الحج في القرآن الكريم:
فريضة لها آدابها ومناسكها
نُشِرَ في صحيفة القدس، بتاريخ: 21
آب 2018 ص: 10
عزيز العصا
مقدمة
القرآن الكريم هو مصدر التشريع الرئيسي للإسلام
والمسلمين. وقد ورد ذكره في كتاب الله سبحانه وتعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه
وسلّم في العديد من الآيات، كالقسم به، كما في قوله تعالى: "وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ" (يسن: 2)، وقوله تعالى: "ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ" (ص:
1). ففي هاتيْن الآيتين
الكريمتيْن يقسم الله تعالى بالقرآن المحكم بما فيه من الأحكام
والحكم والحجج، وبالقرآن المشتمل على تذكير الناس بما هم عنه غافلون. وفي ذلك دليلٌ واضح على عظمة هذا الكتاب عند
الله سبحانه وتعالى، وعلى أنه لا مجال للمراوغة في
تنفيذ ما ورد فيه من أوامر ونواهي، ومن عبادات يجب على المسلم القيام بها على أكمل
وجه.
ليس هناك من عبادة ولا ركنٍ من أركان الإسلام الخمسة إلا وورد ذكره
في القرآن الكريم. ولمّا كان الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فقد ورد في
القرآن الكريم كفريضة، كما وردت مناسكه وآدابه والأماكن التي يجب أن يؤدى فيها.
وسوف نتتبع، فيما يأتي، عددًا من المتعلّقات بالحج والعمرة كما ردت في آيات الذكر
الحكيم.
فريضة الحج وآدابه في القرآن الكريم:
توزّع ذكر الحج على
العديد من السور، وهناك سورة في القرآن الكريم تحمل إسم "الحج"؛ وهي
مدنيّة تتألف من (78) آية. وإن هذه السورة المباركة أكثر
سور القرآن الكريم شمولًا لفريضة الحج وآدابه ومناسكه، وللأماكن التي تتم فيها تلك
المناسك، وقد جاء ذلك على مدى ثلاث عشرة آية في هذه السورة (الحج)([1]). كما
أن هناك العديد من الآيات في سورة البقرة (128، 158، 196-203) تشير إلى ذلك، وهي تؤكد
على فريضة الحج، وتبيّن شعائره ومناسكه([2]).
لقد
جاءت فريضة الحج بنصٍّ قرآنيّ واضح وصريح، كقوله تعالى: "وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ" (البقرة: 196). كما
قال تعالى: "وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا""
(آل عمران: 97). وورد في تفسير ابن كثير أن في هذه الآية "وجوب الحج عند
الجمهور"، وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه
وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعًا ضروريًا، وإنما يجب على المكلف في العمر
مرة واحدة بالنصّ والإجماع[3].
كما قال
تعالى: "وأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ
عَمِيقٍ" (الحج: 27). وقد جاءت هذه الآية
ضمن سياق الحوار الإلهيّ الموجّه إلى نبيّ الله إبراهيم عليه السلام، بأن يُعلم
الناس ويبلغهم بوجوب الحج على كل قادرٍ؛ ماديًا وجسديًا، بالحضور من كل الأماكن،
مهما بعدت المسافات، مشاة أو على بعير خفيف اللحم من السَّيْر والأعمال لا من
الهُزال، تعبٍ من بعد الشقّة والمسافة.
بهذا،
يكون الحج فريضة، على المسلم أن يؤديها عبادة خالصة لله سبحانه، وهي ركن من أركان
الإسلام، إلى جانب الصلاة والزكاة والصوم، لا يجوز للمسلم أن يجادل فيها، بل عليه
أن يؤمن به إيمانًا تامًّا حتى وإن لم يستطع القيام به؛ لسبب ماديّ أو جسديّ.
مناسك الحج في القرآن الكريم:
كما
هو الحال في العبادات الأخرى، جاء وصف مناسك الحج وأعماله، وفق نصوص قرآنيّة صريحة
لا تحتمل التأويل، منها الآية (196) من سورة البقرة التي تبيّن أنه لكي يتمّ الحج
والعمرة لله تعالى، يجب القيام بالأعمال التالية:
الأول: وجوب الحج والعمرة, وفرضيتهما.
الثاني: وجوب إتمامهما بأركانهما, وواجباتهما, التي قد دل عليها فعل
النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: "خذوا عني مناسككم".
الثالث: أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة.
الرابع: أن الحج والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما, ولو كانا نفلا.
الخامس: الأمر بإتقانهما وإحسانهما, وهذا قدر زائد على فعل ما يلزم لهما.
السادس: وفيه الأمر بإخلاصهما لله تعالى.
السابع: أنه لا يخرج المحرم بهما بشيء من الأشياء حتى يكملهما, إلا بما
استثناه الله, وهو الحصر؛ أي المنع من الوصول إلى البيت لتكميلهما, بمرض, أو
ضلالة, أو عدو, ونحو ذلك من أنواع الحصر, وحينئذ: اذبحوا ما استيسر من الهدي, وهو
سبع بدنة, أو سبع بقرة, أو شاة يذبحها المحصر, ويحلق ويحل من إحرامه بسبب الحصر.
