شهر رمضان: أمان روحي.. وأمن اجتماعي
نشر في مجلة الإسراء. تصدر
عن دار الإفتاء الفلسطينية. العدد 128، نيسان وأيار/ 2016، ص ص: 29-35
عزيز العصا
مقدمة
بعد مرور نحو خمسة عشر قرنًا من الزمن على انبعاث الإسلام، لا
يزال الباحثون يرجعون إلى اللحظة الأولى التي انبثق فيها ذلك الشعاع الذي أضاء
الكون كله. وتكمن أهمية تلك اللحظة بأنها كانت لحظة انقلاب مفاجئ للبشرية جمعاء،
لا سيما وأن الإسلام لم يظهر في أمّة قوية ومنتصرة من أمم تلك الحقبة الزمنية،
وإنما جاء من أمة العرب؛ التي هي أمة شبه غائبة عن العوالم السياسة والعسكرية
والاقتصادية، وأن أعظم دور لها لم يكن ليتعدى الاصطفاف، بلا إرادة حرة، في ظلال
إحدى القوتين المتصارعتين: الفرس والروم. وكانت هاتان القوتان
"الظالمتان" تتحكمان في العالم، وتمارسان الظلم والعدوان بأبشع الصور.
من
جانب آخر، جاء الإسلام وأبناء البشر قاطبة يعانون الفقر والفاقة والجهل والتشرد
والضياع. ولم يكن البشر، جميعًا، سوى "أدوات" لممارسة الظلم بحق أنفسهم
لصالح الحكام الذين يتصارعون، فيما بينهم، من أجل السيطرة على الثروات والتحكم في
الاقتصاديات الكبرى السائدة في حينه. الأمر الذي يعني أن المجتمعات البشرية،
قاطبة، كانت تعاني مرارة الظلم الاجتماعي وعدم الأمن والأمان.
من
هنا، كان ظهور الإسلام، برسالته السمحة القائمة على العدل والتسامح والمساواة بين
بني البشر، حيث لا فضل للذكر على الأنثى، ولا للأسود على الأبيض ولا للعربي على
الأعجمي... الخ، إلا بالتقوى والتقرب إلى الله سبحانه، وليس لأي من بني البشر ولا
من الجمادات، كالأصنام والكواكب والنجوم... الخ، أن يُعبد، إلا الله سبحانه وحده
لا شريك له مالك الملك. وأسند ذلك بالعبادات التي جاء بها الإسلام للمسلمين، وإن
كانت تقرب الفرد إلى بارئه، إلا أنها مكرسة لخدمة الفرد والجماعة وتهذيب النفوس
وصيانة المجتمع وتمتين الأمة من ظهر عدوها الذي يتربص بها. وأما العبادة التي نحن
بصدد الحديث عنها في هذه العجالة، فهي عبادة الصوم.
الصوم: عبادة لله.. وتوجه للمحتاجين
لقد
تميز الصوم عن العبادات الأخرى، ليس أنه الامتناع عن الطعام والشراب وحفظ اللسان
والانقطاع لعبادة الله سبحانه وحسب، وإنما هو عبادة خالصة لله وحده؛ فقد ورد في الحديث القدسي "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي
وَأَنَا أَجْزِي بِهِ"[1].
إذا كان الأمر كذلك، فما هو دور الصائم في المجتمع؟
إن
الإجابة على هذا السؤال مرتبطة، إلى حد كبير، بالدور المنوط بالفرد المسلم اتجاه
نفسه واتجاه مجتمعه، والدور المنوط بالمجتمع و/أو الدولة اتجاه الفرد. فما بالك
بالصائم المتعبد المتوجه إلى خالقه، الخاضع لما جاء في كتابه الكريم من تعليمات
وأوامر تسيّر حياة الناس كافة!
فقد
ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تحث المسلم العاقل البالغ، بل تأمره،
بأن يأخذ دوره اتجاه الأفراد الآخرين من الشرائح المجتمعية المختلفة، مثل:
الأيتام، الأرامل، المساكين، ابن السبيل، الفقراء، الغارمين والأسرى. وهذا ما يعني
توفير الأمن الاجتماعي لكل من الفرد والمجموع.
الأمن الاجتماعي: جوهر الإسلام
قبل
الدخول إلى مفهوم "الأمن الاجتماعي"، لنتفق على أن الأمن يعني
"الطمأنينة"، المقابلة للخوف والروع والفزع[2]،
لقوله تعالى: "الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ" (قريش: 4).
