المسجد الأقصى: تسمية ربّانية.. ومنبر يقود الأمة!

المسجد الأقصى: تسمية ربّانية.. ومنبر يقود الأمة!

نُشر في القدس بتاريخ 05/06/2016، ص: 19

                                                       عزيز العصا

http://alassaaziz.blogspot.com/

aziz.alassa@yahoo.com

منذ اللحظة الأولى التي نزلت فيها الآية الأولى من سورة الإسراء: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"، كانت شهادة ميلادٍ حقيقيةٍ للمسجد الأقصى؛ إذ أنه "لم يكن يحمل هذا الإسم قبل نزول هذه الآية، فالله هو الذي سمَّاه بهذا الاسم، والأقصى بمعنى الأبعد، أي الأبعد عن مكة، وهي أول مرة يذكر فيها، وبعدها عرف عند المسلمين بهذا الاسم^([1]). كما تنطوي هذه الآية الكريمة على تكليف صريح وواضح للأمة بأن مسؤوليتها الجغرافية لم تعد محصورة في مكة أو في محيطها القريب؛ بل تنطلق من مكة لتشمل أقصى مكانٍ على سطح الأرض.

أي أن المسجد الأقصى أصبح جزءًا من عقيدة الأمة؛ يجب التصدي للدفاع عنه، فرادى وجماعات. وقد ثبت ذلك، عندما ركّز أعداء الأمة، منذ الإسراء والمعراج حتى يومنا هذا، في صراعهم العقائدي معها، على احتلال المسجد الأقصى واستباحته، وإجهاد أنفسهم في "محو" سماته وخصائصه الإسلامية بكل السبل والوسائل والآليات.

وها نحن نعيش هذا الحال مع الاحتلال "الاسرائيلي" الذي يسعى إلى "تهويده"، بل أنه لا يتورع في الإعلان عن نيته هدمه و"محو" أي أثر له عن الوجود، لولا أن المقدسيين يحيطون به كالسوار حول المعصم، ويعلنون على الملأ استعدادهم لأن يدافعوا عنه بالأرواح والمُهج. وقد انبرى من بين أبناء الشعب الفلسطيني من يمتلك الشجاعة والجرأة الكافيتين لأن يجعل من منبر المسجد الأقصى وساحاته وباحاته ومصاطبه منارات حق تصدح بالحق، يقذفون به على الباطل فيدمغه فإذا به زاهق. إنهم خطباء المسجد الأقصى الذين نعتز بهم، كقادة فكر ناصع وعقول مستنيرة؛ تضئ للشعب الفلسطيني، بل للأمة جمعاء، دروب العلم والمعرفة وتفقههم في دينهم ودنياهم.

ففي العشرين من شهر أيار لهذا العام (2016)، اعتلى منبر صلاح الدين في المسجد الأقصى "الشيخ الدكتور عكرمة صبري"، فصدح بخطبة جمعة مشبعة بالآلام والأوجاع الوطنية التي تنتاب فلسطين والأمة بشكل عام، والقدس والمسجد الأقصى بشكل خاص، وأسهب، بالشرح والتحليل للمصلّين المسلمين في المسجد الأقصى، ولكل من يصله صوت سماعاته الذي يجلجل في المكان، حول حال فلسطين وأحوال الأمة إبّان النكبة التي كانت بريطانيا الضالة والمضلة العنصر الأساسي فيها، وما سبقها وما تبعها من ويلات وكوارث أوصلت الواقع إلى ما نحن عليه، ثم انبرى الخطيب "صبري"، وهو يعتلي منبر صلاح الدين، للاحتلال وعملائه من الساقطين والمسقَطين والمسقِطين، بآراء فقهية وفتاوى شرعية واضحة لا تحتمل التأويل، يمكننا أن نوجزها فيما يأتي:

أولًا: العودة للمهجّرين وذرياتهم إلى أرض فلسطين التاريخية حق شرعي ديني: إذ يدعي الاحتلال بأن قضية المهجّرين الفلسطينيين إبّان النكبة تسقط بالتقادم؛ أي تنتهي بموت الذين تركوا البلاد فقط، وهذا ادعاء باطل ومخالف للواقع والحقيقة؛ لأن المهجّر قد ترك بيوتًا وأراضٍ، فلا بد من أن يرثه إبنه، وأن الإبن يرثه الحفيد وهكذا، فالميراث حق شرعي ديني، وبالتالي فإن عدد المهجّرين، الذي يزيد الآن عن سبعة ملايين، لا بد من عودتهم إلى المدن والقرى التي هُجّر منها أباؤهم وأجدادهم.

ثانيًا: فتوى بتحريم البيع و/أو أخذ التعويض بدل العودة: إذ أن أخذ التعويض بمثابة البيع، وكما هو معلوم أن البيع محرم شرعًا باتفاق علماء الأمة، فلا بد من العودة وهذا هو الأصل. ولا مانع من أخذ التعويض عن المعاناة التي عاناها المجّهرون مع الاحتفاظ بحق العودة.

ثالثًا: فتوى بتحريم تبادل الأراضي والوطن البديل: لأن القبول بالوطن البديل يعني التنازل عن فلسطين، وهذا محرم شرعًا باتفاق علماء الأمة الإسلامية. وكذلك يحرم تبادل الأراضي؛ لأن قبول مبدأ التبادل هو إقرار للمحتل بأراضٍ من فلسطين. 