وبعد الانتهاء من مناسك الحج، تأتي
أوامره سبحانه وتعالى في قوله: "فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ
أَشَدَّ ذِكْرًا" (البقرة:
200). أي إذا أتممتم عبادتكم، وفرغتم من أعمال الحج، فأكثروا من ذكر الله
والثناء عليه، مثل ذكركم مفاخر آبائكم وأعظم من ذلك. وبالمقارنة مع قوله تعالى: "فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ
جُنُوبِكُمْ" (النساء: 103)،
نستنتج أن الحج كعبادة وكركن معادل لعبادة الصلاة، يُستكمَل وينتهي بقضاء جميع
المناسك والأعمال التي أمر الله سبحانه وتعالى.
أي أن القرآن الكريم أتى لنا بتفاصيل دقيقة
لمناسك الحج وأعماله، مما يجب على الحاج القيام بها، من إعداد واستعداد قبل الحج،
وما يتبع الحج من استكمال لتلك المناسك، لتشكل، في مجموعها تنفيذًا تامًا وكاملًا
لركن من أركان الإسلام الحنيف. وتؤدى مناسك الحج في الأيام الستة التالية([4]):
أولًا: اليوم
الثامن من ذي الحجة، ويسمى يوم التروية.
ثانيًا: اليوم التاسع من ذي الحجة: وهو يوم الوقوف بعرفة، ثم الـمبيت بمزدلفة.
ثالثًا: اليوم العاشر من ذي الحجة: وهو يوم عيد الأضحى أو
يوم النحر.
رابعًا،
وخامسًا: اليوم الحادي عشر،
واليوم الثاني عشر من ذي الحجة، وهذان اليومان هما أول وثاني أيام التشريق، وهما
أيضًا ثاني وثالث أيام العيد.
سادسًا: اليوم
الثالث عشر من ذي الحجة:
ثالث أيام التشريق (رابع يوم العيد).
النحر في القرآن الكريم:
النحر؛ هو أحد شعائر الحج أو مناسكه، والذي
يتم يوم العاشر من ذي الحجة –يوم عيد الأضحى المبارك-. يقول
تعالى: "وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ
فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ
وَالْمُعْتَرَّ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا
لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (الحج: 36). وورد في التفسير الميسّر لهذه الآية الكريمة: وجعلنا لكم نَحْرَ البُدْن من شعائر الدين وأعلامه؛ لتتقربوا بها إلى
الله، لكم فيها- أيها المتقربون -خير في منافعها من الأكل والصدقة والثواب والأجر،
فقولوا عند ذبحها: بسم الله.
أماكن الحج
في القرآن الكريم:
لقد وردت الإشارة إلى الكعبة المشرّفة ومكّة
المكرّمة، كأماكن تحتضن مناسك الحج وأعماله. فهناك إشارة إلى الكعبة المشرّفة في
قوله تعالى: "وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى
وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" (البقرة:
125). وفي ذلك تأكيد على أن الكعبة المشرفة مرجعًا لأمة الإسلام ومجمعًا لهم في
الحج والعمرة والطواف والصلاة، وأمنًا لهم لا يُغير عليهم عدو فيه.
كما
يقول تعالى: "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ
مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه
غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" (آل عمران: 96-97). وفي تفسير ابن
كثير لهاتيْن الآيتيْن الكريمتيْن: هذا البيت مبارك تضاعف فيه الحسنات، وتتنزل فيه
الرحمات، وفي استقباله في الصلاة، وقصده لأداء الحج والعمرة، صلاح وهداية للناس
أجمعين. كما أن فيه هذا البيت دلالات ظاهرات أنه من بناء إبراهيم، وأن الله عظَّمه
وشرَّفه، منها: مقام إبراهيم عليه السلام، وهو الحَجَر الذي كان يقف عليه حين كان
يرفع القواعد من البيت هو وابنه إسماعيل، ومن دخل هذا البيت أَمِنَ على نفسه فلا
يناله أحد بسوء. وقد أوجب الله على المستطيع من الناس في أي مكان قَصْدَ هذا البيت
لأداء مناسك الحج.
الخلاصة
نستنتج مما سبق أن الحج، الذي هو ركنٌ من
أركان الإسلام الخمسة، هو فريضة من لدن خالق السماوات والأرض، جاء القرآن الكريم
بمناسكها وآدابها وقوانينها –الشرعيّة- وسننها، وقد أحاط القرآن الكريم بها إحاطة
شاملة، تضمنت شروحات وتفاصيل تتعلق بأعمال الحج، كما أكّد على أهميّة الكعبة
المشرّفة ومكة المكرّمة –المكان الذي تؤدى فيه الشعائر- في حياة الأمة، بل
وقدسيّتهما، بما يشكّل امتدادًا لسنن الأولين من نبيّ الله إبراهيم وإبنه إسماعيل
عليهما السلام، مصداقًا لقوله تعالى: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (البقرة: 127). ومن جحد فريضة الحج –والعياذ
بالله- فقد كفر، والله غني عنه وعن حجِّه وعمله، وعن سائر خَلْقه.
فلسطين،
بيت لحم، العبيدية، 18/08/2018م
[1] انظر: سورة الحج، الآيات: 25-37.
[2] انظر: سورة البقرة، الآيات: 128، 158، 196-203.
[3] تفسير ابن كثير للقرآن
العظيم. تحقيق: سامي بن محمد السلامة. الجزء الثاني. دار طيبة للنشر والتوزيع.
الرياض. المملكة العربية السعوديّة. ص: 81.
[4] انظر: شبكة الألوكة، وفق
الرابط (أمكن الوصول إليه بتاريخ: 23/04/2018م):
إرسال تعليق Blogger Facebook