ذلك متخصص في علم الإدارة، بدرجة
الماجستير. قد صدر له ديوانا شعر، ورواية، وكتاب متخصص في إدارة الموارد البشرية . أي أننا أمام شاب
متعدد الثقافات والمعارف، فلا يتوقف ليقول: هنا النهاية؛ وإنما ينظر للحياة صعدًا،
وبلا توقف.
أما العمل الأدبي الذي نحن
بصدده لـ "إياد شماسنة"،
فهو ديوان: "حدائق الكريستال"،
الذي صدر بطبعته الأولى، عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، في العام 2015. يتكون
الديوان من خمسين قصيدة ، بمفردات عميقة ولغة فصيحة، تتوزع على مختلف بحور الشعر
العربي. تحمل القصائد ملامح وسمات وخصائص اجتمعت في آنٍ معًا بين دفتي غلاف جميل
يحمل سيميائية التأمل والهدوء والجمال، مفترنا باسم الديوان "حدائق
الكريستال" بما للكريستال من قدرة على جمع الاصالة والصفاء والشفافية مثل
الشعر، وما يتقاطع ذلك مع اسم لوحة الغلاف " بحر النقاء" للفنان العالمي
فريدون رسولي.
هناك من تلك القصائد ما قد تم تذييله
بالسنة التي قيلت فيها القصيدة. وإذا ما علمنا بأن أول قصيدة له، في هذا الديوان،
قد كتبها في العام 1999، وأن آخرها قد كتبت في العام 2013، فإننا بذلك نكون أمام
ديوان شعر قد امتد على مدى زمني يصل إلى أربعة عشر عامًا ونيّف. وفي ذلك إشارة إلى
أن شاعرنا لا يصنّف كشاعر غزير الإنتاج، ولعل ذلك يعود إلى انشغاله في الأجناس
الأدبية الأخرى إلى جانب عمله وتخصصه الدقيق الذي هو مهنته اليومية إضافة إلى انه
لا يصنف دواوينه الشعرية بحسب السنة وانما ينتقي من انتاجه العام انتقاء.
وأما من حيث جمالية الشعر وصفائه
ونقاوته، والتزامه بأصول الشعر العربي الذي قل ظهوره هذه الأيام، فإن "شاعرنا-شماسنة"
في ديوانه هذا، يبدي إصراره الواضح، ومحاولاته الجادة لاستعادة أمجاد
القصيدة التي كانت تدير المعارك، وتحرك الجيوش، وتنعش الفؤاد، وتريح النفس، وتربي
الصغار، وتنصح الكبار، وتسدي النصح والإرشاد بأشكاله المختلفة.
وعليه، فإن قراءة متمعنة لتلك
القصائد تضعك أمام مجموعة كبيرة وواسعة من المرتكزات التي يتكئ عليها الديوان
والتي، على ما يبدو، أراد لها "شاعرنا-شماسنة" أن تبقى نبراسًا للأجيال، عندما وظف فيها ما
استطاعه من مفاهيم في الوفاء وحب الوطن والدفاع عنه، وما يجب أن يتحلى به الإنسان
من الحكمة والحنكة في التعامل مع الحياة وهمومها وشئونها وشجونها. ومن تلك
المرتكزات:
أولًا: للوطن النصيب الأكبر: فقد أهدى "شاعرنا-شماسنة" حدائقه تلك للـ "الحبيبة الأبدية
"فلسطين""، إلى جانب كل من يحب من بني البشر، وعلى رأسهم الوالدين
والزوجة والأبناء. وفي أكثر من قصيدة تغنى بفلسطين، التي خصص لها قصيدة "أنا الفلسطيني"، وفي هذه القصيدة يعتز
بانتمائه لفلسطين الوطن والهوية، كما أنه يعدد مناقب الفلسطيني وسماته وخصائصه،
ومما يقوله فيها:
أنا من ارض فلسطين// (م) لكنني اسكن حد السما
نستحق الأرض يا أيها// (م) الكون حتى ننتهي أعظما
كما يعتد بشعبه وأمته في قصيدة "رحيل العاشق"، بالقول:
حتى دُعينا لِحَمْلٍ ناءَ
حامله// في السابقين، وما أوفاه من وزنا
لكننا أمة لا تنحني أبدًا// من ثِقْل ما حملت، أو
ثقل ما اْؤتُمنا
وفي قصيدة "ارتجال الرجال" ينشد لفلسطين،
بالقول:
الكلام اليتيم؛ فيكِ يتيم// يا فلسطين، والكريم كريمُ،
فيكِ قام الزمان من غفوة الدهر// وفي راحتيك تفنى الخصوم
وفي قصيدة "تمجيد
المجال المقدس للأرض" يصف فلسطين وأهلها، بالقول: في فلسطين؛ يصنع الزمن الصعب// (م) مجالا، ويستطيل انتظارا. كما
أنه يرى بأن فلسطين هي قطعة من النجوم، وليست كباقي الأرض، بقوله: هذه الأرض نجمة نزلت عن//
فلكها في السما فصارت ديارا.