والاجتماعي: وصف للسلوك أو الموقف نحو الآخرين، وهو يعني المواقف التي فيها تأثير
متبادل بين فرقاء تربطهم روابط وعلاقات. أي أن "الأمن الاجتماعي" هو
امتداد بآفاق الأمن إلى كل مناحي حياة الإنسان[3].
وقد
جاء العنوان لهذا المقال الذي يربط بين الأمن الاجتماعي وشهر رمضان المبارك،
لضرورات قصوى تتعلق بتذكير أبناء مجتمعنا، فرادى وجماعات، بأن هناك شرائح مجتمعية
أوجب الله علينا الالتفات إليهم، بالرعاية والاهتمام وتوفير أجواء من الدعة
والهدوء والاطمئنان لهم. ويتجلى ذلك في الحقائق التالية:
أولًا: ورد في القرآن الكريم
ذكر اليتيم تسع مرات، وفي جميعها أوامر إلاهيّة واضحة، لا تقبل التأويل، تفيد بأن
شريحة الأيتام هي الشريحة التي حرّم علينا الاقتراب من ممتلكاتها أو استغلال ضعف
اليتيم وحاجته للرعاية، لتحقيق مآرب ذاتية على حسابهم. إذ يقول تعالى:
"وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (الإسراء: 34).
"وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (الإسراء: 34).
ويخاطب المولى جل في
علاه نبيه صلى الله عليه وسلّم، بقوله تعالى: "أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى*وَوَجَدَكَ ضَالًّا
فَهَدَى*وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى" (الضحى:
6-8). ويفسر التفسير الميسر هذه الآيات
الكريمة: ألم يَجِدْك من قبلُ يتيمًا، فآواك ورعاك؟ ووجدك لا تدري ما الكتاب ولا
الإيمان، فعلَّمك ما لم تكن تعلم، ووفقك لأحسن الأعمال؟ ووجدك فقيرًا، فساق لك
رزقك، وأغنى نفسك بالقناعة والصبر؟ كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
"أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ
هَكَذَا وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى"[4].
ثانيًا: كما أمر الله سبحانه
كل مقتدر بضرورة البذل من ماله من أجل الشرائح المجتمعية المحتاجة للدعم والإسناد،
والأسر التي افتقدت معيلها، لقوله تعالى: "وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا" (الإنسان: 8).
وفي ذلك إشارة واضحة إلى أمر إلاهيّ يتعلق بعائلات الأسرى وأبنائهم، وما يجب
القيام به من توفير سبل الحياة الحرّة الكريمة لهم، فالآية الكريمة لم تتحدث عن
مجرّد الإطعام وما يشبع المعدة الآدمية وحسب، وإنما إطعام الطعام على حبّه؛ بمعنى
السخاء والإكرام في أجواء من الاحترام والتقدير والمحبة لمن تطعم.
ثالثًا: كما أن هناك فرض
الصدقات على المسلم، والصدقة: ما يُعطى على وجه القربى لله لا المكرمة[5].
وللصدقة في الإسلام معنى إجرائيّ يتلخص في أنها ليست خسارة يخسرها المسلم من أجل
الغير، وإنما هي مكسب وزيادة في الرزق، لقوله تعالى: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا" (التوبة: 103). ويجب
أن تُقدّم الصدقة عن طيب خاطر، والله سبحانه غنيّ عن صدقة يتبعها ندم وغضب
واعتبارها خسارة، أعطيت لمن لا يستحقها،
لقوله تعالى: "قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ
خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ" (البقرة: 263).
رابعًا: تعطى
الصدقات، كفريضة، للشرائح المجتمعية التي تحتاجها، كشريحة الفقراء التي لا تختص
بها عن غيرها من الشرائح، لقوله تعالى: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي
الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً
مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"
(التوبة: 60). إن التمعن في هذه الآية الكريمة يبيّن لنا الملامح والسمات الأساسية
التي يقوم عليها المجتمع المسلم؛ والتي تتمثل في أن للإنسان (الفرد) الحق الطبيعي
في أن يعيش آمنًا مطمئنًا، في المجتمع المسلم، وذلك بأن يكون له نصيب في أموال
الأغنياء والمقتدرين، ليس منّة منهم وإنما فريضة من الله سبحانه.