رابعًا: فتوى بتحريم أخذ التعويض عن البيوت المهددة بالهدم أو بالإخلاء: لأن ذلك بمثابة البيع والرضوخ للمحتل بسياسته العدوانية.. 

خامسًا: فتوى تتعلق بالتدويل أو التهويد لمدينة القدس: فالتدويل و/أو التهويد لمدينة القدس مرفوضان، ولا يجوز للمسلم أن يوافق على أي منهما مهما كلف الأمر.

سادسًا: فتوى تتعلق ببيع الأراضي أو العقارات للأعداء أو السمسرة لهم: فبيع الأراضي أو العقارات للأعداء أو السمسرة لهم مرفوضان ومحرمان شرعًا، وخروج عن الملّة، وهذا باتفاق علماء الأمة الإسلامية الذين أصدروا عشرات الفتاوى بهذا الخصوص. وأضاف الخطيب "صبري"، في موضع آخر من الخطبة، بفتوى تفيد بأن "الذي يسرّب العقار أو يسمسر، هو خارج عن جماعة المسلمين وعن الملّة، وإذا مات هذا الخائن الشاذ فإنه لا يُغسّل ولا يكفن ولا يُصلّى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين. 

 ثامنًا: فلسطين مسؤولية الأمة: إذ أن المسلمين، جميع المسلمين في أرجاء المعمورة، ملزمون بتحمل مسؤولياتهم تجاه فلسطين وتجاه القدس وتجاه المسجد الأقصى، وأنه لا تفريط بشبر واحد من أرض فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر. وأن الله العلي القدير سيحاسب كل من يقصّر في نصرة أخيه المسلم، فاتّقوا الله أيها الحكام. وفي موضع آخر من هذه الخطبة أشار الخطيب "صبري" إلى أن المقصّرين بحق القدس والمكتفين بالتصريحات والخطابات الجوفاء ويخدعون المقدسيين بالأقوال لا بالأفعال ويبخلون عليهم بالأموال، حالهم في الإثم حال من يبيع العقارات ويسمسر لها للأعداء.

تاسعًا: على المقدسيين أخذ الحيطة والحذر في تعاملهم مع الاحتلال: فقد كانت الخطبة الثانية للخطيب "د. عكرمة صبري" مشبعة بالرسائل والتوجيهات والتعليمات والنصائح الكفيلة بتوعية المقدسيين في تعاملاتهم، المجبرين عليها، مع الاحتلال عبر الدوائر المتعلقة بتسيير حياتهم اليومية، وهي:

1)    الدعوة إلى الحيطة والحذر من محاولات تهويد الإنسان المقدسي، لا سيما جيل الأطفال منهم؛ عبر غسيل الدماغ الذي يتعرضون له في المدارس التي تدرس المنهاج الاحتلالي. وأن يرفضوا التعليم المختلط في المرحلتين: الإعدادية والثانوية، خشية الفساد والإفساد والانحرافات السلوكية.

2)    التحذير من النفوس المريضة التي يسعى أصحابها إلى تسريب العقارات، في القدس وضواحيها، إلى الاحتلال وأعوانه وعملائه. ووصف هؤلاء بأنهم أصحاب النفوس الخائنة والشاذة التي تُخرج صاحبها عن الملّة.

3)    الإعلان عن أنه ليس للاحتلال أي علاقة بالمسجد الأقصى، من حيث: إدارته، وحراسته، واستقبال السياح القادمين إليه... الخ، وأن المسلمين يرفضون تدخلات الاحتلال، ولا يسلمون بها، لا سيما المتمثلة بالشرطة الاحتلالية التي تراقب كل شاردة وواردة في المسجد الأقصى، والتغطية على المداهمات التي يقوم بها اليهود بشكل يومي للمسجد الأقصى، واستباحة ساحاته وباحاته ومصاطبه.     

الخاتمة والتعليق

أجمل ما يمكن أن أختم به مقالتي هذه، ما يقوله الشيخ د. عكرمة صبري في خطبته الموصوفة أعلاه، من أن المسجد الأقصى أكبر من أن يتأثر بمناورات سياسية أو أهداف دينية أخرى، وأن المسجد الأقصى أسمى من أن يخضع لقرارات المحاكم والحكومات.

وقبل أن نغادر، لا بد من الإشارة إلى أن ما جاء في هذه الخطبة، التي صدح بها خطيب المسجد الأقصى فوق منبر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ينم عن الدور الذي يقوم به المسجد الأقصى المبارك في قيادة الأمة على المستويات الفقهية والعقائدية والفكرية والسياسية، رغم القيود التي تصفد أيدي المقدسيين.

إن المواجهة المباشرة مع الاحتلال التي يقودها المقدسيون، تضع العرب والمسلمين في أرجاء المعمورة كافة، أمام مسؤولياتهم التاريخية، ليس بالخطابات والوعود الجوفاء التي تضع أصحابها في خانة الخروج من الملّة، وإنما بإسناد القدس والمقدسيين والوقوف إلى جانبهم؛ بالمال والمساعدات بأشكالها المختلفة، الكفيلة بتثبيت مواقفهم وتصليبها في مواجهة نيران التهويد التي أصبحت تشوي الوجوه وتحرق الأفئدة، وتهدد عروبة القدس؛ بإسلاميتها ومسيحيتها.

فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 27 أيار، 2016م

---

[1] موقع قصة الإسلام، إشراف: د. راغب السرجاني. دخول عمر بن الخطاب القدس واستكمال فتح الشام. 1/5/2006م. انظر: http://islamstory.com/ar/