ثانيًا:
الحكمة حاضرة مع البيان: لا تكاد قصيدة من "حدائق الكريستال" تخلو من القول الذي تتكثف
فيه الحكمة، بأسمى معانيها وصورها. ففي البيت الأول من قصيدته الأولى "فتنة المجاز"، يقول: ليس في التّخييلِ عين النَظَر// يعرف الساري الخطى بالأثر. وفي ذلك توجيه للقارئ بضرورة تتبع الأمر، والحكم
على الأمور برويّة، وبعد إمعان النظر. كما يحث على عدم اليأس والقنوط، وضرورة
النظر إلى الحياة بتفاؤل، كقوله: قل لهم إنك حلّقت؛
ولو// وهمًا، فإن الوهم بعض الفكر.
وفي قصيدة "شمس التجلي" يوظف
المثل القائل بـ "حق الجار على الجار"، إذ يقول: أما كان حق الجوار ينص//
على أن جارك بالحق أولى.
ويخصص "شاعرنا-شماسنة"
قصيدة بعنوان "الرسالة"
المشبعة بالحكم والصور الجميلة، التي مطلعها: كفاك
وفاء أن تموت متيّمًا// وحسبك صدقا أن
تحب وتألما. وفي نفس القصيدة يقول: ألم
تر أن الشوق يعصف بالفتى// فيبكي حنينا كلما
الطيف هوّما.
ثالثًا: أقوال ذات صلة بالعلاقات الاجتماعية: في كثير من قصائده، نجد أن "شاعرنا-شماسنة"، يحرص على بث روح المحبة والتسامح والاحترام بين أبناء المجتمع. ففي
قصيدة "شمس التجلي" يشير الى
علاقات الطفولة، وما تحمله من براءة وطيب معشر، فيقول عن الحبيب الذي مر: وقد كان جارًا قديمًا، لهونا// معا زمنًا عندما كنت طفلا. وفي قصيدة "فتنة المجاز" يعاتب "بمرارة من لم
يحفظ العهود والمواثيق، بقوله: : وكأني بك لم تحفظ
عهودًا// ووعودًا في المدى المندثر.
وفي وصف حال المجتمع وأحواله، عندما يسود الجهل والجهلاء وتعم الفوضى، يقول في
قصيدة "ارتجال الرجال": وتمادى
المدى بكل مجال// فعوى ذئب لو تنمّر بومُ.
رابعًا: في الغزل والحب: للغزل والحب مكانة متميزة في هذا الديوان، سواء الرجل بالمرأة أو المرأة
بالرجل، وكأن "شاعرنا-شماسنة"
أراد من ذلك القول بأن لا حياة ولا أسرة ولا مجتمع مستقر بلا حب، ولعلني ألامس
الحقيقة عندما ارتأيت بأنه يكثف كل شئ في المحبوبة ويختزل الكون فيها، وما في ذلك
ما تصوف وتسامٍ، بقوله:
فأنا أشتهي مراقصة الكون// وفيك اختصار هذا التمني
إن للرقص سكرة تخلب اللب// وتغوي العقول: دنَّا بدنِّ
وفي قصيدة "الأميرة الجالسة" تكثيف آخر، ولكنه
للمحبوب هذه المرّة، بقوله:
يرسمون الجمال، حين تجلّى// وأنا من رسمت خدّيكَ قبلا
وأنا خالد بعينيكَ، أشتاق// قليلًا، فأغزل الشِعرَ غزلا
وفي قصيدة "سيد
الأساطير" يرمز إلى لغة الجسد بين الحبيبين وأثر كل منهما على
الآخر، بقوله:
أما علّمتك العيون بأن// القلوب الرقاق تموت وقارا؟
كما يصف السير على خطا الحبيب وعلى دربه، بقوله:
أقلّب دربًا خطوت به؛// ربما فيه ركن يصير مزارا
وفي
واحدة من صور العشق وأثره على العاشقين، ودور الحب في ترقية النفوس، وعزتها وسموها
يقول في قصيدة "رحيل العاشق": فالعاشقون
وإن قاموا على وجع// لا يسلمون فؤادا بالهوى
ثَخُنا. كما يقول في قصيدة
"تأويل صوفي": لولا حنيني لأرض أنت ساكنها// ما عدت للأرض والعشاق تنتحر.
خامسًا: أقوال ذات صلة بالعلاقات الاجتماعية: لعل من أجمل ما تميز به ديوان "حدائق الكريستال" أنه ، يقول: ليس في
التّخييلِ عين النَظَر// يعرف الساري الخطى بالأثر.
وفي ذلك توجيه للقارئ بضرورة تتبع الأمر، والحكم على الأمور برويّة،
وبعد إمعان النظر والحصول على الدليل القطعي.
