0
قبل ثلاثين عامًا: عبد الله البديري صرخ:
طفح الكيل!
نُشر في صحيفة القدس بتاريخ 14/06/2016، ص: 19
عزيز العصا
لقد ساقتني الظروف في العام 2009، ومن خلال الصديق عصام البشيتي، إلى التعرف على المقدسي المعمّر "عبد الله توفيق البديري" (مولود في: 16/6/1922). إنه الكاتب الذي كان يشغل ثلاث زوايا، في آنٍ معًا، في مجلة البيادر السياسي – المقدسية خلال الفترة 7/5/1985-30/5/1992، وهي: على الطاير، و "من بيت النار" و "تعليقات سريعة/ قطوف وتأملات".
قبل خمسة أعوامٍ، بالتمام والكمال، وبالتحديد في 05/06/2011، غادرنا "البديري" إلى الدار المستقر، وهو يحمل غصة استقرت في الحلق على مدى العقود التسعة من الزمن، وهو يقطن في مسقط رأسه في بيت ملاصق للمسجد الأقصى.
لم أجعل من وفاته قطيعة؛ بل واظبت على تفقد بصمات هذا الكاتب والمفكّر و"المجرِّب" المقدسي من خلال ابنته "الشيماء"؛ راعية شيخوخته ومسيرة أعماله، في آخر عشر سنوات من حياته. فمن بين ما تركه "البديري" ذلك الإرث الجميل المتمثل في ملف يحتضن (955) مقالاً بقلمه منشورة وفق ما هو موصوف أعلاه. وكلما سنحت لي الفرصة بتصفح هذا الملف، أجد نفسي أمام كنز "مدفون"، وأننا ندفنه بإصرار، بما يشبه عملية خنق آدمي حتى الموت. وذلك لعجزنا "التام" عن توفير ما يمكننا من إعادة طباعة تلك المقالات ونشرها وتوثيقها في المكتبات؛ كشهادة على الإنجازات الفكرية المقدسية خلال القرن العشرين، في مواجهة الاحتلال وذيوله وآثاره.
في هذه المرّة، ارتأيت أن أعود لثلاثين عامًا إلى الوراء؛ أي في العام 1986، لمطالعة ما كتبه "البديري" في ذلك العام حول هموم الفلسطينيين بشكل عام والمقدسيين بشكل خاص، فوجدت ضالتي في مقال من مقالات زاوية "من بيت النار" المنشورة بتاريخ 08/02/1986م، وهي بعنوان: "طفح الكيل".
لقد ركّزت مقالة "عبد الله البديري" تلك على مشكلة الأكاديميين العاطلين عن العمل من خريجي الجامعات والكليات المتوسطة. وفي وصفه للأحوال في ذلك الحين؛ أي قبل ثلاثين عامًا، يقول "البديري": كل شئ عندنا مبني على العاطفة والارتجال والاندفاع والتقليد الأعمى بدون مراعاة لظرفنا الخاصة، وبعد ذلك الجلوس ومراقبة المأساة. وما زلنا نداوي الداء بالداء وعلك الكلام، ويستشهد بقول الحجاج: فتشت الدنيا فما وجدت أعمق من ثلاث: شارب للسم على سبيل التجربة، وساعٍ إلى الهيجاء بغير سلاح، وتاجر جاء سوقًا مفلسًا ببضاعة كاسدة وهو يعلم ذلك وقال "إني توكلت على الله".
لم يتوقف "البديري" عند هذا الحد في وصفه لأيام زمانه، وإنما أورد إنموذجًا لحملة الشهادات المنتشرين في ورش البناء، فكان قد استأجر ثلاثة شبّان من أهل دورا لتكحيل سطح بيته، وحين استقبلهم في بيته وشردت أبصارهم نحو كتبه، عرف منهم أنهم يتوزعون على تخصصات علمية مختلفة، وكلهم متزوجون وليس لهم من الأرض ما يقوم بإعالتهم، فاكتسبوا مهارات بالكحلة والقصارة والتبليط، وقال له أحدهم: نحن اخترقنا حواجز الخوف والتعلق بالأوهام؛ فواجهنا الحياة بأجفان غير متكسّرة وقبضنا على الجمر بأصابع غير مرتجفة، ولكن أولوفًا من أمثالنا ضاعوا وأوغلوا في الضياع.
وينهي "البديري" مقالته هذه بسرد أربعة مقترحات، لمعالجة مشكلة العاطلين عن العمل، تتمثل في التركيز على تعليم المهارات الصناعية والفنية الراقية، وتوجيه أبناء الريف نحو التعليم الزراعي، وإسهام الدول العربية بتوظيف العمالة الفلسطينية، وتخفيض سن التقاعد للموظفين وفصل من يشغل أكثر من وظيفة وأسماهم "الأحطاب الجافة".
ونحن نبتعد مسافة ثلاثين عامًا عن تلك المقالة، وفي هذا اليوم الذي أخط فيه مقالتي هذه، أجد أن الحقيقة التي أشار إليها "البديري" تزداد مرارة عامًا بعد عام، حتى وصل الحال بنا إلى أن هناك أربعين ألف خريج جامعي سنويًا، تطال البطالة 82% منهم؛ أي أنه من بين كل مائة خريج هناك (18) يجدون فرص، ولم يعد يخفى على أحد أن هناك أعدادًا كبيرة من الشباب الفلسطيني تتقدم بطلبات للهجرة الى دول اجنبية وعربية عدة[1].
إذا ما علمنا بأن نسبة البطالة العامة بين مواطنينا تتراوح بين 22_33%، فإنه يمكننا تصور ميلان المنحدر الذي نتدحرج عليه، والذي يزيد ميلانه يومًا بعد يوم الاحتلال الذي يصر على جعلنا الحديقة الخلفية لاقتصاده.
قد يقول قائل: وهل من حلول "سحرية!" لهذه المشكلة، ونحن نقول أن الحل الأمثل والأقرب إلى الواقع والتنفيذ، في ظل الظروف التي يفرضها الاحتلال على الأرض، هو الالتفاف حول قرارنا الوطني بمقاطعة المنتجات والبضائع الاحتلالية (المستوطنات وغيرها)، وتعميق العلاقة بمنتجاتنا الوطنية برفع جودتها وتوفيرها كبدائل (منافِسة) للبضائع التي يتم مقاطعتها، والتوجه نحو ما تبقى من الأرض؛ بالزراعة والفلاحة والاستعمال. كما أنه لا بد من العودة لمقترح "البديري" القاضي بفتح الأسواق العربية للعمالة الفلسطينية من الخريجين بعقود عمل قصيرة الأمد؛ بما يحفظ مواطنتهم ويضمن عودتهم إلى الوطن، للسيطرة على محاولات الهجرة التي تعني إفراغ الوطن من محتواه الشبابي.
وفقًا لما هو موصوف أعلاه، وإذا كان قد "طفح الكيل" بـ "عبد الله البديري" قبل ثلاثين عامًا، فما بالنا الآن، ونحن نواجه هذا التراكم الموجع من المشكلات ذات الصلة بالبطالة، التي يفاقمها الاحتلال بخططه (الشيطانية) الهادفة إلى السيطرة على الساكن والمتحرك على هذه الأرض!
وأنا أستحضر حالة "طفح الكيْل" للبديري فإنني أكاد أن أتطابق مع قوْله: ويبقى في خاطري شيء.. بل أشياء.. فهل من مستجيب.. اللهم فاشهد بأنني قد بلّغت".
    فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 6 حزيران، 2016


إرسال تعليق Blogger

 
Top