شهر رمضان: أمن روحي.. وأمن اجتماعي
قال
تعالى: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي
أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ
وَالْفُرْقَانِ"
(البقرة: 185). إن في هذه الآية الكريمة تكثيف شديد لمعنى شهر رمضان وأهميته في
حياة المسلمين بخاصة، والمجتمع البشري بعامة، وذلك لأنه الشهر الذي أنزل فيه
القرآن؛ ذلك الكتاب البيّن المنزل من خالق السماوات والأرض وما فيهن، لكي يهدي بني
البشر إلى سواء السبيل. أي أن شهر رمضان هو شهر قرآني يوجب علينا وضعه في مكانة
خاصة عن باقي أشهر السنة الأخرى، بالصيام والقيام والتصدق ورعاية الأيتام
والمحتاجين، احتسابًا وتقربًا إلى الله سبحانه.
لذلك،
فإن هذا الشهر هو شهر الصيام لدى المسلمين، الذي يشهد إقبالًا مكثفًا على قراءة
القرآن، وتدبر آياته ومعانيه، التي فيها شفاء البشرية جمعاء من أمراضها التي
ابتليت بها لابتعادها عن إقامة العدل الإلاهيّ على الأرض. الأمر الذي يعني أن شهر
رمضان هو شهر الأمن الاجتماعي، وفق ما هو موصوف أعلاه.
يشير
الواقع المعيش إلى شهر رمضان يشهد جنوحًا نحو إقامة الولائم (الوجبات) الرمضانية،
على مستوى الأسرة، وعلى مستوى تبادلها بين الأسر، في أجواء من المبالغة والتبذير،
من خلال الكميات التي تفيض عن حاجة (المفطِرين)، وأسعارها المرتفعة التي تجعل كلفة
الوجبة (الرمضانية) أضعاف كلفة نفس الوجبة في الأيام العادية لنفس أفراد الأسرة،
بما يزيد كلفة الحياة أكثر من وضعها الاعتيادي بنحو ثلث المصروفات الشهرية العادية[6].
ومما
يريح النفس أن شهر رمضان يشهد اهتمامًا جادًا بالأسر المحتاجة، وتلك الأسر التي
ينطبق عليها كل ما تم وصفه أعلاه، يشير إلى فهم مجتمعي للواجب الذي يُفترض تأديته
اتجاه تلك الشرائح المجتمعية المحتاجة؛ فيتم دعوة الأيتام إلى إفطارات جماعية، كما
يتم توجيه الصدقات لمستحقيها من تلك الشرائح. إلا أن التبذير والإسراف وعدم
الانضباط في المشتريات تبقى الآفة المجتمعية التي علينا التوقف عندها بالدراسة
والتوجيه.
إلا
أنه عند احتساب الفروقات في المصروفات على مستوى الشعب الفلسطيني، في حدود السلطة
الوطنية الفلسطينية، وفق ما هو مذكور أعلاه، تبين أنها تكفي لنقل نحو ثلاثمائة ألف أسرة (فلسطينية) من الفقر
المدقع إلى حال الأسر العادية (فوق خط الفقر)، وإذا ما أحسن استخدام هذا المبلغ
فإنه سوف يمكّننا من القضاء على الفقر والفقر المدقع على مدى عامٍ كامل[7].
الخاتمة:
يقول
تعالى: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ"
(الأعراف: 31). تشير هذه الآية الكريمة إلى أن الله سبحانه وتعالى يأمرنا على
توفير حالة دائمة من "الأمن الاقتصادي"؛ الذي يعني المحافظة على
ثرواتنا، وضبط التصرف بما يتوفر بين أيدينا من إمكانات، ليس في شهر رمضان وحسب،
وإنما هي استراتيجية إدارة لاقتصاد الأمة.
وهذا
يعني، فيما يعنيه، أنه بالإمكان، في حالة التخطيط السليم المستند إلى الشرع
والشريعة، والنابع من تدبرنا لآيات القرآن الكريم، التي تحض على توفير "الأمن
الاجتماعي"، وليست الحلول المؤقتة (التخديرية) التي لا يتجاوز أثرها شهر
رمضان، ثم تعود مظاهر الفقر والفقر المدقع تكدر عيش تلك الأسر، في أجواء من
الإحباط والبؤس والأسى والحزن، وغيرها من المظاهر التي جاء الإسلام الحنيف للقضاء
عليها وانتزاعها من حياة المسلمين وغير المسلمين.
فلسطين، بيت لحم،
العبيدية، 05/04/2016م
إرسال تعليق Blogger Facebook