وهناك خمس قصائد
حملت عنوانًا مشتركًا "خماسية التحليق"، وهي قصائد: زهرة الألم،
وصاحب السر، ورحيل العاشق، ووصال العاشق، وسيد المقام والسفر. وقد خصصها "شاعرنا-شماسنة"
للقضايا الاجتماعية، بما فيها من ظلم وعدل وصراع طبقي، والصراع بين الخير والشر،
وإطاعة الوالدين. وقد وظّف فيه الحكمة والحنكة في الحوارات التي تميل إلى صيغة
"الملحمة"، كقوله في قصيدة "زهرة
الألم": أبي رأى في الرؤى أن سوف
يذبحني// وقد
رأيت بأني سيّد الكرم.
وفي وصف الظلم وصوره وأشكاله عندما يسود المجتمع، يقول
في قصيدة "صاحب السر": ما
بال قومي؟ وكأس النّار مشربهم// يسابقون إليها الوزر بالوزر. وفي قصيدة
"الكتابة أمام الموت" يقول: لكننا قوم
نعيش كأننا// أبدا نعيش فلا نميل إلى الهدى.
سادسًا: للقصائد المغنّاة حضور: من بين
ميزات التنوع الواسع لهذا الديوان، أن "شاعرنا-شماسنة" ضمنه مجموعة قصائد على بحر المديد. الذي امتازت قصائده بالخفة
والرشاقة وسهولة الحفظ والإلقاء والتلحين، لكي تصبح أغانٍ جميلة تريح النفس وتنعش
الفؤاد وتلهب المشاعر، كقصيدة "أنا الفلسطيني"،
التي مطلعها:
ثابت القلب إذا أقدما// عرف الصعب وما أحجما
إن للرقص سكرة تخلب اللب// وتغوي العقول: دنَّا بدنِّ
وفي قصائد "غفران/ مجزوء
بحر الرمل" و"يشبه الغيمة/
بحر المجتث" و"مراسيم تنحية الظنون/
مجزوء الرمل" و"منطق الطير/
البحر البسيط" و"نشيد الراحلين/ مجزوء
الرمل" يجد الملحن أبياتًا من الشعر الجميل المغنّى.
لغة صوفية وتأويل صوفي: ليس غريبًا أن يصف الروائي "أمير تاج السرّ" حدائق الكريستال
بما فيها من "لغة صوفية رقراقة"؛ فالأمر كذلك بالفعل، من خلال تلك اللغة
الورعة التي تحمل في طياتها دفء المعنى وروعته ورقته. ولم يتوقف "شاعرنا-شماسنة"
عند هذا المستوى من الصوفيّة، وإنما خصص عددا من قصائد ديوانه هذا "حدائق
الكريستال" للحث على الوفاء لمن تحب والتجلي في الصلة مع الخالق سبحانه،
والقصائد هي: "تأويل صوفي، وطقوس الوجد والتجلي، والنجوى. ففي قصيدة
"تأويل صوفي"، نجد صورًا ذات ملامح صوفية بين الحبيبين، بالمعنى المجازي
للحب، إذ يقول:
يا أيُّهذا الذي ألهمتني أبدًا// لولا حديثُك لي لك تُكتبِ السِّيرُ
هذي الديار؛ ديارٌ لا حدود لها// إلا الأماني التي من فيك تنهمرُ
ولعل
أجمل ما قرأت من صوفية المعنى والالتقاء مع الذات ومع الأمة التي ينتمي إلها، ما
جاء في قصيدة "الذهبي":
وقلبي أمة في جوف صدري// وصدري في جهاد وارتياحِ
أنا العربي أحمل بعض أمسي// وبعض غدي معا عند الرواح
خاتمة القول،
بقي القول، بضرورة أن يأخذ هذا الديوان مكانه على رفوف المكتبات
الفلسطينية والعربية، وبخاصة مكتبات المدارس. كما أنه يجب العمل الجاد من أجل
تلحين القصائد المغنّاة المذكورة أعلاه، الذي لا يحتاج إلى الكثير
من العناء في تلحينه، وبأدوات بسيطة؛ لما تتميز به من خفة الحركة وبساطة
المعنى ووضوح المفهوم. الأمر الذي يجعل الطلبة يسارعون إلى ترديدها والترنم بألحانها،
والتمايل مع معانيها الجميلة.
هذا هو ديوان "حدائق الكريستال" بقصائده الخمسين التي تحمل
من المعاني سموّها، ومن الالحان أعذبها، ومن بحور الشعر جميلها، ومن اللغة جزالتها
وقوتها ومتانتها. وها هو "شاعرنا-شماسنة"
يودعنا في قصيدته الأخيرة "أقمار"، بنحو أربعين بيتًا، لعل أجمل ما
يناسب مقام الوداع، قوله: هذي قصيدي في شفاهك
ساحر// تتلوه، والكلمات تصبح أفتنا. وهو بذلك يناشدنا أن نردد قصائده
هذه في ديوانه هذا، التي تشكل حدائق غنّاء تسر الناظرين، وتريح السامعين.
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، فجر (04 نيسان، 2016م)